الجدل حول الدولة الدينية والدولة المدنية جدل قديم جديد، يثار من حين لآخر بحسب المستجدات على الساحة السياسية. يأخذ هذا الموضوع اليوم في تونس حيزا كبيرا في الساحة الفكرية وبين فئة المثقفين خصوصا، رغم أنه ليس من أولويات المرحلة لكنه فرض نفسه ودفعت إليه بعض الأطراف ولغاية في نفس يعقوب، أهمها صرف النظر عن المشاكل الحقيقية التي تنخر جسم البلاد والتي قامت من أجلها الثورة ودفعت في سبيل حلها الدماء. أقول فرضت هذه المواضيع على الساحة ، فأصبح الانخراط في هذا النقاش وعدم ترك الساحة للاتهامات المجانية التي تتهم الفكر الإسلامي بالتأسيس للسلطة الدينية، يصبح واجبا لتوضيح ما التبس على من يتهمون الإسلام جهلا بأنه يؤسس أو ينادي بدولة تقوم على السلطة الدينية بمفهومها الكنسي، ثم تحرير موطن الخلاف حول مفهوم الدولة الدينية التي يرفضها الإسلام قالبا ومضمونا ومفهوم الدولة المدنية التي أقيمت وتأسست مع مجيء الإسلام الذي سبق فيها بقرون الدول التي عرفتها حديثا... ما هو مفهوم السلطة الدينية؟ السلطة الدينية هي أن يدعي فرد أو جماعة ما لنفسه صفة الحديث باسم الله وان يسند لنفسه "حق الانفراد بمعرفة رأي السماء وتفسيره وذلك فيما يتعلق بشؤون الدين أو بأمور الدنيا" أصحاب هذه السلطة عادة ما يدعون أنهم مختارون من الله وأنهم يمثلون إرادة الخالق، مفوضون من الله، لا ينطقون عن الهوى، معصومون....تبعا لتلك الصفات فان الخروج عن طاعتهم يعدونه خروجا عن طاعة الخالق وعصيانا له. اتخذ هدا التفويض الذي نسبوه إلى أنفسهم كذريعة للهيمنة والانفراد بالحكم، دفع الإنسان باسم هذا التسلط ثمنا غاليا من حريته وكرامته وإنسانيته. الأمثلة متعددة عبر التاريخ، استعمل فرعون هذه الوسيلة لتسخير شعبه لخدمته وعلا وتجبر وقال أنا ربكم الأعلى. في زمن أكاسرة الفرس، انفرد كسرى بالحكم بادعائه أن له علاقة باله اسمه"أهورا" فسادت تحت "ظل عرشه" أوضاع فاسدة وجائرة...نفس الموّال كان سائدا في ظل القيصرية الرومانية. القيصر هو ابن السماء...تعفنت الوضعية وتجذرت بعد اعتناق المسيحية، فخنقت الكنيسة حركة العلم وحرقت العلماء وكتمت الأنفاس باسم السلطة الدينية، باسم السلطة الدينية فرضت الخرافات والأكاذيب و أججت الخلافات بين الشعوب وغذت الحروب الدينية.... أمام هذه الوضعية ثارت الشعوب الاروبية كردة فعل خاصة على وقوفها (الكنيسة) ضد العلم وحرية التفكير. فجاءت العلمانية كاستجابة لظروف موضوعية، أساسها نشر البدع والخرافات وخنق حرية الفكر من طرف الكنيسة وتسلط رجالاتها على كل مناحي الحياة وتكبيل مسيرة التحضر والعمران باسم ادعاء أنهم يمثلون إرادة الخالق(تعالى الله عما يقولون). اذا في الحقيقة لم تكن العلمانية هدفا بحد ذاته بل كانت وسيلة لتحرير الفكر من الخرافة ومن هيمنة الكنيسة... فهل حكم الإسلام باسم الخرافة أو جاء ليحاربها؟ هل حارب الإسلام حرية الفكر أم أنه كان السباق لتحرير العقل، بل السباق لترجمة علوم الشعوب الأخرى بمختلف تخصصاتها؟ هل عشنا نفس الظروف التي عاشتها أروبا في عهد التسلط الكنسي حتى نطالب بالعلمانية؟ هل في الإسلام سلطة دينية ورجال دين كالذين حكموا في أروبا ؟؟ ليس في الإسلام رجال دين كالذين كانوا في أروبا، أو رجال الكنيسة. الدين في الإسلام ملك الجميع ينهلون منه كل على قدر ما يستطيع وما يتوصل إليه عبر مؤهلاته الفكرية "ولكل درجات مما عملوا." الدين في الإسلام ليس حرفة، أكرم الناس عند الله أتقاهم وهذه الصفة متاحة للجميع وليست حكرا على أحد: للخفير وللرئيس، للفقير وللغني، لأي كان مهما كانت وظيفته...لا وساطة في الإسلام بين العبد وربه, الأبواب مفتوحة للجميع. طبعا هناك تخصصات في الإسلام كأي تخصص في الجوانب الفقهية والتشريعية، وهي أيضا مجالات يقتحمها من يشاء شريطة توفر القدرات العلمية. وأصحابها لا يملكون بصفتهم هذه سلطة على الناس ولا امتيازا طبقيا، واجتهاداتهم ليست معصومة بل يأخذ منهم ويرد عليهم . لم يكن تاريخنا الإسلامي منزها كليا عن هذه النزوات، بل تسربت إلى عقول بعض سلاطينه الذين أغرتهم المناصب بعض من تلك الأفكار، رغم تأثير ذلك على الأمة، كسد أبواب الاجتهاد، فأن تأثير هؤلاء ظل محدودا نسبيا. السبب يرجع أساسا إلى أن المجتمع كان مدنيا وكانت سلطة الدولة محدودة، وفي المقابل كانت مؤسسة الوقف الإسلامي من أقوى المؤسسات وهي نظام فريد من نوعه يقود الأمة في عدة مجالات دون الرجوع للحاكم...الدليل على استقلالية المؤسسات التي كانت وراء البناء الحضاري للأمة، انه زمن الحروب الصليبية مثلا انهار النظام السياسي لكن الأمة ظلت واقفة ولم تسقط، فكان تسلط الحكام محدودا نسبيا وان حكم بمعنى التسلط الديني... الفكر الإسلامي بكل مدارسه ومذاهبه يرفض سلطة رجال الدين أو السلطة الدينية التي تدعي أنها مفوضة من الله وهي منزهة ومعصومة. ليس لأحد في الإسلام إضفاء القدسية على آرائه، فالعصمة ينفيها الإسلام عن البشر جميعا، ولا يعترف بها الا للرسول عليه الصلاة والسلام وبالذات في الجانب الديني من دعوته. أما بخصوص الجانب الدنيوي، فعندما أقام الدولة ونظم المجتمع كان بشرا مجتهدا خاصة عند غياب النص القرآني الصريح. كان يضع اجتهاداته موضع الشورى، مصداقا لذلك جاء قوله عليه الصلاة والسلام:"ما كان من أمر دينكم فاليّ وما كان من أمر دنياكم فأنتم أعلم به." بموت سيد الخلق عليه الصلاة والسلام انتهت السلطة الدينية، وحلت محلها سلطة مدنية شورية، قائمة على الاختيار والعقد والبيعة... أن اتهام الإسلام بأنه ينادي بسلطة دينية على شاكلة السلطة الكنسية وبالمفهوم الذي أوردته سابقا، وبالتالي عليه القبول بالعلمانية وعليه أن يتحول الى مجرد نزعة فردية وشأن خاص لا دخل له بالحياة العامة، شأنه في ذلك شأن الكنيسة، هو نوع من المناورة ونوع من التظليل. فحتى في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم لم تكن هناك سلطة دينية بالمعنى المذكور. هناك تمييز بين السلطة الدينية التي هي سلطة البلاغ وبين سلطة الدولة المدنية المحكومة بالتشريعات الإسلامية والمرتكزة على الاجتهاد والشورى... الإسلام هو أول تشريع سن قوانين المواطنة، سبق في ذلك كل العقائد والتشريعات بقرون.(بينت ذلك في مقالتي السابقة: في الرد على العلمانيين....حقوق المواطنة في الإسلام). في أمان الله مفيدة حمدي عبدولي