1. للفلاسفة والمفكرين منزلة كبرى.. هم المراجع لأنهم منارات العقل وأدلّة الاستدلال وأعوان الأمّة على صعوباتها.. ينفقون من أعمارهم في محاريب المعرفة ويجاهدون في سبيل إماطة الأذى عن العقول يزحزحونها عن جهلها ويسعون في تنويرها وتحريرها من كوابحها.. عليهم المعوَّل في تنوير الأفهام وتصحيح التصورات.. يُحسب لهم جهدهم وتشهد لهم معارفهم يحدّون بها من الجهالة ويردّون بها من الضلالة.. رعاة الأدب ومعلّمو القرائح... 2. يوسف الصدّيق مفكر تونسيّ من تلك النخبة التي جمعت بين الفكر الديني التقليدي الذي أساسه القرآن الكريم والفكر الفلسفي كما أنتجته المدرسة الفرنسيّة... فيلسوف وشاعر وأنتروبولوجي تعرفه الدوائر الثقافية الفرنسية كما لا يعرفه التونسيون.. ويحتفي به الفرنسيون باعتبار نسبته المزدوجة التي تغريهم.. فهو عربيّ المنطَلَق فرنسيّ الثقافة والهوى والمنتهى.. شغله الشاغل النصّ والوحي.. أوّل من قرأ القرآن في تاريخ القرآن.. قرأه كما لم يفعل السلف وفهمه كما لم يفهم الخلف.. رتّله كما لم يفعل محمّد النبيّ نفسه.. أو هكذا يزعم وقد ذهب في وهمه أنه يتيم دهره وخريد عصره.. سيّد الفهم المقدَّم وربّان العقل المدبّر... 3. بعد الثورة خرج يوسف الصدّيق من العمق وطفا على السطح.. ظهر على شاشة الشطح.. نعم الشطح.. قناة من تلك القنوات التي تُعرف في بعض التسميات بتلفزيون الواقع.. كانت فيما مضى ساحة للشطح والردح والمدح.. تأكل من فتات أب بيولوجيّ لم ينعم غيرها بمثيل حنانه.. أدمنته حتى صارت بعد سقوطه تستهدف الثأر له من الثورة ومن سادتها وقادتها ممّن نسخوه وهشّموا ما رسمت له من صورته ولذلك بُعثت.. قناة اختارت أن تكون رأس حربة للثورة المضادّة.. تسعى في البلاد كذبا وتشويها وتشويشا كما كانت تسعى من قبل في إفساد الذائقة العامّة ترجمةً لسياسة تجفيف الينابيع.. قناة أشبه ما تكون عندي بحاطب الليل الذي إن أصاب في بعض الحين سِمَنًا، وقلّما يحالفه الصواب، فمن عند الصدفة العمياء.. 4. ركب العلاّمة يوسف الصدّيق تلك الأحصنة التونسية الهجينة من بنات "نسمة" ليثير من اللغط ما تريد له أن يثير، كما لو كان ترك عقله في فرنسا ورضي بأن يكون ألعوبةً بأيدي الصبيان.. اضطربت به تلك الأحصنة فتهاوت حصون عقله وسقط القناع عن اسم ظللنا نمنّي النفس بلقياه زمنا رغبة منّا في الإفادة من مفكّر رصين يستفزّ عقولنا ويزيل من كسلها ويحملنا على الفكر القويم بعيدا عن الدوغمائيّة ودعائمها.. ولقد نجحت قناة السطح تلك في الكشف عن سذاجة الرجل وتعرية تهافته وبيان تفاهته.. فألفينا بفعلها شهادةً تسعى على انفصال الفكر عن صاحب الفكر.. شهادةً على من يقول العبرة ولا يكاد يعتبر.. كالعيسِ في البيداء يقتلها الظمأ ... والماءُ فوق ظهورها محمولُ 5. رأينا كيف ينخفض ميزان المثقف متى تصدّى للشأن العام بغير أدواته وتهافت على الأضواء وأعشت بصرَه الصورة وظهر بمظهر تضيق فيه دائرة اختياره بعد أن أوسعتها المدارج والكتب.. ما أسوأ أن يتحوّل المثقّف إلى لعبة يتسلّى بها الصبيان والأشباه يلتقطون صورا بجنبها فتسقط ولا يرتفعون.. ما أسرع السقوط إلى من علم ولم يعمل بعلمه.. سقوط من تضيق الأعذار عنه إذ يلتبس العقل بالهوى... 6. ورأينا كيف أنّ فيلسوفنا درس الفلسفة ودرّسها وأبحر في علوم الدنيا والآخرة ولكنّه ظلّ جاهلا بالمقامات.. لم يتعلّم قاعدة عربيّة تقول "لكل مقام مقال، ولكل فعل أوان، وفي حفظ الحدود استمرار الموجود، على ما هو به موجود".. ولو تعلّمها لما خبط خبط عشواء.. 7. لن أناقش الرجل في معارفه ولست في وارد التشكيك في قدراته المعرفية ولكنني شاهدته على شاشة تونسية خاصّة يجيب عن أسئلة مذيع بها.. فتجلّى لي من قوله ما أثار استغرابي بل استهجاني.. إذ الرجل مفكّر.. والمفكر يتّصف في نظري ببعض الرقيّ بفضل مبلغه من منازل العلم والأدب.. والمفكّر يتميّز بالقدرة على حسن اختيار العبارة يكشف بها فكره.. ولكنني عندما سمعت بعض لفظ الرجل علمت أنّ العلم قد يهجره الأدب فيكون ضربا من الركاكة.. لقد رأيت رجلاً لا يتورّع عن سبّ من يرى فيهم خصوما له بعبارات يُفترض أن تغيب عن الشارع من قبيل عبارة "بهيم" وعبارة "خنفوسة".. 8. ما البهيم يا شيخ المعرفة؟ ومتى يكون البهيم بهيما؟ وما الخنفوسة؟ ومتى يتقهقر المرء في بعيد نظرك فيكون خنفوسة؟ وهل تعرف الفلسفة منطق الخنافس؟ وهل لها قول في شأن البهائم؟ أم ترى العبارة تتلبس ناطقها فيكونها وتكونه عندها تتوحّد الذات والصفات... 9. لقد رأيت رجلاً موتورًا لا يعبّر بما يقول عن عمق فكريّ ولا عن تكوين فلسفيّ.. ذلك أنّ الفلسفة كما علّمتنا أبجديتها هي حبّ الحكمة.. أما صاحبنا فبدا خفيف الميزان سريع الانفعال كثير زلاّت اللسان.. إذا مدح استعمل عبارة "خشين" وإذا قدح حضرت على لسانه البهائم والخنافس وما يُشتقّ منهما.. وإذا اعتذر قال "خرجت على سينتي".. فما سينتك سيدي؟ وما مواعيد دخولك إليها؟ وما مواعيد الخروج؟.. أم تراك كمجنون بني عجل، تُصرع في كل يوم مرتين؟ 10. إذا كان نطق اللسان منبئا عن اعتقاد الإنسان وإذا استدللنا على صاحبنا بلسانه أدركنا أنّ تفكيره ادّعاء وفلسفته زيف.. فلا لسان له سؤول ولا قلب له عقول.. رحم الله رجلاً عرف قدره...