عندما سكت الشعب التونسي عن المطالبة بحقوقه في الدولة اهتضمها حاكم جائر استغل أنينه وشقائه ليستبد بذلّه، وعندما نام عن تعهد شؤون حياته ومصالحه، تعهدها انتهازيون يعرفون "من أين تؤكل الكتف"، أمّا عندما مسّت مشاعره كلمات: " من لم يعانقه شوق الحياة تبخر في جوها واندثر"،انتفض، وأخذ على عاتقه عملية إزالة ما دخل على الحياة التونسية من فساد، وإنقاذ وطنه من الظلم والقهر والاستغلال، انفجرت انتفاضة أشعلت ثورة شعبية أمتدّ لهيبها لمعظم المناطق التونسية، ومنها لمعظم العواصم العربية. وانطلاقاُ من قناعتنا الراسخة بأن الشعب التونسي العريق في التمدن والثقافة، سيبقى مشدوداً إلى حركة الواقع السياسي، الاجتماعي والاقتصادي، ولن ينفك عن انجاز انتفاضات ناعمة في قضاياه الحياتية الأساسية، تعبّر عن خصوصيته التي تنبع من صميم طبيعته ومواهبه في معالجة تلك القضايا. على هذا الأساس، أتقدم ببعض الأفكار إلى جميع المختصين في الأحزاب التونسية، والفعاليات المهنية في المجتمع المدني، لعل وعسى أن تساعدهم في انتفاضاتهم الناعمة المقبلة لصياغة تونس الغد، إنما أود أن أعترف بأنني لست مختصاً في العلوم، ولست متعمقاً في القوانين العصرية المأمول اعتمادها في الانتفاضات الناعمة، وإني اكتفي من الأفكار المطروحة مضامينها العلميّة التي أعتقد بأنها ستحتل العناوين الأساسية في البرامج الاجتماعية، الاقتصادية والوطنية في أية انتخابات نيابية، حزبية، بلدية ونقابية. نأمل من المختصين في الانتفاضة الاقتصادية الناعمة الاشتراك في وضع الدراسات والتقارير الوافية عن ثرواتنا الطبيعية في سائر أنحاء وطننا، نوعها، وكيفية استثمارها بطرق عصرية تعيد إلى الوطن والمواطن الخير والرفاهية. على سبيل المثال لا الحصر، نحن نعلم أن تضاريس تونس تتميّز بقلة الارتفاع، وباتساع السهول والمنخفضات، ومناخها يتأثر بالمؤثرات البحرية والصحراوية مما يجعل أرضها جافة وغير صالحة للاستغلال الزراعي، إلا في المناطق التي تتكاثر فيها الأمطار والتربة الخصبة، أقترح على المختصين الزراعيين أن يجدوا الطرق العلميّة العصرية للتحكم في الموارد المائية، وتوسيع الرقعة المسقيّة عن طريق تشييد السدود، وإنشاء الزراعات الصناعية، والعمل على إحاطة الفلاحين بالرعاية الثقافية والصحية، وحمايتهم من طغيان أصحاب الأراضي الشاسعة، وتثبيت حقوقهم بمنحهم نصيبهم العادل في إنتاجهم. أمّا على الصعيد الصناعي، فبلادنا غنية بالموارد الطبيعية، فهناك البترول والغاز، وهناك صناعة النسيج والجلود والزيوت، وبسبب انعدام الوعي التقني فقدنا معظم هذه الموارد الأولية الهامة، نستطيع عبر إعادة تجديد هذه الصناعات وإنشاء مؤسسات جديدة أن نقضي على البطالة، ونوقف نزيف هجرة الشباب إلى الخارج. وعلى الصعيد السياحي، تونس بلاد مسحورة بالجمال، شواطئ ذهبية على مرأى من أمواجها تمتد جبال خضراء تعلو وتهبط، على تلالها منازل بيضاء ذات نوافذ زرقاء تحيط بها الورود، وتنبعث منها رائحة الياسمين، وهي غنية بالمواقع الأثرية التاريخية، فما علينا إلا أن نقنع متمولي بلادنا وأغنيائها على أن يقلعوا عن دفن ثرواتهم في المصارف الأجنبية، وإخراجها لاستثمارها في مشاريع سياحية جبارة، توفر عدة مناصب عمل للتونسيين، وتعود عليهم بالربح الهائل إذا ما عرفوا كيف يربطون هذه المواقع بشبكة مواصلات جوية، بحرية وبرية حديثة. وعلى الصعيد التجاري، الداخلي والخارجي، علينا أن نعيد التفكير بسن قوانين جديدة لضبط الأسعار ومراقبة النوعية، وإيجاد الشروط التي تكفل نجاحها، وحفظ مركز الرأسمال الوطني في جميع المشاريع التجارية الداخلية، والاهتمام بالأسواق الخارجية لتصدير منتجاتنا إليها، والاعتناء بحركة التصدير، وعدم السماح لرأسمال أجنبي وحده باستثمار تجاري في أية بقعة في وطننا. أمّا على الصعيد المالي، قد يكون من المفيد جداً أن نتعاون مع أكبر المؤسسات العالمية من أجل استرجاع ثرواتنا المنهوبة، ونفكر في حجم إيجاد أساس النقد الوطني وحمايته من التلاعب المالي الخارجي، وأن نتعلم من الأزمة المالية والاقتصادية التي عصفت بالعالم وما تبعها من انهيار للأسواق العالمية. أن نقول كلمتنا في الإصلاح الإداري، ومحاربة الرشوة، وتعيين عقوبات شديدة للمرتشين، وفي رفع مرتبات الموظفين لتحسين مستوى حياتهم المعيشي، وسن قوانين للضمانات الاجتماعية التي تحل مشكلة الفقر العام، ومشكلة البطالة. كذلك في الإصلاح الاجتماعي علينا إنشاء مؤسسات تهتم بالتربية الوطنية، وضبط مناهج التعليم الوطني، وجعله مجانياً وإجبارياً، وإيجاد تشريع جديد للزواج الذي يؤمن العائلة الراقية، وبناء مصحات تفي بحاجة الشعب في جميع المناطق. وأيضاً، ضرورة الإقرار بالفصل التام بين القضاء والسياسة والحكم، وإيجاد نظام خاص للمحاماة يزيل مفاسدها، ويصون حقوق أصحاب الدعاوى، وضمان نزاهة القضاء واستقلاله. وأخيراً ضرورة إيجاد قانون في الإصلاح السياسي يضمن حرية الرأي والقول والاجتماع، ويمنع المواطنين التونسيين من التعاطي الغير مسؤول مع السفارات الأجنبية التي تتدخل في سياسة البلاد الداخلية. كما نرجو من المختصين الابتعاد قدر الإمكان عن أي تعديل لبعض الاتفاقات والقوانين الإدارية التي لا يترتب عليها فائدة كبيرة، وأن يكونوا من الشفافية بمكان يستطيع به الشعب التونسي تولي أموره الإصلاحية بنفسه، يراقب الأحوال، ويدرس الأمور التي لها علاقة بحياته اليومية بدقة. إن انتفاضاتنا الناعمة يجب أن تستمر، لأنها تؤمن لنا الأرض وخيراتها، وتؤمن لنا العدل الاجتماعي بإعطائنا حقوقنا في العمل دون منّة من أحد، بل نريدها استحقاقاً بعملنا، وأيضاً، لأنها تؤمن لنا حقوقنا الوطنية كاملةً، وبما أن قوة الإنسان التونسي المنتفض تكمن في عقله، وقلبه وساعده، فهلمّوا أيها المتخصصون في العلوم العصرية، على اختلاف عقائدكم وتوجهاتكم السياسية، إلى القيام بانتفاضاتكم العلميّة الناعمة من أجل تحسين أوضاع الوطن والمواطن، فأنتم الأمل في الإصلاح والتغيير. تيسير العبيدي باريس