- كيف كانت علاقة المفسّرين المعاصرين بالقرآن الكريم وإلى أيّ حدّ تنوّعت تساؤلاتهم الفكريّة وهم يعالجون النص المؤسس للحضارة الإسلامية؟ للإجابة عن هذا السؤال تواجهنا أكثر من مقاربة: لا يتردّد باحث أزهريّ معاصر، هو الشيخ محمد حسين الذهبي (ت1398/1977) المختصّ في علوم القرآن، من التصريح في سياق معالجته للتفاسير الحديثة إذ يقول: «لم يترك الأوائل للأواخر كبير جهد في تفسير كتاب الله والكشف عن معانيه ومراميه؛ إذ إنّهم نظروا إلى القرآن باعتباره دستورهم الذي جمع بين سعادة الدنيا والآخرة... والذي يقرأ كتب التفسير على اختلاف ألوانها لا يدخله شك في أنّ ما يتعلّق بالتفسير من الدراسات المختلفة قد وفّاه هؤلاء المفسّرون الأقدمون حقّه من البحث والتحقيق، فالناحية اللغويّة والناحية البلاغيّة والناحية الأدبيّة والناحية النحويّة والناحية الفقهيّة والناحية المذهبيّة والناحية الكونيّة الفلسفيّة، كلّ هذه النواحي وغيرها تناولها المفسّرون الأوَلُ بتوسّع ظاهر ملموس لم يترك لمن جاء بعدهم -إلى ما قبل عصرنا بقليل- من عمل جديد أو أثر مبتكر يقومون به في تفاسيرهم التي ألّفوها، اللّهم إلاّ عملا ضئيلا لا يعدو أن يكون جمعا لأقوال المتقدمين أو شرحا لغامضها أو نقدا وتفنيدا لما يعتَوِرُه الضعف منها أو ترجيحا لرأي على رأي مما جعل التفسير يقف وقفة طويلة مليئة بالركود خالية من التجديد والابتكار». مقابل هذا نقرأ في مقدمة تفسير الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور (ت1393/1973) رؤية مغايرة إذ يقول: «والتفاسير كثيرة فإنك لا تجد الكثير منها إلا عالة على كلام سابق بحيث لا حظّ لمؤلفه إلا الجمع على تفاوت بين اختصار وتطويل». لذلك فهو بعد أن يذكر أشهر التفاسير من مثل تفسير الطبري والكشاف ومفاتيح الغيب للرازي وتفسير البيضاوي وتفسير الشهاب الألوسي وتفسير القرطبي والموجود من تفسير ابن عرفة التونسي يخلص إلى أنه سيُعرض في تفسيره عن العزو إلى تلك المدونة التفسيرية معتمدا على ما يفتح الله به من الفهم في معاني كتابه وما يجلبه من المسائل العلمية مما لا يذكره المفسرون، حسبه في ذلك عدم عثوره عليه فيما بين يدي الباحثين من التفاسير. هذا مؤشر واضح على أن علم التفسير الذي كان يقال عنه في القرون الثلاثة الهجرية الأولى: إنّه علم من العلوم التي «لا نضجت ولا احترقت» تعبيراً عن قلّة وضوح الغاية من التأليف فيه وعن شدة ارتباطه بعلوم أخرى، يظل بعد مرور القرون وتوالي جهود العلماء في التقعيد له والتصنيف فيه بحاجة إلى مزيد من المراجعة والتسديد. نجد تأكيدا لهذا المعنى عند الكاتب السوداني محمد أبو القاسم حاج حمد (ت1425/ 2004) مؤلف «العالمية الإسلامية الثانية: جدلية الغيب والإنسان والطبيعة» الذي عمد إلى تجنب طريقة التفسير في مؤلفه ليعوضه بالتحليل القائم على إطار الوحدة القرآنية التي تتناول الجزء في إطار الكل عوضا عن الفهم المتداول المجزئ لآيات الكتاب وسوره. من هذا التمشي التحليلي الذي عبّر عنه حاج حمد في مقدمته بأنه «أسلوب جديد» في تحليل القرآن ندرك أن مقولة الشيخ الذهبي سالفة الذكر لا تلقى عند الحاج حمد وكذلك عند الشيخ ابن عاشور أي صدى باعتبار أن الرجلين عملا، كلٌّ من منظوره الخاص، من أجل إنشاء علاقة جديدة بالمعنى القرآني لكونهما لا يقرّان بأن ما تركه الأوائل للأواخر في مجال تفسير كتاب الله كاف للكشف عن معانيه ومراميه. إذا كان ابن عاشور لا ينهج في تفسيره، خاصة في مقدماته، ذات المنهج الذي سيعتمده صاحب «العالمية الإسلامية الثانية» فإن الأول يلتقي مع الثاني في الإقرار بوجود أزمة يعاني منها هذا العلم الجليل. هو إقرار بأن الفهم الأمثل للنص المؤسس لحضارة المسلمين لا يمكن السعي إليه باعتماد المقايسة على أفهام القدامى من السلف. هو إقرار نقدي للتراث التفسيري المدوّن يجمل الاعتراف بالأزمة التي يعرفها علم التفسير التي تنطلق من ضرورة مراجعة النظر في طبيعة القرآن الكريم من جهة وضرورة الإجابة عن جملة من التساؤلات المتداخلة، بعضها معرفي وبعضها منهجي وبعضها موصول بمسألة الإيمان. - كيف صاغ المفسر الحديث هذا الاعتراف بوجود أزمة في المنظومة التفسيرية؟ لعل من أفضل من حرر أحد أوجه الأزمة هو السيد قطب (ت1386/1966) حين كتب في مقدمة تفسيره، «في ظلال القرآن»، بأسلوبه الأدبي الرائق يدين مقولة المفسرين التقليدية التي قصرت التفسير على مجال الفهم وبيان المراد باعتماد جملة من المعارف من أبرزها علوم اللغة. حين نعود إلى «الظلال» نتبيّن أن من أول ما يرمي إليه قطب هو تجاوز مقولة الزركشيّ (ت791/1391) الذي عرّف علم التفسير بأنه «علم يُفهم به كتاب الله المنزّل على محمّد (صلى الله عليه وسلم) وبيان معانيه واستخراج أحكامه وحِكَمِه واستمداد ذلك من علم اللغة والنحو والتصريف وعلم البيان وأصول الفقه والقراءات ومعرفة أسباب النزول والناسخ والمنسوخ». بالنسبة إلى صاحب الظلال فإن الغاية من أي عمل تفسيري هي تمكّن من رؤية للعالم والوجود. هي رؤية كونية «تبين غاية الوجود كله وغاية الوجود الإنساني» وهو التوصل إلى حياة «ترفع العمر وتباركه وتزكّيه...». إنّه الإحساس بالتناسق الجميل بين حركة الإنسان كما يريدها الله وحركة الكون الذي أبدعه الله. نحن من هنا نقف على مفهوم جديد لعلم التفسير وثيق الصلة بالمفهوم الفلسفي المعروف برؤية العالم (Weltanschauung) وهو الذي يتيح لكل فرد تفسيرا للكون والعالم المحيط قصد تحقيق تفاعل أشمل معه ومع مكوناته. العرب القطرية 2010-06-10