محاكمة ممثل فرنسي مشهور بتهمة الاعتداء الجنسي خلال تصوير فيلم    المهدية.. إنتشال 9 جثث لفظها البحر    وزير خارجية نيوزيلندا.. لا سلام في فلسطين دون إنهاء الاحتلال    مبابي يصمد أمام "ابتزاز" ومضايقات إدارة باريس    القصرين.. رعاة وفنانو ومبدعو سمامة يكرمون الكاتبة الفلسطينية عدنية شبلي    أخبار باختصار    الاحتفاظ بالمهاجرة غير النظامية كلارا فووي    صفاقس الإحتفاظ بالكاميرونية "كلارا فووي" واحالتها للتحقيق    أخبار المال والأعمال    تونس تشارك في الدورة الأولى من الاجتماع الخاص للمنتدى الاقتصادي العالمي حول التعاون الشامل والنمو والطاقة بالرياض    وزارة التجارة تنفي توريد البطاطا    مجلس الوزراء يوافق على جملة من مشاريع القوانين والقرارات    عاجل/ سعيّد: الدولة لن تبقى مكتوفة الأيدي أمام من يحاول المساس بأمنها    دامت 7 ساعات: تفاصيل عملية إخلاء عمارة تأوي قرابة 500 مهاجر غير نظامي    عاجل/ جيش الاحتلال يعلن مقتل ضابطين وإصابة آخرين في قطاع غزة    النادي الافريقي: 25 ألف مشجّع في الكلاسيكو ضد النادي الصفاقسي    خالد بن ساسي مدربا جديدا للنجم الساحلي؟    درة زروق تهيمن بأناقتها على فندق ''ديزني لاند باريس''    المجمع الكيميائي التونسي: توقيع مذكرة تفاهم لتصدير 150 ألف طن من الأسمدة إلى السوق البنغالية    نائبة بالبرلمان: ''تمّ تحرير العمارة...شكرا للأمن''    الطلبة التونسيون يتحركون نصرة لفلسطين    تعرّض سائق تاكسي إلى الاعتداء: معطيات جديدة تفنّد روايته    بن عروس : تفكيك وفاق إجرامي مختص في سرقة المواشي    نادي تشلسي الإنجليزي يعلن عن خبر غير سار لمحبيه    الجامعة التونسية المشتركة للسياحة : ضرورة الإهتمام بالسياحة البديلة    الرابطة الأولى: تفاصيل بيع تذاكر مواجهة النادي الإفريقي والنادي الصفاقسي    المجر ترفع في المنح الدراسية لطلبة تونس إلى 250 منحة    السنغال تعتمد العربية لغة رسمية بدل الفرنسية    عاجل : وزير الخارجية المجري يطلب من الاتحاد الأوروبي عدم التدخل في السياسة الداخلية لتونس    إنهيار سد يتسبب في موت 42 شخصا    "بير عوين".. رواية في أدب الصحراء    سليانة: 4 إصابات في اصطدام بين سيارتين    كأس الكونفدرالية الافريقية : نهضة بركان المغربي يستمر في استفزازاته واتحاد الجزائر ينسحب    نقطة ساخنة لاستقبال المهاجرين في تونس ؟ : إيطاليا توضح    مدنين : مواطن يحاول الإستيلاء على مبلغ مالي و السبب ؟    قيس الشيخ نجيب ينعي والدته بكلمات مؤثرة    تصل إلى 2000 ملّيم: زيادة في أسعار هذه الادوية    ما حقيقة انتشار "الاسهال" في تونس..؟    تونس : ديون الصيدلية المركزية تبلغ 700 مليار    جائزة مهرجان ''مالمو'' للسينما العربية للفيلم المغربي كذب أبيض    بعد مظلمة فرنكفورت العنصرية: سمّامة يحتفي بالروائية الفسطينية عدنية شبلي    الرابطة الأولى: برنامج مباريات الجولة السادسة لمرحلة التتويج    هام/ بشرى سارة للراغبين في السفر..    زلزال بقوة 4.6 درجات يضرب هذه المنطقة..    يوميا : التونسيون يهدرون 100 مليار سنويا    دكتور مختصّ: ربع التونسيين يُعانون من ''السمنة''    ثمن نهائي بطولة مدريد : أنس جابر تلعب اليوم ...مع من و متى ؟    معز السوسي: "تونس ضمن القائمة السوداء لصندوق النقد الدولي.."    خط جديد يربط تونس البحرية بمطار تونس قرطاج    طقس الاثنين: تقلبات جوية خلال الساعات القادمة    عملية تجميل تنتهي بكارثة.. وتتسبب بإصابة 3 سيدات بالإيدز    انطلاق فعاليات الدورة السادسة لمهرجان قابس سينما فن    في اليوم العالمي للفلسفة..مدينة الثقافة تحتضن ندوة بعنوان "نحو تفكرٍ فلسفي عربي جديد"    القواعد الخمس التي اعتمدُها …فتحي الجموسي    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في الذكرى الخامسة لإحتلال العراق وإنطلاق المقاومة المسلّحة فيه :(2/2)
نشر في الفجر نيوز يوم 19 - 04 - 2008

في الذكرى الخامسة لإحتلال العراق وإنطلاق المقاومة المسلّحة فيه :
الأهداف الإستراتيجيّة للحرب الإمبرياليّة على العراق
(2/2)
د. عبدالله بنسعد
- تونس -
وقد أثبتت الوقائع ذلك حيث يقبع حاليا حوالي 1400 عالم عراقي في السجون يتعرّضون إلى أبشع عمليات التعذيب التي تصل إلى حدّ القتل العمد مثلما حصل للعالم الكيميائى الكبير الدكتور محمد الازميرلى الذي له صيت عالمي حيث أكّد مدير قسم التشريح فى مستشفى بغداد الطبيب فايق امين أن سبب الوفاة كانت نتيجة ضربة قوية بكعب مسدس على مؤخرة الرأس في أواخر شهر ماي الفارط بينما تكفّل جهاز المخابرات الصهيونية الموساد بالعمليّات القذرة المتمثّلة في ملاحقة وتصفية العلماء العراقيين الرافضين بكل وضوح للمشروع الإمبريالي. وتؤكّد آخر الإحصائيات إغتيال أكثر من 150 عالم عراقي وهو ما أكّدته رئيسة مركز الدراسات الفلسطينية في جامعة بغداد الدكتورة هدى النعيمي متهمة بصفة واضحة أجهزة الموساد بالوقوف وراء ذلك ، مؤكدة أن التسلل الصهيوني إلى العراق تزايد بشدة مؤخرا من خلال شركات استثمارية خاصة للتغطية والتمويه. وقد تمكّن القتلة الصهاينة من الوصول إلى الدكتور عبد اللطيف المياح رئيس مركز دراسات الوطن العربي في الجامعة المستنصرية حيث كان أوّل عالم عراقي يتعرّض للإغتيال نظرا لأنّه يسيّر أهم مركز دراسات عربي يعنى بمستقبل الوطن العربي وما يعنيه ذلك من علاقة بالصراع العربي الإمبريالي. كما شملت عمليات التصفية في عام 2003 رئيس جامعة بغداد الدكتور محمد الراوي، ومعاون عميد كلية العلوم بالجامعة الدكتور فلاح الدليمي، و صبري البياتي" أستاذ ورئيس قسم الجغرافيا بجامعة بغداد وأستاذ جراحة العظام والكسور الدكتور عماد سرسم وهو ما أثار مخاوف من تدمير العملية التربوية والفكرية في بلاد الرافدين مثلما أكّد الدكتور "تقي علي الموسوي" مساعد رئيس الجامعة المستنصرية ببغداد. وفيما تفاقمت حالة الذعر والارتباك التي تسود الجامعات العراقية جراء تصاعد عمليات الاغتيال العشوائي، تتواتر في بغداد أنباء مغادرة العشرات من العلماء والكفاءات العلمية العراقية للخارج حيث تتحدّث الأخبار عن اضطرار نحو ألف جامعي عراقي للهجرة هربا من التصفيات الجسدية- التي تتواصل ضدهم لأسباب تتعلق بوجهات النظر والآراء السياسية-، فضلاً عن أسباب أخرى تتعلق بتدني أجورهم التي يقولون إنها لا تتناسب مع مؤهلاتهم العلمية ولا مع ظروف المعيشة. لكن إظافة لهذه السياسة الراديكالية تعتمد الإمبريالية الأمريكية سياسة موازية تهدف إلى محاصرة من تبقى من العلماء العراقيين، وإخضاعهم قسرا لمسارات مهنية محددة سلفا فقد أعلنت الخارجية الأمريكية في 21 ديسمبر 2003 أنها ستبدأ بالتعاون مع سلطة الاحتلال الأمريكية بالعراق برنامجا مدته سنتان لدعم ما تسميه "التوظيف السلمي والمدني للعلماء العراقيين والفنيين والمهندسين"، الذين عملوا سابقا في برامج التطوير العسكري العراقية إذ أعلن الناطق باسم وزارة الخارجية الأمريكية ريتشارد باوتشر عن تأسيس مكتب في بغداد في إطار برنامج التوظيف السلمي، يضم خبراء أسلحة الدمار الشامل العراقيين، قررت أن تسميه واشنطن "المركز الدولي العراقي للعلوم والصناعة". وأوضح أن إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش تعكف على وضع خطة تكلفتها 16 مليون دولار في العام الأول، تهدف إلى جذب العلماء العراقيين للعمل في برامج أبحاث سلمية في العراق، بدلا من انتقال هؤلاء العلماء -هم وخبرتهم- إلى دول أخرى أو منظمات "إرهابية" يمكن أن تهدد الولايات المتحدة. وستركز المشروعات الأولى في البرنامج الأمريكي على ترسيخ الأولويات بالنسبة للعمل العلمي في المستقبل، والتدريب والتعاون على المدى الطول بين الولايات المتحدة والمجتمعات العلمية العراقية"، حسب وصفه. ومن شأن الإشارة إلى "التدريب والتعاون" هذه أن تعني ضمنا أن هؤلاء العلماء سيكونون مرتبطين عمليا بتطلعات الولايات المتحدة أكثر من ارتباطهم بالأجندة الوطنية العراقية، وهو ما قد يعني استقطابهم انتقائيا للتطوير العسكري الأمريكي إذا ما لزم الأمر، خاصة مع ما تتمتع به الدوائر الأمريكية المختصة في هذا الحقل من خبرة معروفة في هذا المضمار.
ومن المقرر أن تبدأ تلك المشروعات خلال 6 أشهر من افتتاح المركز، الذي سيكون في واقع الأمر "سجنا وظيفيا" لعلماء العراق الملاحقين، بعيدا عن الغايات التي تأهلوا لأجلها وحازوا على أرفع الشهادات. ويرى محللون أنه إذا كان العلماء العراقيون هم أحد محاور الحرب الأخيرة التي شنتها الولايات المتحدة ضد العراق، فإن الاحتلال الأمريكي للبلاد وتقويض الدولة العراقية جاء إيذانا بعملية تصفية حسابات عسيرة مع طابور العلماء العراقيين، الذين يُعدون بمثابة ظاهرة فريدة في زخمها في العالم العربي بأسره.
فهؤلاء العلماء كانوا بمثابة الأرضية الفعلية لبرامج التطوير العسكري، ورأس المال البشري الذي أعان النظام العراقي خلال الربع القرن المنصرم على بناء ترسانة تسليحية لفتت انتباه الولايات المتحدة الأمريكية وحليفاتها، لتتولى تقويضها وسحقها على مراحل استغرقت 12 سنة، كان آخرها في ربيع سنة 2003. أما الأدمغة العراقية، فكان عليها منذ التاسع من إبريل الماضي2002 ، أي عندما سقطت بغداد بأيدي قوات الاحتلال الإمبريالية ، أن تعيش أسوأ مرحلة بالنسبة لها، جاءت متناغمة مع مأساة إحراق المكتبات ونهب الجامعات على نحو لم تعهده عاصمة الرشيد منذ الاجتياح المغولي. وقد أدّت هذه الوضعيّة إلى إرسال عدد من علماء العراق وأساتذة الجامعات نداء استغاثة عبر البريد الإلكتروني بتاريخ 11 أفريل 2003 أشاروا فيه إلى أن قوات الاحتلال الأمريكي تهدد حياتهم. وقال عدد منهم في رسالة بالبريد الإلكتروني إنهم أملوا هذه الرسالة لأحد العلماء العراقيين الشرفاء في هولندا بالهاتف عن طريق القمر الصناعي وطلبوا منه أن يرسلها لكل الجهات المعنية للعمل على إنقاذهم من عمليات المداهمة والتحقيق والاعتقال التي تنفذها ضدهم قوات الاحتلال وتطالبهم خلالها بتسليم ما لديهم من وثائق وأبحاث علمية خصوصا علماء الفيزياء والرياضيات والكيمياء. وأشارت الرسالة إلى أن جنود الاحتلال يشجعون أعمال السلب والنهب ويقومون بنقل غوغاء على عربات خاصة إلى المؤسسات العلمية، ومنها جامعة الموصل والمعاهد التعليمية، ويستغلون هذه الفوضى في تدمير مراكز الأبحاث ومصادرة كل الوثائق وأوراق المشروعات الأكاديمية الموجودة بهذه المؤسسات لحرمان العراق من أي نواة لنهضة علمية، على حد تعبير الرسالة. وكشفت الرسالة التي حملت توقيع علماء الأمة المهددة أن بعضهم تم تحديد إقامته في بيته ووضع حراسة عليه، وتم منعهم من الذهاب لجامعاتهم ومعاملهم، في حين بدأت مفاوضات مع البعض الآخر من جانب من يعتقد أنهم رجال مخابرات أمريكيون لنقلهم إلى مراكز بحثية غربية لم تحددها الرسالة التي ناشدت العالم إنقاذهم من العدوان الأمريكي عليهم الذي يتعمد طمس العقل العراقي والهيمنة عليه. وأوضحت الرسالة أن قوات الاحتلال تحمل قوائم بأسماء العلماء العراقيين وعناوينهم والأبحاث التي يعملون بها، مما يسهل لهم عمليات التهديد والتحقيق في ظل غياب كامل لأي سلطة وانشغال العالم بالفوضى الحادثة في العراق.
أمّا بالنسبة للهدف الثقافي المتعلّق بتكريس ثقافة الهزيمة والخنوع داخل المجتمع العربي فإنّنا لن نقف عنده كثيرا بإعتبار وأنّ الوقائع والأحداث تؤكّد توصّل الإمبريالية لتحقيق هذا الهدف سواء على المستوى الشعبي أو الرسمي. فعلى المستوى الشعبي نلاحظ إستقالة وعدم مبالاة لم يسبق لها مثيل للجماهير العربية حتّى في المناسبات الكبرى سواء المتعلّقة بالمناسبات القومية (الذكرى الأولى لإحتلال العراق وسقوط بغداد أو المجازر المرتكبة في حق أبناء شعبنا العربي في فلسطين) أو في المناسبات والتظاهرات الإقتصادية العالمية المنعقدة ببعض الأقطار العربيّة. ففي الوقت الذي خرج فيه ملايين المتظاهرين الرافضين للحرب والمندّدين بالإمبريالية في كل عواصم ومدن العالم من شرقها إلى غربها بما فيها المدن الأمريكية والإنقليزية في الذكرى الأولى لإحتلال العراق تميّزت الجماهير العربية بغيابها وتخلّيها المفضوح عن النضال الوطني ضدّ الإمبريالية والصهيونية وكأنّ المسألة لا تعنيها. كما تميّزت نفس هذه الجماهير بتجاهل إنعقاد دورات المنظّمة العالمية للتجارة بقطر والبنك العالمي بالإردن دون الخروج للتنديد بالسياسات الليبرالية الشرسة التي تعتمدها هذه المؤسسات التي تعتبر كسلاح رئيسي بأيدي الإمبريالية لتطبيق سياساتها النهّابة في مختلف أنحاء العالم بما فيها الوطن العربي بينما لا تمرّ مناسبة إقتصادية واحدة في حجم المناسبات التي تحدّثنا عنها دون خروج ملايين العمال والفلاحين الرافعين للرايات الحمراء في المدن التي تعقد فيها هذه المناسبات مهما كان موقعها في القارات الخمس (بإستثناء الوطن العربي) للتنديد بالعولمة الليبرالية التي فقّرت الشعوب ودمّرت البيئة وغذّت الصراعات والحروب. فهل أصبح العرب خارج التاريخ ؟ هذا أقل ما يمكن أن يقال عنهم. أمّا على المستوى الرسمي فالمثال الساطع المعبّر عن ثقافة الهزيمة والإستسلام فهو ما أقدم عليه النظام الليبي سواء في خصوص قبوله دفع تعويضات بمليارات الدولارات لما يسمّى بضحايا طائرتي لوكوربي والديسي 8 رغم أنّ كل الدلائل تشير إلى أنّ أجهزة إستخباراتية غير ليبية هي التي تقف وراء تفجير الطائرتين وهو ما أكّده رئيس جهاز المخابرات الفرنسي في الكتاب الذي أصدره سنة 2002 حول هذا الموضوع أو كذلك في خصوص إقدامه عن تفكيك برنامجه النووي بصفة فاجأت كل المتتبعين للأحداث بإعتبار وأن لا أحد كان مهتما بما يقوم به ذلك النظام في الخفاء من ناحية وعدم ربطه لتفكيك برنامجه بمراقبة وتفكيك البرنامج النووي الصهيوني الذي يمثّل خطرا على العرب قبل غيرهم من ناحية أخرى خاصة وأن هذا النظام لطالما كان رافعا للشعارات الثورية والقومية.
هذه بعجالة الأهداف الإستراتيجية لكن هناك أيظا أهدافا تكتيكية لا تقلّ أهميّة عما وقع ذكره سأختزلها في هدفين إثنين : عسكرة الإقتصاد لحل الأزمة وكسر مقاومة وصمود العمال والدول المناهضة للعولمة.
* عسكرة الإقتصاد لحل الأزمة التي تعيشها الإمبريالية
رعت الولايات المتحدة الأمريكية ونظمت وأطّرت عن طريق مختلف أجهزتها المخابراتية والعسكرية CIA, FBI, NSC, Spécial forces...)) وعن طريق عملائها من أنظمة ومؤسسات وأفراد خلال فترة الحرب الباردة (1948-1989) أكبر عمليات الملاحقة والإغتيال والتقتيل الجماعي في ما سمّي بالحرب "ضد المد الشيوعي" وهو ما أدّى إلى سقوط العشرات من زعماء العالم المناهضين للإمبريالية (تشي غيفارا ، سلفادور ألندي ، باتريس لومبا ، توماس سانكارا ، سامورا ميشال...) ومئات الآلاف من الشيوعيين والوطنيين والمواطنين الأبرياء في أنحاء مختلفة من العالم وخاصة في أمريكا اللاتينية وآسيا (سقط حوالي مليون مواطن في أندونيسيا وحدها سنة 1965 معضمهم من كوادر ومناضلي الحزب الشيوعي الأندونيسي « PKI ») إظافة إلى ضحايا الحروب الإمبريالية التي خاضتها أمريكا (فيتنام ، كوريا ، كوبا ، العراق...). وقد مثّلت بداية القرن الواحد والعشرين مرحلة جديدة من الأزمة العميقة التي يعيشها النظام الإمبريالي والتي تتمثّل أهم تمظهراتها في إتساع التناقضات التي تميّز هذا النظام منذ ظهوره. فقد إنحسرت "طرق النجدة" (Voies de secours) التي كانت تلجأ لها من حين لآخر الإمبريالية لحل جزء من أزمتها. إذ لم يعد إستعمال سلاح المديونية بإغراق الدول الفقيرة بالديون عن طريق المؤسسات المالية العالمية من أجل نهبها كافيا لحل الأزمة أمام عجز العديد من هذه الدول عن خلاص ديونها وخاصة المتعلّقة بخدمة الدين. كما أنّه يجدر التذكير بأن أمريكا بإعتبارها أكبر دولة إمبريالية تعتبر حاليا من أكبر الدول المفلسة والمدينة في العالم إذ يرتفع إجمالي دينها إلى 184 % من الناتج الداخلي الخام (PIB) وهو ما يساوي بالدولار أكثر من 18000 مليار دولار. أما الوجه الآخر لتفاقم الأزمة الإمبريالية الأمريكية فهو فائض الإنتاج في بعض القطاعات التي تمثّل الركيزة الأساسية للإقتصاد الأمريكي وخاصة قطاعي إنتاج السيارات وصناعة الحديد. فمعامل إنتاج السيارات تنتج سنويا حوالي 75 مليون سيارة لكن المبيعات تحوم حول 50 مليون سيارة فقط وهو ما يعني فائضا بحوالي 25 مليون سيارة في السنة. كما أن فائض الإنتاج في قطاع صناعة الحديد بلغ 340 مليون طن سنة 1999 مقابل 150 مليون طن فقط سنة 1989. وقد فقد سنة 2001 وحدها مليون و 200 ألف عامل لوظائفهم في هذه القطاعات. فكان لا بد من حرب جديدة لحل هذه الأزمة العميقة. فكل المؤشرات تدل على أن أزمة الإمبريالية تشتد من سنة إلى أخرى وقد أدّى الإنهيار المريع لنمور آسيا سنة 1997 (تايوان ، كوريا ، هونغ كونغ وسنغفورة) في مرحلة أولى وإنهيار بورصة وول ستريت في أفريل 2000 في مرحلة ثانية ثم إنهيار أحد التلامذة النجباء للبنك العالمي وصندوق النقد الدولي في أمريكا اللاتينية ألا وهي الأرجنتين سنة 2003 ، إلى كشف عمق وحجم هذه الأزمة وهو ما أذّى بالعديد من المحللين الإقتصاديين إلى توقّع أزمة أعمق من أزمة 1929. فكل المؤشرات تدفع نحو هذا الإستنتاج :
* تكثّف الإحتكارات : كل قطاع إقتصادي تسيطر عليه بعض الشركات المتعددة الجنسيات
* تفاقم الفقر : مليار ونصف من البشر يعيشون بأقل من دولار واحد في اليوم ، تدهور المقدرة الشرائية لعمال 100 دولة مقارنة عما كانت عليه منذ 15 سنة ، يموت طفل عمره أقل من 5 سنوات كل ثلاث ثوان نتيجة سوء التغذية.
* تطور المضاربات في الأسواق المالية : 1100 مليار دولار من العملة الصعبة يقع تداولها يوميا في أسواق البورصة وهو ما يسمح لثلاثة أشخاص من المضاربين كل ثلاث ثوان من ربح ما يساوي مداخيل 48 دولة في السنة.
* تفاقم مديونية البلدان الفقيرة التي بلغت 2500 مليار دولار من 1970 إلى 2000 كما بلغت خدمة الدين 4000 مليار دولار خلال نفس الفترة وهو ما يعني عمليا أن البلدان الفقيرة هي التي قامت "بإعانة" البلدان الغنية لا العكس (أنظر مقالنا بعنوان : "كيف يدفع الفقراء 250 ألف دولار في الدقيقة" الصادر بجريدة الشعب بتاريخ 24 جوان 1995).
ومهما حاول النظام الرأسمالي العالمي التخفيف من أزمته عن طريق الحروب والإظطهاد والإستغلال فإنه لا يقوم إلا بتأجيل الإنهيار المحتوم لنظام ليبرالي لم تعرف الإنسانية أكثر منه شراسة حيث إنفلت من تحت عباءة الإطار النظري الذي وضعه المنظرون الأوائل (آدام سميث ودافيد ريكاردو) وكسّر كل الضوابط وتخلّى عن دور الدولة (تنظيرات كينز خاصة) التي عوّضتها الشركات متعددة الجنسية التي لم يعد لها مقر إجتماعي معروف بل أصبحت توجد في عشرات الدول في نفس الوقت. هذه الشركات أصبحت خارج القوانين التي تسنها الدول إذ حلت منظمة التجارة العالمية محل الدول لسن القوانين المتعلقة بالتبادل التجاري رافعة شعار "العبور إلى السوق" وهو تكريس للعولمة التي تنصهر فيها وتدافع عنها وهذا يعني فتح أسواق البلدان الفقيرة ليقع غزوها من طرف الشركات متعددة الجنسية. فبعد حوالي 6 سنوات من وجودها مكّنت هذه المنظمة الشركات متعددة الجنسية من وضع قبضتها على السوق العالمية حيث أن مداخيل 15 شركة منها تساوي مداخيل 120 دولة مجتمعة. وإظافة لذلك لم يزد البنك العالمي وصندوق النقد الدولي عن طريق برامج الإصلاح الهيكلي إلا في تعميق الأزمة. فتدهور المقدرة الشرائية للعمال أدّى إلى التقليص الكبير في الإستهلاك وبالتالي شهد الإقتصاد العالمي وخاصة إقتصاد البلدان الصناعية وعلى رأسها أمريكا إنتكاسة لم يشهد لها مثيلا طيلة العقود الماضية. وكان الحل في عسكرة الإقتصاد حيث تحاول الإمبريالية تعويض الإستهلاك الذي يعتبر المحرّك الأساسي للإقتصاد ببرامج تسليح ضخمة (الكويت أمضت في الأيام الأخيرة صفقة سلاح مع أمريكا بقيمة 90 مليار دولار) تنعش الصناعة العسكرية التي لم تعد مقتصرة على مصانع الدبابات والصواريخ وإنما أيظا وخاصة على الشركات المختصة في التكنولوجيا الرقمية والمعلوماتية والفضائية إلخ... وقد نظّر لعسكرة الإقتصاد مجموعة من كبار الإقتصاديين الأمريكيين أثناء حرب الفيتنام حيث أكّدوا على ما يلي : »بالنسبة لإنتعاش الإقتصاد لا يمكن تصوّر بديل للحرب. لا يوجد بديل آخر في مستوى الفاعلية والحفاظ على مواطن الشغل لدينا وعلى الإنتاج والإستهلاك. فالحرب كانت وستبقى العنصر الأساسي للحفاظ على توازن المجتمعات العصرية. الحرب والحرب وحدها هي القادرة على حل مشكل فائض الإنتاج «. فهل هناك كلمات أعمق من هذه الكلمات التي تعبّر عن ضرورة عسكرة الإقتصاد لتحل الإمبريالية أزمتها ؟ وهل هناك كلمات أشدّ وضوحا من هذه الكلمات التي تعبّر بوضوح عمّا قاله لينين بأن الإمبريالية هي الحرب ؟ ولذلك نفهم لماذا تخصّص الإمبريالية الأمريكية مبلغ مليار دولار يوميا من ميزانيتها للتسليح.
*كسر مقاومة وصمود العمال والدول المناهضة للعولمة
إحتداد التناقضات لا يمكن إلا أن يولّد المقاومة والمقاومة بدأت من داخل البلدان الإمبريالية نفسها. فقد مثّلت المظاهرات الضخمة التي إنطلقت من سياتل وتواصلت حتى جنوة بإيطاليا ملحمة نضالية كبيرة إنخرط فيها جيل جديد من المناضلين ، شباب عامل بالفكر والساعد ذو حماس فياض ومبادرات لا تنضب ويختزن قدرة هائلة على الصمود والمقاومة. شباب إنتفض ضد أوهام الرأسمالية ولم يعد يقبل ببرامجها المرتكزة على مزيد إستغلال العمّال وإظطهاد الشعوب ونهب خيرات البلدان الفقيرة وتدمير العالم ، شباب يصيح بصوت عال أمام زعماء العالم الإمبريالي بأن "عالم آخر ممكن" (Un autre Monde est possible). هذا الجيل الذي يرفع الرايات الحمراء وصور روّاد الفكر الإشتراكي الذي بشّرت أبواق الدعاية الإمبريالية بأنّه إنتهى بإنتهاء الإتحاد السوفياتي ، نجح في تنظيم مظاهرات لم يشهد العالم الغربي مثيلا لها منذ أحداث ماي 1968 وإستطاع بذلك وضع زعماء العالم الإمبريالي والمؤسسات المالية العالمية في موقف لا يحسدون عليه. فلم تعد هذه المنظمات ولا رؤساء الدول الإجتماع بكل أريحية ودون أن يعكّر صفوها أي شيء لتقرير مصير العالم حسب مصالحها الضيقة بل أصبحت التحضيرات لهذه الإجتماعات تأخذ منهم وقتا وجهدا وإمكانيات كبيرة لتوفير أجهزة القمع الضرورية للتصدي للمظاهرات المناهضة لها. ألم خوزي ماريا أزنار رئيس حكومة أسبانيا بتحريك طائرات أف 16 وبوارج حربية وبطاريات صواريخ يوم 2 مارس 2003 وكأنّه في حالة حرب لإرهاب حوالي 500000 متظاهر نزلوا لشوارع برشلونة للتنديد بأوروبا اليبرالية. هكذا إذا يتأكّد الوزن الذي أصبحت تمثّله هذه الحركة المناهضة للعولمة والتي بدأت بصفة عفوية لكنها آخذة الآن في التشكّل والتنظّم متجاوزة الأحزاب التحريفية والنقابات الإصلاحية. فتكوّنت عديد المنظمات غير الحكومية وعديد التجمّعات المناهضة للعولمة لتأطير هذه الحركة التي تكبر يوما بعد آخر. إظافة إلى ذلك و من خلال تدمير العراق وتقسيمه وإلى جانب الأهداف التي ذكرناها تريد الإمبريالية بعث رسالة مضمونة الوصول إلى كل نظام يحاول الوقوف في وجه آليات وأهداف العولمة. ويمكن أن نذكر الدول المعنية بهذا المخطط والتي يمكن تقسيمها إلى ثلاث أقسام :
* الدول العربية وما يسمى بالدول "الإسلامية" وهي : سوريا وليبيا والسودان وإيران أساسا
* الدول ذات التوجّه الإشتراكي : كوريا الشمالية و كوبا ولاوس وبرمانيا وأيضا الصين
* الدول ذات التوجه الوطني : وهي أساسا فينزولا (أنظر ما حصل في هذا البلد منذ أشهر الذي كان رئيسه أول رئيس دولة أجنبية يزور العراق خلال الحصار) وكذلك البرازيل والأرجنتين ونيكارغوا وبوليفيا والشيلي التي إختارت شعوبها إنتخاب رؤساء يساريين كبديل للسياسات اللاوطنية واللاشعبية التي كانت سائدة بمباركة ودعم الإمبريالية الأمريكية.
بين نفق مظلم وشموع مضيئة
إن حجم الآلة العسكرية التي تحرّكها الإمبريالية وحجم الهجمة التي بدأتها و"الأسلحة" الأخرى التي تمتلكها ومن بينها صندوق النقد الدولي والبنك العالمي والمنظمة العالمية للتجارة تدفع كلها نحو إمكانية تحقيق الإمبريالية لأهدافها التي أتينا على ذكرها وهي تدفع بالتالي نحو نفق مظلم لا آخر له ، تدفع نحو البربريّة. والسؤال الذي يطرح نفسه هو : "هل هناك إمكانية لوجود شمعة مظيئة داخل هذا النفق المظلم؟" والجواب لا أراه بغير نعم فهناك شمعة بل شموع مضيئة. فالحركة العالمية لمناهضة العولمة هي أولى هذه الشموع المضيئة. مقاومة شعبنا العربي البطل في العراق للإحتلال وتصدّيه لأعتى آلة عسكرية إبتدعتها المصانع الحربية الإمبريالية يمثّل أيظا شمعة تضيء منذ أكثر من سنة رغم خيانات الشيعة والأكراد ومن لفّ لفّهم من عملاء الإمبريالية تماما مثل صمود كوبا في وجه الإمبريالية الأمريكية رغم الأربعين سنة من الحصار. الإنتفاضة الباسلة في فلسطين هي أيظا شمعة مضيئة وأي شمعة ؟ فالبطولة النادرة التي أبداها أبناء شعبنا العربي المقاتل في فلسطين وتصدّيه لآلة الحرب والدمار الصهيونية المدعومة من الإمبريالية مثّلت البرهان الساطع على قدرة الشعوب والأمم المظطهدة على المقاومة والصمود وبالتالي كسر شوكة الإمبريالية وعملائها. ومثلما سقط نظام الأبارتايد منذ سنوات في جنوب إفريقيا فسيسقط الكيان الصهيوني رأس حربة الإمبريالية في المنطقة العربية عن طريق حرب الشعب طويلة الأمد وليس عن طريق إتفاقيات الإستسلام أو المراهنة على الشرعية الدولية. فالشرعية والمواثيق الدولية ليست سوى تقنينا حقوقيا يعبّر عن رؤى وبرامج ومصالح الإمبريالية فلا شرعية إلا لما كان إفرازا واعيا لإرادة الشعوب مكرّسا لمصالحها ومعبّرا عن طموحاتها من منطلقات التساوي في بناء حضارة الإنسانية التقدّميّة والإنسان الحر من كل إستغلال وإظطهاد.
أمامنا أهدافهم ومشاريعهم وأمامهم صمودنا ومقاومتنا فإما إشتراكية أو بربرية.
الدكتور عبدالله بن سعد
مارس 2004


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.