كان الرئيس بن علي يوهمنا في كل مناسبة بأن الإقتصاد التونسي بخير و يحقق نسب نمو عالية جدا تضاهي نسب النمو في بعض البلدان المتقدمة ، كما كان يؤكد على حالة الإنفراج التي يعيشها الإقتصاد بفضل قدرته التنافسية العالية و يوهم الشعب بأن تزايد أعداد العاطلين عن العمل راجع بالأساس إلى الأزمة الإقتصادية العالمية التي أثرت في الإقتصاد بصفة كبيرة كما يزعم، في حين أن الحقيقة تقول عكس ذلك : فقد كشفت الثورة عن هشاشة الإقتصاد التونسي و عن حقائق لم يكن يتوقعها أحد ، هو إقتصاد تقوده عصابات المافيا التابعة إلى عائلة بن علي المخلوع وكل المؤشرات تؤكد ذلك ، فقد تراجعت نسبة الناتج الإجمالي الخام إذ كانت هذه النسبة تقدر سنة 1997 بحوالي 5.5 % لتصل سنة 2003 إلى ما دون 2 % ، و تواصل هذا التراجع إلى حدود سنة 2009 مع إرتفاع طفيف ليبلغ الناتج الإجمالي الخام حوالي 3 % . كما أن الحلول التي كان يقدمها النظام السابق لمشكلة التشغيل هي حلول فاشلة تشرع فقط إلى المحسوبية و الفساد الإداري و الرشوة بإعتبار أن نسبة النمو الإقتصادي التي قدرت سنة 2010 ب 3.8 % لا تمكن من توفير 492 ألف موطن شغل ( 492 ألف هو عدد العاطلين عن العمل منهم 150 ألف من حاملي الشهائد العليا) . و مع إندلاع الثورة المباركة تواصل تراجع نسب النمو الإقتصادي فسجلت البلاد نسبة نمو إقتصادي أقل من 1 % أواخر شهر جانفي و شملت الأزمة قطاعات عديدة و خاصة السياحة و الفلاحة : فالوضع الحالي للقطاع السياحي يثير تساءلات عديدة أمام تراجع نسبة مساهمة السياحة في المداخيل من العملة الصعبة ، فقد بلغت نسبة التراجع 41 % إلى جانب إنخفاض عدد الليالي المقضاة بنسبة 60 % منذ بداية الثورة. كما تأزم القطاع الفلاحي بفعل تراجع الصادرات من المنتوجات الفلاحية بنسبة تفوق 50 % و صعوبات الترويج . و إزدادت هذه الأزمة سوءا مع بداية الثورة الليبية ، وقد كان لذلك تأثيرات ملحوظة على التوازنات المالية و الإقتصادية و على عدد هام من المؤسسات الإقتصادية ، فليبيا تعتبر أهم سوق للسياحة التونسية وهي المحرك الرئيسي للقطاع الصحي في البلاد إذ تستفيد منها المصاحات الخاصة و عيادات الأطباء. كما أن ليبيا كانت تحتضن العديد من الإستثمارات الخاصة التونسية في العديد من المجالات و تمثل سوق شغل هامة للعمالة التونسية ، إذ كان في فترة ما قبل الثورة يشتغل بها أكثر من 31 ألف شخص من ذوي الاختصاصات المختلفة . و مع إشتعال نيران الثورة في ليبيا تواصل إغلاق المصانع و المؤسسات و هروب المستثمرين من البلاد أمام إرتفاع سقف المطالب الشعبية المنادية بضمان الحقوق الأساسية التي تحفظ كرامة المواطن. هذه جملة من التحديات الإقتصادية المطروحة في مرحلة ما بعد الثورة فماهو الحل ...؟ ففي ظل مناخ عدم الإستقرار السياسي لا يمكن الحديث عن تنمية إقتصادية شاملة و متوازنة لأن هذه التنمية لا يمكن أن تتحقق في ظل عدم إستقرار تشكيلة الحكومة و في ظل مطالبة بعض الأحزاب بتأجيل موعد إنتخاب المجلس التأسيسي ، فهذا المطلب الأخير من شأنه أن يضع مدة أطول لعدم الإستقرار السياسي و بالتالي غياب قرار سياسي جريء من أجل الإصلاح الإقتصادي و الإجتماعي . فالمطلوب اليوم التسريع بالإعداد لإنتخابات المجلس التأسيسي في موعدها حتى نتمكن من الخروج بهذه المرحلة المؤقتة إلى بر الأمان و منها بناء ديمقراطية فعلية تكون دعامة للإقتصاد الوطني و تظمن العيش الكريم لكل المواطنين . و بإعتبار الوضع الذي يتسم بعدم الإستقرار وطنيا و عربيا، مطلوب من الحكومة المؤقتة وضع خطط واضحة للتنمية الإقتصادية على المدى القريب تتماشى و طبيعة الوضع الراهن و على المدى المتوسط و البعيد و ذلك إعدادا للمرحلة القادمة أي مرحلة ما بعد الإنتخابات التشريعية و الرئاسية. فالحلول التي تقدمها الحكومة اليوم هي حلول فوضوية لا تخضع لمنطق الدراسة و التخطيط و سيكون لها تأثير عميق على الموازنات المالية للبلاد. و لا بد من أن يحتل موضوع التنمية المتوازنة بين الأوساط الحضرية و الريفية و بين الأقاليم الساحلية و الداخلية نصيب الأسد من هذه الخطط. فكيف يمكن تحقيق ذلك ؟ هذه الخطط يمكن لها أن ترى النور إذا توفرت مجموعة من العناصر لعل أبرزها : ضرورة بناء ريف جديد و ذلك ببعث صناعات ريفية و تشجيع جهود التصنيع الزراعي و التركيز على تعديل البنى الصناعية ببعض الأرياف و تطوير المؤسسات التي تتمتع بقدرة تنافسية عالية و تشجيعها على الإستثمار في المناطق الريفية . و تأتي هذه المقترحات كنتاج لتأزم الأوضاع الإقتصادية للمجالات الريفية التونسية و محدودية الإستثمارات في هذه المجالات التي لا تزال في مستويات متدنية . و لتحقيق ذلك نحتاج إلى مؤسسة بنكية تدعم مخططات التنمية الريفية و تساعد على توفير الأرضية الملائمة للإستثمار بالأرياف التونسية و تدعيم برامج المحافظة و الإستخدام الأمثل للموارد المائية و للأرض. و بالتوازي مع خطة بناء ريف جديد يستجيب لمتطلبات المرحلة الثورية لا بد من وضع الخطط اللازمة لتنمية العديد من المراكز الحضرية خاصة بداخل البلاد و تطوير أنشطتها الإقتصادية إلى جانب تطوير الصناعات المشغلة بالمدن و خاصة الصناعات ذات التكنولوجيا العالية و النظيفة و إحداث مناطق صناعية راقية بولايات القصرين و سيدي بوزيد و قفصة قادرة على إستعاب اليد العاملة المحلية و إحداث مراكز تكنولوجية و أقطاب جامعية بهذه الولايات . و ختاما ، فإن الحكومة التونسية مطالبة اليوم بالنظر إلى المستقبل دون إهمال المطالب الظرفية للشعب و ذلك بوضع سياسات واضحة تتلاءم مع الظروف المحلية و تعزز الوحدة الوطنية . إضافة إلى تعميق الإصلاح السياسي و الإداري و الإقتصادي و صياغة خطط و آليات ملائمة لظروف البلاد و إمكانياتها ، تلائم قوانين إقتصاد السوق من أجل تحقيق تنمية متوازنة و شاملة و عادلة توفر المطلوب لكل مواطن تونسي... محمد الطرابلسي بئر بن عياد- صفاقس