يعتبر جامع اللخمي ، أكبر المساجد في مدينة صفاقسالتونسية ، من المعالم العمرانية الهامة، فهو إضافة إلى اتساعه يجمع في هندسة بنائه بين الطابع العمراني الإسلامي الأصيل مع تحقيق شروط الهندسة المعمارية الحديثة وبني الجامع سنة 198... ويقع المسجد في موقع استراتيجي من مدينة صفاقس إذ يتوسط المدينة العتيقة والمدينةالجديدة التي بنيت في العشريات الثلاث الأخيرة. وأول أئمة المسجد هو الشيخ أحمد جبير ثم تولى الخطابة بعده عدد من الإمة وتقلبت أموره كغيره من المساجد وحاد عن دوره التربوي والتوجيهي طيلة العهد البائد. بعد الثورة طالب رواد المسجد بإمام جديد يستجيب للتحولات التي حصلت في البلاد واختاروا الشيخ رضا الجوادي الذي منع من الخطابة والتدريس منذ عشرين سنة. وقد يسر الله لي في زيارتي الأخيرة لتونس أو أؤدي صلاة الجمعة ليوم 11.03.2011 فيه. تعرضت خطبة الجمعة لقضية "العلمانية " وفي تناول الموضوع بدأ الشيخ الجوادي بتحديد مفهومي للمصطلح فرق فيه بين العِلمانية والعَلمانية فالأولى التي تنبع من العِلم لا يوجد بينها وبين الإسلام تعارض وأما الثانية والتي تعني فصل الدين عن الحياة، وفصل الدين عن الدولة ، وعن السياسة فهذه هي مكمن الخطر ، كما يقول الشيخ الجوادي. وفي هذا السياق يذكر الشيخ معتمدا على عدد من الآيات والأحاديث النبوية من مثل قوله تعالى "كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ" سورة آل عمران، 110 "وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْر" سورة آل عمران ، 159 "وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ" سورة الشورى ، 38 وانطلاقا من فهم عميق لهذه الآيات يعتبر الشيخ الجوادي أنه لا تعارض بين الدين والدولة، بين الدين والسياسة في الإسلام، ثم يشير إنطلاقا من الآيات السابقة الذكر إلى أهمية مشاركة الأمة في السياسة بحيث أن لها دورا كبيرا في تحديد سياسات البلاد وتوجهاتها . ويلمح في إشارة تاريخية ذكية إلى أن حركة التحرير في العديد من الأقطار العربية قد قادها علماء الإسلام ويضرب لذلك مثلا الشيخ عبد العزيز الثعالبي مؤسس الحركة الوطنية التونسية، والشيخ عمر المختار قائد الجهاد الليبي ضد الإستعمار الإيطالي والشيخ عبد الحميد بن باديس في الجزائر وعلال الفاسي في المغرب الأقصى. ثم يذكر بأنه رغم ما بذله هؤلاء العلماء ومن كان معهم إلا ان جهودهم تم اختطافها بعد تحرير دولهم من الإستعمار لتستولي على الحكم طبقة علمانية حكمت بدساتير مستوردة من الخارج فصلت الدين عن الحياة وحصرته في المساجد في قضايا فقهية لا تتجاوز الحيض والنفاس . وهو يدعو إلى أن لا يتكرر هذا الخطأ بعد نجاح الثورة العظيمة التي قادها الشعب التونسي والتي يحاول البعض الإلتفاف عليها وبالتالي فإنه يدعو إلى أن يكون للإسلام دور أكبر وأن دستور تونس يجب أن يحافظ بوضوح على الهوية الإسلامية للبلاد. وفي نفس هذا الإطار يشير الشيخ إلى ما تعرضت له المساجد من تغييب وتميش طيلة ما أسماه بالعهد البائد وهو ما جعل المساجد تفقد إشعاعها وجعل الكثير من الإمة ، كما يقول ، في حالة عجز عن فهم ما يجري حولهم وما يحاك ضد الإسلام ولذلك فهو يدعو إلى المزيد من تفعيل دور المساجد . وليطمأن الناس ويزيل الكثير من الشبهات يتعرض الشيخ الجوادي إلى مسألة الحدود في الإسلام التي يوضحها بالشكل التالي فهو يعتبر أنه قبل تطبيق الحدود لا بد أن تتوفر مجموعة من الشروط أهمها العدالة الإجتماعية ، فلا بد من توفير مواطن الشغل ولا بد من تأمين حياة الناس. فالعاطل عن العمل والفقير والمحتاج وغيرهم من ذوي الحاجة لا يمكن المسارعة إلى تطبيق الحدود عليهم قبل تأمبن رزق يحفظ كرامتهم وحياتهم وعائلاتهم ويستشهد في هذا الإطار بعمر ابن الخطاب الذي أبطل عام المجاعة تنفيذ الحدود. ويعتبر الشيخ الجوادي أن تونس أنجزت ثورة عظيمة ويعرب عن تفائله بالمستقبل ولكنه يحذر في نفس الوقت من الذين يريدون إفشال الثورة ويسعون إلى أن تحيد عن أهدافها كما يدعو أئمة المساجد إلى بيان الصورة الناصعة للإسلام والخروج به من دائرة الحيض والنفاس إلى الإهتمام بقضايا البلاد الكبرى وتثقيف المسلمين بالثقافة الشرعية ويدعو في نفس الوقت المسلمين إلى الإنشغال بالسياسة والحديث عن السياسة ولا يكرروا الخطأ الذي قام به جدودنا عندما نجحوا في تحرير البلاد ثم ركنوا وسلموا أمرها إلى نخبة علمانية قادتها إلى الكارثة. وبالتالي على المسلمين متابعة ومراقبة ما يجري في البلاد والمساهمة فيه بما يخدم الإسلام والمسلمين. بعد آداء الخطبة يستقبل الشيخ رضا الجوادي رواد جامع اللخمي ويجيب عن أسئلتهم استفساراتهم ويوجهم وهو ما جعله يطلب مني أن أنتظره حتى يفرغ من ذلك عندما سلمت عليه وهو محاط بعدد كبير من المسلمين. ولقد جمعتني بالشيخ الجوادي، حفظه الله، علاقة قديمة تعود إلى آخر ثمانينات القرن الماضي ولكن تعرض كلينا للمتابعات الأمنية جعل هذه العلاقة تنقطع حتى التقيته بعد ما يزيد على العشرين سنة في خطبته هذه في مسجد اللخمي. والشيخ رضا الجوادي من علماء مدينة صفاقس غير المنتمين إلى أي تيار سياسي معين غير أنه يعتز بانتمائه إلى الإسلام فقط وأكرم به من انتماء. وبعد أن انتهى من لقاءاته تحدثنا معا في بعض القضايا العامة وتذاكرنا بعض أحداث الماضي وفي الختام أهداني، مشكورا ، أقراصا تضمنت خطبه الأربعة السابقة التي ألقاها في مسجد اللخمي منذ عودته إلى الخطابة بعد عشرين سنة من المنع. حسن الطرابلسي ألمانيا 2011