مصطفى عياط لم تشكِّل احتجاجات الجزائر مفاجأة للكثيرين، خاصةً من يلامسون مكامن الغضب لدى شعب توافرت لديه كل مؤهِّلات الرفاهية، فيما يعكس واقعه فقرًا مؤلِمًا، لكن المفاجئ ربما كان عنف الاحتجاجات وامتدادها السريع لتشمل نصف ولايات الجزائر خلال ساعات قليلة، إضافة إلى امتدادها لأحياء ثريَّة بالعاصمة أبعد ما تكون عن الفقر، مما يؤكِّد عدم دقَّة التشخيص الحكومي لأسباب الغضب، فارتفاع أسعار الزيت والسكر كان مجرد "عود ثقاب" أشعل النار في "أكوام الغضب" المهملة والمتراكمة. والجزائر، حسب الوصف الشائع لأحمد بن بيتور: "دولة غنيَّة.. وشعب فقير"، وهي معادلة تحمل طرفين متناقضين لا يجتمعان إلا في بيئة خصبة بالفساد، والأخير في الجزائر يعدُّ "أسطوريًّا"، حسبما ورد في وثائق ويكيليكس، حيث يتشارك في تغذيته العسكر والساسة، في سيمفونيَّة جماعيَّة، مقاماتها وأدوارها معروفة لجلّ الجزائريين، حيث تشيع مفردات مثل "القطط السمان"، وهم مجموعة من الجنرالات والساسة يحتكرون كلَّ شيء في البلاد، تجارة وصناعة وخدمات، وهناك جزء يديرونه مباشرةً لحسابهم الخاص، والباقي يكتفون بتحصيل "عمولات" إلزاميَّة لأجل تمريرِه، وبدون ذلك فإن مراكب العمل والإنجاز "تتعطَّل". لماذا الغضب؟ وربما يتساءل البعض: وما المشكلة في ذلك؟ فالفساد أحد ثوابت الحكم في معظم الدول العربيَّة، إن لم يكن كلها، كما أن الجزائر جمعت الحسنيين: الغاز والنفط، إضافة لثروات معدنيَّة وزراعيَّة ضخمة، أي أن الحصيلة تسمح بثراء الفاسدين، وما يتبقى بعد ذلك يكفي الشعب ويفيض، ثم لماذا يغضب شباب الجزائر، بينما يصبر من هم أفقر منهم بكثير؟ هذا السؤال له إجابتان: الأولى أعلنتها الحكومة، حيث نفت وجود أي دوافع اقتصاديَّة أو سياسيَّة للاحتجاجات، التي وصفها وزير الداخليَّة بأنها "أعمال تخريبية إجراميَّة" استغلَّها "بعض المنحرفين للسرقة والنهب". أما الإجابة الثانية فهي أن 75% من الجزائريين دون الثلاثين عامًا، في حين يتجاوز معدل البطالة 20%، أي أن النظام عاجز عن توظيف واستغلال تلك الطاقات الهائلة، رغم عائدات النفط والغاز الضخمة، وفاقم من الأمر افتقاد النظام لمشروع وطني جامع أو رؤية مستقبليَّة تنتقل بالبلاد إلى المكانة التي تستحقُّها، فالجزائر والجزائريون لم يتعوَّدوا منذ الاستقلال على أن يكونوا ضمن دول الهامش، على الأقلّ في محيطهم العربي. ورغم أن الجزائريين تحمَّلوا سنوات صعبة خلال عشريَّة الدم (1990-2000) إلا أن مرور عشر سنوات على انتهاء العنف لم يحمل معه ما يلبِّي طموحات وآمال الكثيرين، بل إن السنوات الأخيرة شهدت انسدادًا متزايدًا في أفق المستقبل، فالرئيس عبد العزيز بوتفليقة عدل الدستور لينتزع ولاية رئاسيَّة ثالثة، رغم أوضاعه الصحيَّة، التي منعته من مواكبة الكثير من الأحداث والفاعليَّات المهمَّة، ولعلَّ آخرها غيابه التام عن المشهد طوال فترة الاحتجاجات، كذلك فإن العمليَّة السياسيَّة "عقيمة ومتجمِّدة" حيث تسيطر على الأحزاب رموز عتيقة، لا تمتلك القدرة أو الأفق لإدارة حوار مع الشباب وجذبهم لصفوفها، فبعض الأحزاب أشبه بمساحيق التجميل التي تزيِّن وجه النظام، والبعض الآخر يتحرَّك وفقًا لمعادلة و"لعبة مضبوطة" تديرها أجهزة الأمن. خيبة أمل ومن المؤكِّد أن الذين تفاءلوا بشدة مع اعتلاء بوتفليقة للحكم مطلع 1999، باعتباره أحد أبرز رموز حقبة الرئيس هواري بومدين التي يعتزُّ بها الجزائريون كثيرًا، قد أُصيبوا بخيبة نتيجة ما انتهت إليه الأمور، فالرجل نجح في ترسيخ المصالحة الوطنيَّة عبر مشروع "الوئام الوطني"، كما مكَّنه الارتفاع غير المسبوق لأسعار النفط والغاز في السنوات الأخيرة، من تسوية ملف الديون الخارجيَّة نهائيًّا، إلا أنه مع ذلك فشل في إطلاق مشروع تحديثي على غرار مهاتير محمد في ماليزيا أو رجب أردوغان في تركيا، أو حتى إعادة إطلاق "مشروع بومدين التحديثي" بنسخة معدَّلة، مع أن الجزائر كانت مؤهّلة لذلك بحكم ثقله الجغرافي والاقتصادي، وقاعدتها البشريَّة الغنيَّة ثقافيًّا وعلميًّا. وبدلًا من ذلك فإن بوتفليقة اكتفى بإدارة "توازنات الحكم" التي ورثها ممن سبقوه، فهو من ناحية حافظ للعسكر على امتيازاتهم ومنحهم حصانة من أي ملاحقة عما وقع من تجاوزات خلال المواجهات مع الجماعات المسلَّحَة، في مقابل تراجعهم قليلًا عن صدارة المشهد، والاكتفاء بالمشاركة في إدارة الحكم من وراء الستار، كما أنه سعى لضخّ بعض الدماء في العمليَّة السياسيَّة ومنح هامش من الحركة للأحزاب والقوى السياسيَّة، لكنه أبقى الأمر في دائرة مرسومة سلفًا، ومن حاول تجاوز ذلك جرى إخراجه من اللعبة نهائيًّا، كما حدث مع "علي بن فليس"، أو تعرّض للتهميش وانشقاقات حزبيَّة، كحال "عبد الله جاب الله". قطط سمان وعلى أي حال من الأحوال لم يسمح بوتفليقة بإدارة عملية سياسيَّة حقيقيَّة، كما أنه لم يسعَ لكسر توازنات الحكم، وكان بإمكانه فعل ذلك عبر الاستعانة بالشعب وطلب مساعدته لقمع الفساد وتأديب "القطط السمان"، لكنه فضَّل الاستمرار في اللعبة بنفس قواعدها الموروثة، بل إنه أضاف إليها ضلعًا جديدًا، تمثَّل في أشقائه وأقاربه وعشرات المقربين القادمين من مسقط رأسه بمدينة "وجدة"، حيث صعدهم داخل سلم السلطة، باعتبارهم "أهل ثقته"، لكن يبدو أن بعض هؤلاء لم يكن جديرًا بهذه الثقة، حيث يجري تداول أسمائهم ضمن زمرة الفساد، التي تنخرُ في عظام الاقتصاد الجزائري. ثم جاءت الوعكة الصحيَّة للرئيس، التي لم يتعافَ من أثرها حتى الآن، لتشعل معارك مستترة بين أجنحة الحكم المتصارعة على خلافة الرجل، خاصةً أن المشهد السياسي يخلو من شخصيات ذات ثقلٍ لديها القدرة على سدّ الفراغ الذي أحدثه تقلُّص نشاط الرئيس، وهو ما جعل زمام الأمور يعود مرةً أخرى إلى قادة الجيش والمخابرات، لكن حتى هؤلاء منقسمون فيما بينهم، فالبعض يفضل العودة مجددًا إلى واجهة المشهد، وتجهيز أحدهم لاعتلاء السلطة إذا ما خلا منصب الرئيس لأي سببٍ من الأسباب، في حين يرى آخرون ضرورة استكمال عمليَّة الانسحاب من السياسة، وترك الحكم لشخصيَّة مدنيَّة، مع الاكتفاء بوضع المراقب المستعدّ للتدخل إذا ما خرجت الأمور عن السيطرة. عطل فادح ووسط هذه التعقيدات فإن آلاف الشباب الجزائري لا يترددون في إلقاء أنفسهم وسط أمواج المتوسط العاتية، آملا في النجاة والوصول إلى الشط الآخر، بحثًا عن فرصة عمل وحياة كريمة في أوروبا، ليس فقط هربًا من الفقر، وإنما كذلك رفضًا لتفشي الفساد والمحسوبيَّة، فليس هناك شيء يمكن إنجازه إلا بدفع الرشاوى والمحسوبيَّة، ولذا لم يكن غريبًا أن تنطلق شرارة الاحتجاجات الأولى من سكان الإيواء، الذين يقطنون في "مساكن صفيح" حول العاصمة منذ زلزال عام 2003، منتظرين دورهم في الحصول على شقق بديلة لمنازلهم التي دمَّرَها الزلزال، لكن الانتظار طال، والشقق المتوافرة تذهب لمن يملك الرشاوى المطلوبة أو يعرف أحد النافذين ليتوسَّط له. وإذا كانت سلسلة الإجراءات التي اتخذتها الحكومة لتخفيض أسعار المواد الغذائيَّة قد نجحت في احتواء الاحتجاجات، فإن ذلك لا يخفي أن النار ما زالت "مشتعلة" تحت الرماد، ولعلَّ في تونس خير عبرة، فالاحتجاجات خفتت لنحو أسبوع، ثم تجددت بصورة عاصفة تكاد أن تطيح بكلِّ ما في طريقها، ومن المفارقة في احتجاجات الجزائر أن فاتورة الإجراءات الحكوميَّة لاحتواء الغضب عبر تخفيض أسعار السكر والزيت لم تتجاوزْ 400 مليون دولار، في حين بلغت خسائر الاحتجاجات نحو 7 مليارات دولار، أي أن البلاد خسرت 6.6 مليار دولار في أقلّ من أسبوع؛ لأن القائمين على الأمر تعطلت "قرون الاستشعار" لديهم، وعجزوا عن التقاط إشارات الغضب الكامنة، حتى انفجرت في وجوههم، فهل يصلح النظام هذا العطب أم تبقى الجزائر في انتظار "العاصفة". الاسلام اليوم الثلاثاء 14 صفر 1432 الموافق 18 يناير 2011