بعد صدور قرار وزارة الداخلية التونسية في مطلع شهر أبريل 2011م، والقاضي باعتماد صور النساء المحجبات في بطاقات الهوية وجوازات السفر، تكون تونس قد أسدلت الستار على حقبة مظلمة من تاريخها الحديث، تعرضت فيها المرأة التونسية لمصادرة حقها في ارتداء اللباس الذي تريده، وتحديداً الحجاب الشرعي.. ورغم أن الوزارة وصفت عملية رفع المظلمة ب« تبسيط الإجراءات المتعلقة بالمواصفات المطلوبة في الصورة المعتمدة في بطاقة التعريف الوطنية (الهوية)، حيث سيُسمح مستقبلاً بتسليم البطاقة للمواطنات المحجبات»، وسيُكتفى بشروط إظهار الوجه والعينين في الصورة.. فإن الحدث في حد ذاته يُعَدُّ قطعاً مع مرحلة مأزومة على مختلف الأصعدة. لقد عانت التونسيات كثيراً من الإجراءات التعسفية والقمعية لنظام «بورقيبة»، ثم «بن علي»، على مدى يزيد على خمسين عاماً، ولاسيما بعد صدور المنشور (108) سيئ الذكر، والذي يحظر على النساء ارتداء الحجاب. وأدى ذلك إلى طرد آلاف النساء من مختلف الوظائف؛ مثل الطبيبات، والمهندسات، والكوادر الجامعية، وشمل ذلك القطاع الخاص، والطالبات في جميع المراحل الدراسية من الثانوية وحتى الجامعة، وهو ما عكّر صفو الاجتماع المدني في تونس، وزاد من توتير الأوضاع سياسياًً وثقافياً واجتماعياً. وكان سقوط «بن علي» في 14 يناير 2011م بمثابة سقوط «حائط برلين» بالنسبة لحرية ارتداء الحجاب لآلاف التونسيات، لكن أجزاء من الحائط الكريه ظلت قائمة في تونس، وتمثلت في استمرار رفض استخراج جوازات السفر للتونسيات المحجبات، حتى صدور قرار وزارة الداخلية الأخير، محققاً بذلك بعض وعود الثورة التونسية، وهي الحرية التي حُرمت منها التونسيات على مدى يزيد على خمسة عقود. وانضمت تونس بذلك إلى جميع الدول التي يمكن فيها للنساء المحجبات استخراج بطاقات الهوية وجوازات السفر بالحجاب، كما أن هناك دولاً خليجية تسمح بأن تضع المرأة غلالة رقيقة على وجهها في صورة جواز السفر. وكانت تونس حالة فريدة من نوعها في العالم بشأن التعامل مع النساء المحجبات، فهي أول من أعلن الحرب على الحجاب في العالم، في وقت تراجعت فيه تركيا كثيراً، وخففت القيود على الحجاب إلى أبعد الحدود، واستُبدل «كشف الشعر» بعبارة «كشف الوجه»، وأُقيلت مسؤولة من منصبها، وهي «عائشة سوجو»، لتصريحها بأن «الحجاب ليس فريضة في الإسلام». لقد تجاوزت تونس بقرار وزارة الداخلية حيال الحجاب ذلك الزمن الرديء، الذي كانت فيه المحجبات يُرغمن على توقيع تعهدات بعدم ارتداء الحجاب في مخافر الشرطة، ويُنتزع الحجاب من فوق رؤوسهن في الشارع، وتُمنع فيه المحجبات من العمل، وحتى من وضع مواليدهن الجُدد في المستشفيات، حتى التشكّي كان يُرفض من المتدينين! وطيلة العقود الماضية، استمرت الإجراءات الممنهجة ضد المحجبات، ولا سيما الطالبات اللاتي تعرضن للطرد من المدارس والمعاهد، بل وصل الأمر إلى حد ضرب المحجبات داخل الفصول الدراسية. وكانت تونس قد سبقت فرنسا في منع الحجاب في المدارس، وفصل المعلمات وغيرهن من وظائفهن بسبب الحجاب.. وما جرى بعد ذلك في مختلف أنحاء العالم ولا سيما أوروبا، كان انعكاساً لتداعيات الإجراءات التي اتخذها نظام «بورقيبة» ثم «بن علي» ضد الحجاب والمحجبات في تونس. وربما تكون أذربيجان، التي تشهد مظاهرات مستمرة ضد منع الحجاب في الجامعات، حالة خاصة تحاكي تونس؛ نظراً لطبيعة نظامها الدكتاتوري الذي يحكم البلاد بقوة الحديد والنار منذ عدة عقود.. وكان وزير التعليم الأذري «مصر مردانوف» قد رفض ارتداء الطالبات للحجاب، واصفاً إياه ب«اللباس الديني»، بينما كان يُطلق عليه في دوائر السلطة التونسية السابقة تسميات مختلفة، منها «اللباس الطائفي»، و«اللباس المستورد»، وهو ما كان يثير استغراب المراقبين. ولم يثر منع الحجاب في تونس بدون موجب قانوني بعض الدوائر الحقوقية والسياسية، ولا سيما بعض فصائل اليسار، التي ساندت السلطات السابقة في تونس في إجراءاتها القمعية ضد الإسلاميين عموماً، والنساء المحجبات خصوصاً، حيث قدمت الغطاء الأيديولوجي والإعلامي لقمع المحجبات.. واليوم لا يرون في عملية منع المحجبات من الاحتفاظ بحجابهن في صور بطاقات الهوية وجواز السفر أي غضاضة، ويحاولون لفت الأنظار عن ذلك بالتخويف من إمكانية فرض الحجاب في تونس. لكن ما يتماثل فيه الوضع في تونس مع غيره في الدول الأخرى، هو أن المنع والتضييق زاد من عدد المحجبات، وقد بلغت نسبتهن في بلد مثل تركيا أكثر من سبعين في المائة. إن رفع الغبن والظلم عن المحجبات التونسيات، اللاتي عانين كثيراً من الاضطهاد والقمع بسبب الحجاب، يُعد من ثمار الثورة التونسية المباركة التي وضعت حداً لسياسة تجفيف المنابع الدينية، الذي بدأ منذ عام 1957م، وبلغ ذروته مع الانقلاب المشؤوم في 7 نوفمبر 1987م. وقد أشارت وزارة الداخلية التونسية في بيانها بهذا الخصوص إلى أن «الإجراء يندرج ضمن الإصلاحات المتواصلة من أجل تكريس مبادئ وقيم الثورة المجيدة، وضمان الاحترام الفعلي للحريات العامة والفردية». نضال طويل ولا شك، فإن قرار إلغاء الحظر على الحجاب لم يكن هدية ولا منّّة من أحد، وإنما نتيجة نضال طويل، وتضحيات جسام قدمتها المحجبات ومَن ساندهن مِن الأهل، ومن المنظمات الحقوقية الجديرة بهذا الاسم المشرّف، وليست تلك المنتفخة كالطبل، والتي تحكم المعايير الأيديولوجية فهمها للحقوق. وفي هذا السياق، يمكن أن نتحدث عن دور «لجنة الدفاع عن المحجبات في تونس»، وجمعية «حرية وإنصاف»، واللجنة الدولية للدفاع عن المساجين السياسيين في تونس، في الدفاع عن حق المحجبات.. وقد نشطت المحجبات والمنظمات المدافعة عن حقهن في ارتداء الحجاب، وفي استخراج بطاقات الهوية وجوازات السفر بدون الحاجة إلى نزعه، لا سيما بعد الثورة؛ حيث تظاهر الكثير منهن ومن ذويهن ومناصريهن أمام وزارة الداخلية التونسية، مطالبين بحق المرأة المحجبة في استخراج بطاقة هوية بصور تظهر فيها بغطاء الرأس. ونجحت هذه المطالب في وأد المرسوم الصادر في عهد الدكتاتور المخلوع «بن علي» عام 1993م، والذي يحرم المحجبات من حقهن في الحصول على بطاقات الهوية وجوازات السفر وهن مرتديات للحجاب. وقبل ذلك، وتحديداً في 12 فبراير الماضي، تم السماح للملتحين بالحصول على جوازات السفر وبطاقات الهوية دون اضطرارهم إلى حلق لحاهم كما كان معمولاً به منذ عهد «بورقيبة»، واستمر ذلك الإجراء الفاشي في عهد «بن علي». وفي 15 مارس الماضي، وعلى إثر اعتصامات نفذتها «لجنة الدفاع عن المحجبات في تونس»، واستمرت عدة ساعات أمام وزارة الداخلية التونسية، وُصفت بالناجحة، سلمت اللجنة بياناً إلى وزارة الداخلية شمل أسماء المتضررات من الإجراءات التعسفية السابقة، والتي تحرمهن من بطاقة التعريف الوطنية (الهوية) لكونهن محجبات. وطالب البيان الوزارة بالعمل على تحقيق وعود الثورة التونسية، وهو القطع النهائي مع إرث الماضي الدكتاتوري الاستبدادي، ووقف المشروع العار المتمثل في سياسة تجفيف المنابع.. ومن بين الحالات التي رصدتها اللجنة، «عفاف بن عمار»، و«جليلة العمري»، و«مريم رزقي»، وغيرهن. وكانت اللجنة قد دعت إلى احتجاج شعبي كبير يوم الأول من أبريل الجاري، لكن قرار وزارة الداخلية بالاعتراف بحق المحجبات ألغى الاعتصام، وفتح آفاقاً واسعة من الحرية التي ينشدها الشعب التونسي، والأمة عموماً. المصدر :مجلة المجتمع الكويتية