إحكام التصرّف في المال العمومي... أحد مداخل التنمية بقلم: محمد رضا سويسي لا شكّ أنّ الهاجس الأكبر لكلّ متدخّل من قريب أو بعيد في ضبط ميزانيّة البلاد سواء كان سلطة تنفيذيّة أو تشريعيّة أو مصالح إداريّة مختصّة إنّما هو السعي لتجاوز مختلف الصعوبات القائمة بفعل الظروف الدّاخليّة أو الخارجيّة وتحقيق جملة من الأهداف التنمويّة في مختلف مجالات الحياة بما ينعكس إيجابيّا على نسب التّنمية وعلى الدخل الوطني ودخل الفرد بحيث يشعر كل مواطن بالانعكاس المباشر لتلك التنمية على مختلف مظاهر حياته كما تنعكس تلك المؤشرات التنمويّة على المشهد الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الوطني. ولئن اعتبرنا ما أوردناه في مقال سابق من حديث عن وضوح المعطيات وديمقراطيّة الحوار من المفاتيح الرّئيسيّة للتنمية فإنّ هناك عناصر أخرى من الأهمية بمكان تستحقّ الإبراز والتأكيد عليها من ذلك مثلا إحكام التصرّف في المال العمومي. والمال العمومي يكاد يكون حاضرا في كلّ باب من أبواب الميزانيّة فالإدارة تسير بالمال العمومي والمؤسسات الاقتصاديّة التي بقيت عموميّة – على قلّتها نتيجة الخوصصة – تعتبر من المال العمومي وكذلك السيارات الإدارية وميزانيّة صندوق التعويض والمؤسسات التربويّة والتعليميّة المختلفة ...إلى آخر ذلك ممّا يصعب حصره من أبواب صرف هذا المال وتدخّله في الشأن التنموي بمختلف وجوهه. إلاّ أنّ التصرّف في هذا المال كان في أكثر من مرّة محلّ تساؤل وانتقاد خاصّة مع ظهور بعض الحالات من سوء التصرّف. فالسيارات الإدارية أصبحت وسائل يستعملها أغلب المتمتّعين بها لأغراض خاصّة وهو استعمال يخلو أحيانا من أيّ رأفة أو رفق وفق تلك المقولة البالية "رزق البيليك" ومعها طبعا كميات البنزين وما يتبع ذلك الاستعمال من عمليات صيانة. وبعض تجهيزات الإدارة العموميّة أصبحت تَسْتغلّ من بعض الإداريين كما لو كانت ملكا خاصّا بهم وفي هذا الإطار تدخل الآلات الناسخة والورق المستعمل فيها إلى غير ذلك كما أنّ عدم تعهد التجهيزات وحتّى المباني بالصيانة متى وجب ذلك يُعتبر ضمن سوء التصرّف في هذه الممتلكات العموميّة. كما أنّ وجود بعض ظواهر المجاملة والمحاباة المخلّة بشفافيّة المناقصات العموميّة بإسناد بعض المشاريع أو عقود الإنتاج إلى غير مستحقّيها الحقيقيّين يمكن أن يكون أيضا من عناصر إتلاف المال العمومي وسوء التصرّف فيه. وفي هذا الإطار بالذات أفادنا بعض أهل الذكر بأمثلة يمكن الاستفادة منها لمعالجة بعض الحالات بما يمكّن من إنقاذ مبالغ هامّة من هذا المال. فإذا أخذنا مثال الزيت النباتي المدعوم فقد أكدت لنا مصادر مطلعة أن ديوان الزيت يستورد سنويّا حوالي 150 ألف طن لتكرّرها مجموعة من مصانع التكرير التي تستفيد من هذه العملية منذ حوالي 15 سنة متواصلة مقابل سعر للتكرير في تونس يُقدّر ب105 دولارا أي ما يعادل حوالي 150 دينارا تونسيّا للطن الواحد يُضاف إليها فاقد التكرير الذي يُقدّر بحوالي 4٪ من سعر التكرير ممّا يرفع التكلفة الجمليّة إلى حوالي 150 دولارا أي ما يقارب 210 دينارا وهو سعر يفرق كثيرا عن سعر التكرير في السوق العالميّة الذي لا يتجاوز 45 دولارا للطن الواحد أي بفارق حوالي 100 دولارا للطن الواحد بحيث تصبح خسارة ديوان الزيت السنويّة الناتجة عن عمليّة التكرير داخليا مقارنة بالسعر العالمي حوالي 15 مليونا دولار أي قرابة 21 مليون دينار وهو رقم قابل للتخفيض لو تُفْتح عمليّة التكرير للمناقصة بين كل المصانع المختصّة حتّى المستحدثة منها بعد قرار إسناد عمليّة التكرير لتلك المصانع الأقدم حيث يذكر مصدرنا أن تكلفة عمليّة التكرير وطنيّا يمكن أن تنزل إلى حدود 120 دينارا عندما يتمّ احترام قاعدة المنافسة الشفّافة في مثل هذه المناقصات وهو ما يعني بالنسبة لنا كمواطنين الضغط على مصاريف صندوق التعويض الذي يتولّى التعويض بنسبة هامّة عند ترويج هذا المنتوج للاستهلاك. إنّ هذه الأرقام ليست سوى مثالا يمكن أن نقيس عليه حالات أخرى يمكن أن توجد بالنسبة للمناقصات العموميّة التي تقدّر بمبالغ كبيرة جدّا تؤثر في السير العام للعمليّة التنمويّة عموما كما يمكن للمواطن استشعارها من خلال مؤشرات الأسعار التي قد تكون أحيانا ناتجة عن أصناف من الاحتكار وغياب المنافسة الشفافة وفق قواعد لعبة اقتصاد السوق الذي نتحفّظ عليه كقانون لإدارة الشأن الاقتصادي لكننا بالمقابل نطالب معتنقيه باحترام قواعده حتّى نجد مقاييس واضحة للتقييم والمتابعة. وعموما فإنّنا نعتبر أنّ هناك جملة من الضوابط التي تبدو لنا ضروريّة لإحكام التصرّف في المال العمومي ومنها: - التّأكيد على شفافيّة المناقصات العموميّة وإخضاعها للمنافسة النزيهة بعيدا عن كل أشكال المحاباة أو الاحتكار بحيث تكون مقاربة العلاقة بين السعر والجودة والشروط الاستجابة للشروط المنصوصة في المناقصة هي معايير التفاضل الوحيدة. - السعي للضغط على المصاريف العموميّة من خلال إحكام التصرّف في التجهيزات العموميّة من سيارات إداريّة وتجهيزات إداريّة ومُسْتهلكات يوميّة وعدم توظيف موازنات المؤسسات العموميّة فيما ليس من مشمولاتها أو ليس لها فيه دخل. - تفعيل مختلف الآليات والأجهزة الرّقابيّة والمشرفة على إدارة الشأنين السابقين بما يضمن حسن سيرها وضبط المخالفات في حينها والتصدّي لها بما يلزم من حزم. إنّ الالتزام بهذه الشفافيّة وهذا الحزم في إدارة المال العام والتصرّف فيه والإعلان عن التجاوزات متى حصلت ومحاسبة مرتكبيها هو من العناصر الأساسيّة لبناء الثقة بين المواطن من ناحية وبين الإدارة والأجهزة المشرفة على تلك القطاعات من ناحية أخرى بما من شأنه أن يحاصر تدريجيّا "عقليّة البيليك" ويُشعر المواطن بدوره في التنمية بعيدا عن كل أشكال المحاباة والمحسوبيّة والغموض في التصرف فيزيد من دوافعه للعمل ويرفع من مردوديته أيّا كان موقعه من عمليّة الإنتاج.