لست أتحدّث عن ام جميل, أروى بنت حرب, أخت أبي سفيان, زوجة ابو لهب عمّ النبي صلى الله عليه وسلّم, التي كانت تحْمل الشَّوك، وتضَعُه في طريق النبِيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وعلى بابه ليلاً، وقد كانت امرأةً سليطةً تبسط فيه لسانَها، وتطيل عليه الافتراءَ والدسَّ، وتؤجِّج نار الفِتْنة، وتثير حربًا شعواءَ ضدّه. والتي كان زوجها يمشي خلف الرسول ويقول للناس, لا تُصَدِّقوه فإنَّه كذَّاب، لا تصدِّقوه فإنه ساحر. والتي كان ابنها عتيبة ابن ابي لهب, بعد تحريض منها, من أشد الإيذاء الى رسول الله, اذ ذهب اليه ذات مرّة وقال يا محمَّد: أنا أَكْفر ب ﴿ النَّجْمِ إِذَا هَوَى ﴾ وبالذي ﴿ دَنَا فَتَدَلَّى ﴾، ثم تَسلَّط عليه بالأذى، وشقَّ قميصه، وتَفَل في وجْهِه - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلاَّ أن البصاق لَم يقَعْ عليه. الزمن ليس بالزمن, والمكان ليس بالمكان, والأشخاص ليسوا مثل اولئك الأشخاص, ولكن الفكرة واحدة, ظاهرها منطق وجوهرها باطل, نفس الفكرة تدور وكأنها تلك, انا ضدك, سأسقط, سأكذبك سأؤذيك, والأذية هنا مؤلمة, لأنها سوف لن يجني نارها من يحكم, ولكن ستعود بالويل والثبور على الدولة, وعلى اولئك الفقراء المساكين المعدمين, الذين دفعوا من دمائهم ومن اجسادهم من أجل حرية هذا البلد, في ثورة لم يتوقعها أحد حتى و وان لم تستجب للمفاهيم الأكاديمية للثورات. كان من المنطق بعد سقوط الطاغية ان يتساوى الجميع ويتواضع المتجبرون, وان تفرز الانتخابات شريحة ما, لا يهم ما لونها ولا شكلها, شرط ان تكون مؤمنة بالتغيير ومؤسسة لانتقال ثوري يتماهى مع اهداف الجماهير, من حرية وعدالة اجتماعية وكرامة, وعلى الباقي الذين لم تفرزهم الصناديق ان ينصهروا في مشروع الثورة وتصويبه نحو الهدف المنشود. ولكن مفاجأة الصندوق, او صندوق حكم الشعب, الذي اخرج الكثير من حلبة دائرة الحكم, جعل منهم حمالة الحطب, او هم كانوا كذلك. منذ الشهر الأول, تمّ الحكم على هذه الحكومة بالفشل, ونادى البعض بإسقاطها, وهو منطق سريالي لا ينطق مع التفسير السياسي ولا الاجتماعي لتقييم عمل حكومة ورثت قناطير مقنطرة من الفساد وخللا مريعا في دواليب الاقتصاد, وخلطا في المفاهيم وشللا في منظومة القيم. الذين لم تفرزهم الصناديق ليحكموا, رفضوا الآلية الديمقراطية, من أجل ان يحكموا هم. عندما أدار الفقراء والمعدمين رحى هذه الثورة, وقتلوا كالأبطال واقفين, ظن الجميع بان كل الساسة بدون استثناء, ستكون لهم الكلمة الفصل, في جعل اولوية الأولويات, الخبز والكرامة والحرية, وتحول المشهد الى صراع جذب مع الحكومة, والفقراء خرجوا من دائرة اهتمام حمّالة الحطب, فأشعلوا النار في كل مكان, زيادة الأجور, مضاعفة المنح, والناس في بلادي يموتون عطشا منذ عقود ويموتون جوعا منذ أزمنة, والشباب قد سقط في الجريمة, لأن لا باب امامه لقوت يوم. واعتقدنا بان الفساد وشهود الزور سيحاسبون, وصمتت الحكومة, فأثخناها جراحا لهذا الصمت المريب, فكيف يبقى في بلادنا مفسدون في مواقعهم وفي مواقع متقدم من الحكم, ورأينا بان بعض من المحامين يقفون اسودا أشاوس للدفاع عن قتلة الشهداء, ورأينا قضاة يبرؤون آل الطرابلسي فردا فردا, فحسبنا بان الشعب هو الذي كان يسرق, وأن الشهداء خرجوا لانتحار جماعي بأيديهم وبقرار منهم. تحركت الحكومة في بعض المواقع لضرب المفسدين, فتحرك حمّالة الحطب للدفاع عنهم, وجعلوا منهم ضحايا للحكم الاستبدادي الجديد, الحكم الذي فكّر بان يخلص البلاد من طواغيت لا يزالون يقبعون على رؤوسنا. رؤوس الفتنة, حمالة الحطب, لا يحملون في جرابهم سوى حلم بالحكم حتى وان سقطوا بآليات الديمقراطية التي يدافعون عنها, فتوجهوا مباشرة للتحالف المشبوه مع قوى الردّة المفترضة أصلا, الذين خلعوا من الحكم والفاسدون الذين يبحثون عن مخرج لعدم محاسبتهم حتى ولو بعودة الذين أطردا من البلاد. في الانتخابات الأولى لساركوزي, امام منافسته الشرسة رويال, تقدّم الجميع ببرامجه, ليقنع الناخبين, وقد تفوقت رويال في شحذ الجماهير وراءها, ذهب ساركوزي الى مستشاريه طالبا النجدة, فأشاروا اليه بان منافسته تحمل عيبا واضحا, ألا وهو سرعة الغضب, وعليه نصحوه بان يقوم باستفزازها في آخر مناظرة تلفزية مباشرة قبل الانتخابات, وبالفعل وفي خلال الحصة كان صبر الآراء يرتفع لصالح رويال, الى ان جاءت الفرصة لساركوزي لينال من منافسته بالاستفزاز, فاستشاطت غضبا, وفي لحظات تحول التصويت الى صالح ساركوزي بعد ان قال لها, سيدة مثلك عصبية المزاح لا تستطيع حكم دولة مثل فرنسا فقد تدخلها في حرب لمجرد موقف بسيط. وسقطت رويال في الانتخابات, وهنأت خصمها على انتصاره, ثم عادت الى حزبها للعمل والنقد البناء, ولم تخرج لبث الفوضى وزرع الفتنة بين الفقراء والمهمشين. حمّالة الحطب, هم الآن في صفّ أعداء الثورة, أو هم أعداء الثورة, لأنهم يقفون حائلا امام وصول الفقراء الى أهداف ثورتهم, تحقيق التنمية, الشغل, الكرامة, التمتع الماء الصالح للشراب والتنوير العمومي, فقط يكفي بان نقول بان مجموعة منّا سيغلقون البلد لمدّة يومين من أجل الزيادة في منحة, قد تكون الدولة الجريحة غير قادرة على دفعها في مثل هذه الظروف. والمعركة القادمة ستكون حتما بين الفقراء وحمّالة الحطب, ودائما ينتصر الفقراء. 30/05/2012