خاطبني صاحبي قائلا:"أمركم محير أيها التونسيون فقد جمعتم كل المتناقضات ويكفي أن تلقي نظرة سريعة من حولك لتدرك ما أقول، فأنتم شعب البضع ملايين...أرى أناسا يقودون العمل المؤسساتي والمجتمع المدني في الغرب وفي نفس الوقت تجد قادة العمل الجهادي وحتى العنف من عندكم. كثيرون هم رواد المساجد في الغرب من الجالية التونسية وكثر هم من يقبعون في السجون الغربية بتهم السرقة وتجارة المخدرات والتحايل على القوانين. نرى كثيرا من الأئمة ومديري المراكز الإسلامية من ذوي الأصول التونسية وفي المقابل تطاول غير مفهوم على الذات الإلاهية بدءا من سب الجلالة ووصولا عند الإفطار العلني في رمضان. سمعنا كثيرا عن دعمكم الكبير لرفض الغزو الأمريكي لغزو العراق وأثبتت الوثائق تورطكم في خنق العراق وقيادته إبان حرب 1991. نرى العديد منكم في مقدمة مسيرة دعم أهل فلسطين وصمود غزة وننسى أن من يحكم الضفة اليوم ويفاوض على بيع ما تبقى من فلسطين جاؤوا من هناك وتربوا عندكم.." واسترسل صاحبي في المقارنات وأضاف: "عرفناكم مجموعة واحدة من الشباب المتعلم والمتحمس للعمل والقيادة واليوم نسمع عن خيانات ومؤامرات هنا وهناك ". وانزعجت من قول مخاطبي واستحضرت ما لدي من وسائل الدفاع الشرعية للرد وأولها الخلط الواضح في ذهنه بين من يحكم البلاد بغير وجه حق ولا شرعية وبين مجتمع يكافح بأساليب مختلفة لإثبات وجوده والدفاع عن كرامته المهدورة من طرف زمرة فاسدة يشمئز منها الشعب ومن تصرفاتها الخرقاء. أما عن قضايا الأمة فنحن سعداء بأن نكون في ركب الشرف والعزة في العراق وفلسطين ولبنان وغيرها بينما عدو الشعب في ركب الظلم والطغيان والدمار. نحن لا نحاصر غزة ولا نجوع أهلها ولا نمنع الدواء عن مرضاها ونحن لم نخذل القدس ونساوم على بيعها ونحن لم نساهم في إذلال اللاجئين الفلسطينيين الذين يحق لهم العيش بسلام وأمان في أماكن تواجدهم مع السعي والعمل على إرجاعهم لديارهم وأرضهم...نحن الشعب أما من يتاجر بقضايا الأمة ليقبض ثمنا بخسا فسيأتي اليوم الذي يحاكم فيه على مشاركته في الجريمة...والتاريخ هو الفيصل ..وأفقت على طرق الباب فإذا به أحد العاملين في الفندق جاءني ليعلمني أن لدي زيارة ...وتنبهت بأني لست في مناظرة مع صديق ولا ندوة بل هي مجرد أحلام وقررت تدوين هذا الحلم قبل أن يمحي من الذاكرة على اعتبار أنه تعبير عن واقع نعيشه وذهبت للقاء الزائر وهو شخصية عربية محترمة ومترشح للرئاسة في بلده حيث حدثني عن هموم ومشاغل الأمة. وقال لي هذا الخبير القانوني والسياسي الكبير: "نحن في عصر الانحطاط بامتياز ولكن لا يجب أن نخجل من هذا وعلينا أن نذكر الحقائق للأجيال القادمة." وبعده التقيت بوزير خارجية أسبق لدولة كانت كبيرة وأصبحت تنهشها الأطماع وعشعش فيها الفساد وقال: "عليكم أمانة الكلمة ولا يغركم الظلم وأهله ولا تساقط المضبطين". وفي آخر يوم عدت لأوراقي وراجعت أحلامي وقارنتها بما سمعته من أناس أصحاب قرار واطلاع كبير. والنتيجة واحدة ...إن كانت أحلام يقظة واقعنا مر ولكن المستقبل لنا ولأبنائنا وأحفادنا...هذه الحادثة التي مرت عليها أيام قليلة استحضرتها ونحن نرتب ليوم تفتح فيه مساجد ومراكز المسلمين في جنيف أبوابها للعموم وتتخللها ندوات وحوارات يشارك فيها سياسيون ورجال فكر وإعلاميون وبينما نحن كذلك جاءني أحدهم وطلب المساعدة في قضية مواطن تونسي أدخل السجن بسبب التحايل على القوانين والتزوير والغش ...وتذكرت أحلامي وحواراتي السابقة وانتبهت لتاريخ 7 نوفمبر وما فعله نظام المافيا في تونس بأبناء شعبنا...نعم لا بد أن يغلق القوس في تاريخ تونس. هؤلاء أوصلونا إلى ما نحن فيه...تطاردنا صفات حكم الطاغية أينما حللنا، سمعتها من مثقفين وساسة كبار وعامة الناس، سمعتها في دول عربية وأوروبية ومن آسيا ومن أمريكا اللاتينية...تشعر بالاحتقار عندما يطرح عليك السؤال "هل من حل عندكم" وتشعر بالمهانة عندما يؤكد لك سياسي عربي أنه "كان عندكم رجال ومثقفون " وتشعر بالعجز عندما تؤكد لك برلمانية أوروبية أنها ستقوم بدورها وتمنع الشراكة المتقدمة لتونس مع دول الاتحاد الأوروبي لأنها علمت "أن التونسيين عجزوا عن حل مشكلتهم بأيديهم". وتشعر بالازدراء عندما يؤكد لك صحفي إيطالي أن متساكني جزيرة عندهم يكرهوننا لأننا حرمنا عليهم أكل السمك وعندما شعر باستغرابي قال لي ألا تعلم أن الكثير من التونسيين يغرقون في محاولتهم الهجرة إلى إيطاليا فتأكلهم الأسماك التي تصبح غير صالحة للاستهلاك. وتشعر بالغضب عندما يحدثك الناس في الداخل عن الغلاء والفساد المالي والأخلاقي للمافيا الحاكمة والسرقة في وضح النهار. وتشعر بالمرارة عندما تقرأ وتسمع عمن كانوا يتاجرون بمعاني سامية في التآخي والتآزر والتحابب وتجدهم اليوم بسيوف مسلطة على رقاب من وقف إلى جانبهم وقت المحن ودافع عنهم في وجه الجلاد. وضع يصبح فيه الحليم حيران. وتشعر بالغثيان عندما تقرأ أن بعض "المثقفين والفنانين" يطالبون بالتمديد للطاغيىة...فهذا قمة العهر والانحطاط إذ لا يمكن لمن يطالب بالتمديد لمن أفسد العباد وأفلس البلاد ودنس المقدسات أن يكون إنسانا سويا وذا عقل. تونس التي أنجبت الشابي والثعالبي وحشاد يراد لها أن تستديم سنوات الفساد والظلم. ولكن لا بد أن تطوى هذه الصفحة وإلى الأبد ولا بد للشعب أن يقطع هذا العضو البغيض قبل أن يستفحل ويقضي على الجسم كله.