ثمة تأزم تشهده العلاقات الأميركية-الإسرائيلية بعد الإهانة التي وجهتها حكومة نتنياهو لنائب الرئيس الأميركي جو بايدن. وكان ذلك من خلال الإعلان عن قرار بناء 1600 وحدة سكنية استيطانية جديدة في القدس في أثناء زيارته. في الحقيقة، كان من المفروض أن تندلع الأزمة في بضعة الأشهر الأولى من مهمة جورج ميتشل إذ أفشلها نتنياهو. وفرض تراجعاً مذلاً على إدارة أوباما، أمام إصراره العنيد على عدم وقف الاستيطان لإطلاق المفاوضات المباشرة وفقاً لمشروع ميتشل. علماً أنه تضمّن أيضاً تحقيق خطوات تطبيعية عربية. إن الخضوع المهين لموقف نتنياهو الذي يقضي بإطلاق المفاوضات مع وقف جزئي للاستيطان في الضفة الغربية مع استثناء القدس منه، هو الذي جرّأ على اتخاذ قرار الاستيطان الجديد، وأدّى إلى اندلاع الأزمة الحالية. فما دامت إدارة أوباما قد خضعت لنتنياهو تحت ضغوط اللوبي اليهودي الأميركي، فلماذا لا يكرّر هذا الخضوع بقبول بناء 1600 وحدة استيطانية جديدة في شرقي القدس؟ ولكن هذه المرة لم تسلم الجرّة، وإذ بالأزمة تندلع وبصورة غير معهودة منذ إدارة بيل كلينتون حتى اليوم. لقد اعتبرت إدارة أوباما منذ انطلاقها، وبدعم علني من قبل قيادة الجيش الأميركي، أن إجراء «تسوية للنزاع الإسرائيلي-الفلسطيني» مسألة ضرورية جداً، ويجب أن تكون سريعة، لخدمة الأهداف الأميركية. وذلك من خلال مساعدتها لأميركا في الخروج، بشروط أفضل من حربيْ العراق وأفغانستان. ولهذا جِيء بجورج ميتشل المفاوض المخضرم ليقوم بهذه المهمة. وهو الذي أنجز حلاً للأزمة الإيرلندية المستعصية. على أن حكومة نتنياهو لم تعبأ بهذه الرغبة الأميركية التي تعبّر عن مصلحة عليا يريدها الجيش قبل غيره. وقد أكدها كل من الجنرال مولين رئيس الأركان والجنرال باتريوس قائد المنطقة الوسطى إضافة إلى تأكيدات من أوباما وإدارته. بل راحت تضغط على أوباما من خلال اللوبي اليهودي الأميركي الذي راح يساومه على مشروعه للتأمين الصحي مقابل التراجع لمصلحة مشروع نتنياهو. في هذه اللحظة كان على إدارة أوباما أن تؤزّم العلاقة وتحسم أمرها. ولكنها تراجعت وأخذت معها في التراجع الرئيس محمود عباس الذي لوّح بالاستقالة. ثم رضخ من خلال مظلة مجلس وزراء الخارجية في الجامعة العربية للعودة إلى المفاوضات غير المباشرة، وبصورة مذلة لكل من الجامعة العربية (وزير خارجية سوريا وحده تحفظ) وسلطة رام الله. الأمر الذي جرّأ حكومة نتنياهو على إهانة بايدن الذي جاء ليشدّد على ضرورة إنجاح المفاوضات غير المباشرة، وبسرعة. فالقرار من قبل نتنياهو جاء ليردّ على الضغط الأميركي بضرورة الإسراع في إنجاح المفاوضات غير المباشرة. لقد أصبح تحقيق هذا الإنجاز في نظر الإدارة الأميركية مصلحة أميركية عليا بعد مسلسل الفشل الذي مُنِيَت به إدارة أوباما في سنتها الأولى، وبعد قمة دمشق ومؤتمر طهران (قمة الرئيسين السوري والإيراني وانضمام المقاومتين اللبنانية والفلسطينية لها، وامتدادها في المؤتمر الفلسطيني في طهران). جاءت قمة دمشق ومؤتمر طهران ليردّا على التهديدات العسكرية الإسرائيلية وعلى السياسات الأميركية المنحازة للكيان الصهيوني والمنخرطة في صراعات دموية مع عدد من البلدان العربية والإسلامية. وقد أدّى ذلك حين لم يجد رداً في مستواه من جانب الإدارة الأميركية والحكومة الإسرائيلية إلى مزيد من الضغط على إدارة أوباما لتحقيق إنجاز من خلال إطلاق مفاوضات سريعة وناجحة. الأمر الذي لم تدركه حكومة نتنياهو وتقدّر خطورته بالنسبة إلى المصالح الأميركية فظنت أن الوضع ما زال كما كان في السنة الأولى من عهد أوباما، فأصدرت قرارها الأهوج المتعجّل والمتعجرف ببناء 1600 وحدة استيطانية جديدة. مما وجّه صفعة إحباط لمهمة بايدن. ومن ثم كانت إهانة لا تستطيع إدارة أوباما احتمالها. فأطلقت تعليقات قاسية تستنكر الإهانة وتدين قرار الاستيطان الجديد. ولم يستطع نتنياهو امتصاص الغضب الأميركي حين اعتذر عن عدم مناسبة توقيت الإعلان عن القرار في أثناء زيارة بايدن. هذه الأزمة، بالتأكيد، ليست بسبب الإهانة، وسوء توقيت الإعلان عن القرار فحسب وإنما أيضاً تمثل تعبيراً عن غضب إدارة أوباما. لأن نتنياهو عرقل إطلاق المفاوضات وتحقيق إنجاز ما، في السنة الأولى من عهده في وقت كانت الإدارة الأميركية في أمسّ الحاجة إليهما. وقد زادت حاجتها إليهما الآن بعد مسلسل الفشل الذي مُنِيَت به في غير جبهة ومجال، والأهم بسبب التحدّي الذي أطلقته قمة دمشق وعبّر عنه مؤتمر طهران. ولهذا فإن حلّ الأزمة، بما يُرضي إدارة أوباما لا يكون بالاعتذار والتأسّف، وإنما بتسهيل مهمة جورج ميتشل في تحقيق إنجاز ما على طريق التسوية من خلال المفاوضات غير المباشرة بداية. أما إذا ركب اللوبي اليهودي الأميركي رأسه في عدم مراعاة مصلحة أميركية ملحّة، وإذا استمرّ نتنياهو على نهجه المحرج لمساعي جورج ميتشل فإن على إدارة أوباما أن تنسحب من العملية السياسية وتعلن فشلها إذا لم تستطع ممارسة الضغوط التي تلوي ذراع نتنياهو، أو تفرض عليه تغيير تحالفاته أو اللجوء إلى انتخابات برلمانية جديدة. هذا وضع لم يسبق له مثيل في تاريخ الكيان الصهيوني أو تاريخ أميركا في المنطقة منذ منتصف القرن العشرين المنصرم حتى الآن: الضعف الشديد في الحرب (العراق وأفغانستان ولبنان وقطاع غزة)، والارتباك الشديد في السياسة (سوء تقدير في تحديد الأولويات وتخبّط في الردّ على التحديّات وإدارة الصراع). بكلمة أخرى، لم يعد لديهما استراتيجية. فلا هي استراتيجية حرب ولا استراتيجية سلم، ولا استراتيجية لا حرب ولا سلم. ولا هي في التكتيك: بيع بالمفرّق من دون خسارة. ولا حتى في صفقة واحدة. صحيح أن الأزمة الراهنة ستجد لها حلاً بهذه الطريقة أو تلك. ولكن ليس بلا جراح نفسية ومعنوية وسياسية. فما دامت العلاقة الأميركية-الإسرائيلية استراتيجية وعضوية إلى حد التماهي فلا مفرّ من رأب الصدع. ولهذا لا يراهننّ أحد من الفلسطينيين والعرب على هذه الأزمة، فيذهب إلى تقديم التنازلات بدلاً من إعادة النظر في كامل السياسة الرسمية الفلسطينية والعربية في التعلق بالتسوية والرهان على أميركا. إن رأب الصدع هنا سيعيد المياه إلى مجاريها بين الحليفيْن مهما كان الشكل الذي سينتهي إليه، إذ سيعودان علينا بالحلّ التصفوي للقضية الفلسطينية لا محالة: «حلّ الدولتين» عن طريق اتفاق تخرج به المفاوضات المباشرة. وهذا لا علاقة له بأسباب الأزمة الراهنة التي لم تمسّ جوهر القضية. بما في ذلك تكريس ما تم من استيطان وتهويد. تبقى نقطة إيجابية وحيدة من اندلاع هذه الأزمة تكمن في آثارها السلبية على سمعة الكيان الصهيوني لدى الرأي العام الأميركي والأوروبي. فقد جاءت لتزيد من تآكل الصورة المزيّفة التي رسمها الكيان لنفسه، فتبرز صورة الكيان الذي يسلب أرض الفلسطينيين إلى جانب صورة الكيان الذي يرتكب جرائم حرب وإبادة بحق الفلسطينيين. وهذا التآكل سيترك آثاره الهامّة في مستقبل الصراع. لأن انقلاب الرأي العام العالمي لا سيما الغربي على التحديد يُفقد الكيان الصهيوني مصدراً أساسياً في قوته. العرب 2010-03-20