بينما تشهد سورية مجزرة تشيب لها الولدان، ويقف العالم من هولها على أطرافه، يلتفت إلى «الأممالمتحدة» و«المحكمة الجنائية الدولية» لفعل شيء، إذا بالسيد «مورينو أوكامبو»، المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، يفاجئ العالم يوم الأول من مارس الجاري بالإعلان عن مذكرة اعتقال بحق وزير الدفاع السوداني الجنرال «عبدالرحيم محمد حسين»، متهماً إياه بارتكاب جرائم حرب في إقليم دارفور السوداني في الفترة من أغسطس 2003 إلى مارس 2004م، واليوم - كما يتابع العالم - فإن الموقف هادئ في درافور منذ سقوط نظام «القذافي» الداعم الأكبر لحركات التمرد هناك، ثم تشتت حركات التمرد الكبرى.. وكان الأولى ب«أوكامبو» أن يسهم في دعم هذا الهدوء والاستقرار بدلاً من إشعال الموقف، ويتسبب بإعلانه هذا في تفجير الأوضاع من جديد، لكن الرجل يبدو أنه مصاب بحالة من «الحَوَل» السياسي بشأن ما يجري في الساحة الدولية. مَنْ الأَوْلى اليوم بمذكرة اعتقال من «أوكامبو»: وزير الدفاع السوداني، أم نظام «بشار الأسد» الذي يقتل على مدار عام كامل شعباً بأكمله؟! لكن «أوكامبو» عوَّد العالم على لفت الانتباه عن جرائم إبادة شعوب بأكلمها بلفت الانتباه إلى السودان، فبينما كان الرئيس الأمريكي «جورج بوش» الابن يقوم بعملية إبادة للشعبين العراقي والأفغاني عبر احتلال دموي مخالف لكل الأعراف والشرائع الدولية والسماوية، فاجأ «أوكامبو» العالم بالإعلان عن مذكرة اعتقال بحق الرئيس السوداني «عمر البشير»، متهماً إياه بارتكاب جرائم حرب في دارفور.. بالطبع لم تتحرك المحكمة الجنائية الدولية قيد أنملة بشأن جرائم الحرب التي وقعت في العراق وأفغانستان وغزة؛ لأن المجرم هنا هو الولايات المتحدة والكيان الصهيوني، ولم تتحرك نحو جزَّار دمشق؛ لأنه مازال هناك أمل صهيوني أمريكي في بقائه حارساً للحدود السورية مع الكيان الغاصب.. نظامٌ لم يطلق «طوبة» من مقلاع على قوات الاحتلال في الجولان منذ احتلالها عام 1967م.. هل يأتي نظام أفضل منه للكيان الصهيوني؟! المسألة في استهداف «أوكامبو» للسودان ليس انتصاراً لحقوق الإنسان في دارفور أبداً، ولكنه جاء في إطار مخطط أمريكي غربي لإضعاف السودان وتمزيقه ثم الاستحواذ عليه وعلى ثرواته، وقد تمت الخطوة الأولى بتمزيق السودان إلى دولتين، ومازالت محاولات التمزيق سارية، وتفعيل قضية دارفور بل وإشعالها سيراً في هذا الاتجاه.. لو كان الغرب وأمريكا والمنظمات الدولية التي تخدِّم على سياساتها تسعى للاستقرار والوئام في الدول؛ لألقت بثقلها لدعم مفاوضات السلام في دارفور، ولقدمت مساعداتها الإنسانية والإغاثية والتنموية خالصة لتحسين الوضع المتردي هناك، ولكنها اتخذت حتى من تلك المساعدات غطاءً للتجسس وممارسة التنصير على شعب مسلم مائة في المائة! ويجدر بي هنا أن أعود إلى التذكير بقضية إنسانية وقعت بشأن سرقة أطفال من دارفور في تشاد، حيث تم ضبط واحدة من أخطر عمليات الاتجار في أطفال دارفور أو تشاد، (المهم أنهم مسلمون)، ومن أول القصة حتى نهايتها تابعنا حالة الاستخفاف بنا كعرب ومسلمين وبأطفالنا، وكيف تصبح الجريمة أمراً طبيعياً إذا كان الجاني غربياً والمجني عليه مسلماً، وكيف يتحول المجرم إلى شريف يستحق التقدير والاهتمام، بينما المجني عليه يُترك ليأكل نفسه كمداً وغيظاً!! الجريمة واضحة ومتكاملة الأركان، فبينما كانت الطائرة المستأجرة من قبل منظمة «أرش دو زوي» الفرنسية العاملة في دارفور تحت شعار العمل الإغاثي تستعد للإقلاع وعلى متنها 103 أطفال من دارفور تم بيعهم بالفعل لأسر من فرنسا وبلجيكا، (مقابل من 4000 - 8600 دولار)، انكشف أمر العملية وتم ضبط الجريمة والقبض على الخاطفين، وهم ثلاثة من الصحفيين الفرنسيين، وستة من العاملين بالمنظمة، وسبعة إسبان هم طاقم الطائرة، إضافة لطيار بلجيكي، واثنين من تشاد. يومها تحركت الدولة الفرنسية ممثلة في رئيسها «ساركوزي» الذي لم يجد مفراً من الاعتراف بالجريمة، ولم يتردد وهو يطالب علناً بحلٍّ «يحفظ ماء الوجه»، ثم وصوله فجأة إلى تشاد ليصطحب المجرمين في طائرته الخاصة، مسمياً «الجريمة» ب«المغامرة المؤسفة»، واعترف القضاة التشاديون بأنهم وقعوا تحت ضغوط سياسية قوية من قمة الدولة التشادية! وهكذا انتهى الأمر، وأُسدل الستار على جريمة متكاملة الأركان، ولم يتم التحقيق في القضية في فرنسا كما وعد «ساركوزي»، بل إن الموضوع لم يتذكره الكثيرون.. فأين احترام القانون؟! والأنكى.. أن السلطات الفرنسية كانت تعلم بتفاصيل تلك الجريمة قبل عدة أشهر، وفق ما كشفته المعلومات. إن هذه الحادثة تفضح كل الشعارات والتحركات والخطب والمؤتمرات التي ترعاها فرنسا بالتعاون مع واشنطن، ويتم من خلالها الحديث بكثافة عن حقوق الإنسان في دارفور، وتنطلق منها صواريخ الإدانة والتهديد والابتزاز للحكومة السودانية بصفتها - في عرفهم - تنتهك حق الإنسان هناك.. فمن يصدق فرنسا - بل الغرب جميعاً - إذا تباكوا على حقوق الإنسان في بلادنا؟ إنهم يريدون إخلاء دارفور - بل وبلادنا كلها إن استطاعوا - لتقع بين أنيابهم ومن ثم يتاجرون بكل شيء فيها. -------------------------------------------------------- (*) كاتب مصري- مدير تحرير مجلة المجتمع الكويتية