يعبر شعار اللائكية/ العلمانية عن أحد الإشكالات الفكرية والسياسية المطروحة بقوة داخل واقعنا الثقافي والسياسي المعاصر. وثمة رؤية شائعة سواء عند المدافعين عنها أو عند المناهضين لها تختزلها في كونها فصلا للدين عن السياسة، بينما هي في حقيقتها تتجاوز هذا المستوى الإجرائي الشكلي، حيث إنها فكرة شاملة ومشروع يحدد «رؤية إلى العالم» بكل ما يحمله الاصطلاح من بعد عقدي وفلسفي شامل. وككل الأنساق الثقافية الغربية فإنها تستلزم منا الوقوف موقفا منهجيا يبدأ أولا بدراسة السياق التاريخي لنشأتها قبل البث في مدى صلاحيتها كمشروع مجتمعي. فهي إيديولوجية نشأت في سياق تاريخي خاص، وارتبطت بالميراث الفكري للغرب وإشكالاته الواقعية. ومن هنا تغدو مقاربتها بالمنظور التاريخي ليس من باب الترف بل هي أمر واجب لفهمها أولا وتصحيح الرؤية إليها ثانيا. وأرى أن تشغيل هذا المنظور المنهجي التاريخي يؤدي -في تقديري- إلى الاقتناع بكونها نتاج صيرورة تاريخية خاصة، ومن ثم فهي ليست بالضرورة معالجة قابلة للنقل والاستنساخ. لكن لا نستبق الحكم بل لنجعله أطروحة موضوعة للاختبار والاستدلال، فأقول: من المعلوم أن جورج هوليوك كان أول من سك لفظ العلمانية كمصطلح ذي مدلول محدد، وذلك في منتصف القرن التاسع عشر، وبالضبط سنة 1851م، وقد لخص محدداتها في: «العلم كدليل حقيقي للإنسان، والقيم كمصدر دنيوي وأرضي لا ديني، والبرهان المنطقي كسلطة وحيدة، وحرية الفكر والرأي كأساس للعيش، توجه وتصوب جهودنا للحياة التي نعيشها فقط». واضح من خلال هذا التعريف الطابع الرؤيوي الأيديولوجي الشامل للفكرة العلمانية. وهذا الشمول في الطرح يختزل مجموعة من التراكمات الثقافية التي شهدها سياق التاريخ الأوروبي. لهذا يغدو التوقف عند سؤال النشأة والصيرورة ضروريا. فكيف نشأت العلمانية؟ وما الشروط الثقافية والمجتمعية التي أدت إلى بروزها؟ ليست العلمانية فكرة طارئة أو نتاج حدس انبجس فجأة في ذهن فيلسوف؛ وما سك جورج هوليوك للمفهوم سوى وصف لظاهرة ثقافية ومجتمعية كانت آخذت في الهيمنة على بنيات المجتمع، وليس تنظيرا يعبر عن مطلب، بل إن الكيان الثقافي والحضاري الغربي -في تقديري- هو من حيث طبيعته كان مهيئا لانبثاق وتشكل الأيديولوجية العلمانية قبل عصر الحداثة. ولهذا نجد عديدا من الباحثين، ينتمون إلى تيارات فكرية متباينة مثل الجابري وحسن حنفي والشيخ القرضاوي وعماد الدين خليل.. وغيرهم يؤكدون على كون العلمانية نتاجا خاصا بالتجربة الغربية وإفرازا لصيرورتها التاريخية. لكنني لاحظت أن الأستاذ الجابري وكذا الشيخ القرضاوي.. مثلهما مثل العديد من الدارسين والكتاب يرجعان شروط انبثاق العلمانية إلى الدين المسيحي وتجربته الكنسية، معتمدين على كون المرجعية الدينية التي هيمنت على التاريخ الغربي كانت هي المرجعية المسيحية التي فصلت بين الروحي والدنيوي، حيث جعلت «ما لقيصر لقيصر وما لله لله»، بحسب التعبير الشائع المنسوب للمسيح عليه السلام. بل وصل الأمر ببعض الباحثين إلى اعتبار السيد المسيح أول من زرع بذور العلمانية، بحسب هذه المقولة، مع أن سياق ورودها لا يفيد العلمنة، لأنها كانت تعقيبا للخروج من مأزق مع الحاكم الروماني أراد اليهود أن يوقعوه فيه، حيث نقرأ في سفر متى: «حينئذ ذهب الفريسيون وتشاوروا لكي يصطادوه بكلمة. فأرسلوا إليه تلاميذهم مع الهيرودسيين قائلين يا معلم.. أيجوز أن تعطى جزية لقيصر أم لا؟ فعلم يسوع خبثهم وقال لماذا تجربونني يا مراؤون. أروني معاملة الجزية. فقدموا له دينارا. فقال لهم لمن هذه الصورة والكتابة؟ قالوا له لقيصر. فقال لهم أعطوا إذا ما لقيصر لقيصر وما لله لله. فلما سمعوا تعجبوا وتركوه ومضوا». فهل يصح إرجاع العلمانية إلى المسيح؟ العرب القطرية 2009-06-26