البلدة القديمة (نابلس)رائحة الدماء تنبعث من أركان الزقاق.. تفترش الأرض شظايا الدمار التي تهاوت من المنزل التاريخي الذي التهمت النيران أجزاء منه.. دموع الأمهات والزوجات والأبناء تنسال لتمتزج بصرخات الحزن التي لم تغادر يوما البلدة القديمة لمدينة نابلس بالضفة الغربيةالمحتلة منذ احتلتها إسرائيل.تلك هي بعض مفردات الصورة التي سادت البلدة القديمة بعد اغتيال قوات الاحتلال الإسرائيلي فجر السبت 26-12-2009 ثلاثة من كوادر كتائب شهداء الأقصى، الجناح العسكري لحركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح)، بزعامة الرئيس محمود عباس، بزعم مسئوليتهم عن مقتل مستوطن إسرائيلي في الضفة أول أمس. فمع ساعات الفجر الأولى، وتحديدا نحو الرابعة فجرا، وبينما الجميع نائمون، تسللت قوات من جيش الاحتلال معززة بنحو 50 آلية وجرافة، وهاجمت ثلاثة منازل في حيي القصبة ورأس العين؛ ما أودى بحياة كل من رائد السركجي (38 عاما)، وغسان أبو شرخ (39 عاما) وعنان صبح (33 عاما) عبر إطلاق الرصاص عليهم أمام أسرهم، بحسب شهود عيان. هند السركجي كانت، كما باقي أفراد أسرتها، تغط في النوم، لكن فجأة تعالى الصراخ ليمتزج بصوت أزيز الرصاص الكثيف، وتقول: "شعرت أنني صحوت على كابوس.. استيقظت على صوت الرصاص الكثيف والصراخ". وتضيف بينما دموعها تنسال لتغرق وجهها: "ما إن نهضت حتى أخبرني الجميع أن الاحتلال يداهم منزل خالي رائد.. لم نتمكن من مغادرة منزلنا، انتظرنا نحو ساعتين، ثم أسرعنا باتجاه المنزل، فإذا به (خالي) ملقى على الأرض والدماء تنزف منه". الطفل المنتظر وما بين الحزن على الزوج والأمل في الطفل المنتظر تصارع تهاني السركجي زوجة الشهيد رائد آلام الإصابة التي تعرضت لها هي الأخرى خلال جريمة اغتيال زوجها التي وقعت أمام عينيها. ومن على سرير المستشفى حيث ترقد للعلاج تقول تهاني: "قبل أن ننام كنا نتجادل على الاسم الذي سنطلقه على مولودنا الجديد، فأنا حامل، وهو (رائد) كان سعيدا للغاية بهذا الحمل، وكنا نستعد لقدومه إلينا بعد أشهر قليلة". تتبعثر حروفها كما هي أحلامها بعد استشهاد زوجها، لكنها تعود فتتماسك قائلة: "صرخوا على رائد وطلبوا منه الخروج، فخرج هو أمامنا ونحن خلفه، وما إن ظهر عليهم حتى بادروه بإطلاق الرصاص بشكل مكثف وسقط على الأرض، بينما أصبت أنا في ساقي". والسركجي هو أسير سابق لدى قوات الاحتلال، وجرى الإفراج عنه في يناير 2009، وكان يعتزم الالتحاق بصفوف الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية، وله من الأبناء اثنان، ولد وبنت. بدم بارد!! وما بين منازل عائلتي السركجي وأبو شرخ التي تتمتع بعبق تاريخي لا تخطئه العين يعم الصمت المكان، إلا من تمتمات البعض بكلمات مبهمة، مذهولين مما جرى ومستنكرين إياه، وباحثين في ذات الوقت عن أسباب ما حدث فجأة!! وفي داخل منزل عائلة الشهيد غسان أبو شرخ تجلس شقيقته دلال لتروي للجميع آلام العائلة على فراق ثاني إخوتها: "غسان ملتحق بالأجهزة الأمنية الفلسطينية، وهو أب لثلاثة أولاد وبنت، أصغرهم عمره سنتان، وقام بتسميته نايف حتى تبقى ذكرى أخيه الشهيد نايف". وتلفت إلى أن ابن خالتها الشهيد عنان صبح هو أيضا أب لخمس بنات وصبيين، ويعمل في الأجهزة الأمنية الفلسطينية، وتضيف وهي تبكي: "حرمنا الاحتلال من أخي نايف قبل نحو 5 سنوات، واليوم يحرمني من أخي الثاني". وفي تكرار لاغتيال السركجي تقول دلال بألم وحزن: "صرخوا عليه للخروج من المنزل، وما إن فتح الباب حتى أطلقوا الرصاص على رأسه مباشرة ليسقط شهيدا على الفور أمام عيني ابنه الذي خرج برفقته.. وما إن دخل الجنود المنزل حتى أطلقوا المزيد من الرصاص عليه وهو مسجى على الأرض". وعن الشهيد الثالث عنان صبح يقول شقيقه نضال إن: "العشرات من جنود الاحتلال اقتحموا المنزل فجرا.. كانوا من القوات الخاصة الإسرائيلية.. فتشوا المنزل وأطلقوا عددا كبيرا من القنابل؛ ما أشعل النيران في المخازن التي يضمها المبنى، وفيها كميات من الإسفنج وكراسي البلاستيك". ويضيف نضال: "بعد ذلك أطلقوا الكلاب في المنزل لتبحث عن أخي الذي حاول الاختباء منهم، حتى إنها نهشت من لحمه وقطعت إصبعه، ثم قاموا بالتحقيق معه، وبعد ذلك صفوه، وغادروا المكان تاركين ألسنة اللهب تلتهم جسده". خلط أوراق وتعيد اغتيالات اليوم إلى أذهان النابلسيين المشاهد التي عايشوها خلال سنوات انتفاضة الأقصى الثانية التي اندلعت في سبتمبر 2000، والتي نفذتها قوات الاحتلال الإسرائيلي بدماء باردة بحق نشطاء المقاومة، وآخرها قبل اليوم وقعت يوم 28-2-2008 في كمين قرب مقر الاستخبارات العسكرية الفلسطينية؛ حيث رصدت قوة خاصة إسرائيلية عددا من نشطاء كتائب شهداء الأقصى، وأطلقت الرصاص عليهم؛ ما أسفر عن استشهاد أحدهم واعتقال أربعة آخرين. وفي تفسيره لعودة سياسة الاغتيالات رأى المحلل السياسي الفلسطيني هاني المصري أن "الاحتلال يحاول خلط الأوراق، في محاولة لفرض الرؤية التي يرغب فيها في تثبيت الواقع الفلسطيني عقب توقف عملية المفاوضات" مع الحرب الأخيرة على قطاع غزة ما بين السابع والعشرين من ديسمبر والثامن عشر من يناير الماضيين. وأوضح المصري في حديث ل"إسلام أون لاين.نت" أن إسرائيل "لا تؤمن إلا بخيار القوة والعنف، وهي تريد استدراج الفلسطينيين إلى سلسلة جديدة من أعمال العنف حتى تخرج من أي ضغط دولي لتنفيذ التزاماتها تجاه الجانب الفلسطيني". اتهامات للسلطة واتهمت الرئاسة الفلسطينية أيضا إسرائيل بتدمير أمن واستقرار الشعب الفلسطيني، وجر الفلسطينيين إلى دوامة العنف الدموية للخروج من دائرة الضغوط الدولية المتزايدة على حكومة بنيامين نتنياهو، وتحميلها مسئولية انسداد أفق عملية السلام بسبب تعنتها ورفضها وقف سياسة الاستيطان والالتزام بمرجعيات عملية السلام. ورأت الرئاسة في بيان لها عقب الاغتيالات أن إسرائيل بارتكابها هذه "الجريمة الدموية" تسعى لتخريب النجاحات التي حققتها السلطة الوطنية في الضفة الغربية، وتدمير الهدنة في قطاع غزة من خلال العودة إلى مربع العنف والتصعيد الدموي ضد الشعب الفلسطيني، بحسب البيان. أما رئيس الوزراء الفلسطيني سلام فياض فأعرب عن قلقه من هذا التصعيد الإسرائيلي، واتهم الحكومة الإسرائيلية بمحاولة خلط الأوراق "بهدف التهرب من الاستحقاقات السياسية المطلوبة منها، خاصة المتعلقة بوقف الاجتياحات العسكرية للمناطق الفلسطينية، بالإضافة إلى ضرورة وقف الاستيطان وممارسات المستوطنين". وقد شيع الفلسطينيون جثامين الشهداء الثلاثة، ورددوا هتافات تتهم السلطة الفلسطينية بالتقصير في حماية المواطنين، وتندد بالاعتداءات الإسرائيلية، مطالبة بالثأر، بينما أعلنت حالة الحداد، وأغلقت المحال التجارية في كل أنحاء نابلس، بدعوة من لجنة التنسيق الفصائلي الفلسطيني.