يعدّ "نزيف الأدمغة" من أكثر المواضيع التي تشغل الجزائريين منذ سنوات طويلة، ويجري الحديث دوما عن كفاءات جزائرية في اختصاصات شتى أرسلتها الحكومة لمتابعة تحصلها العلمي في إحدى جامعات العالم، لكنها فضلت البقاء في الغرب بعد إتمام دراستها لإفادته بكفاءتها ومواهبها. وتشير صحيفة "الاتحاد" الإماراتية إلى أن الجزائر وضعت في الآونة الأخيرة مخططاً للاستفادة من باحثيها وكفاءاتها العلمية المتواجدة في عدد من الدول المتقدمة، لاقتناعها بتعذر عودتها إلى البلد للإسهام في تنميته وتطويره لأسباب عديدة. كما قررت الحكومة منذ بضع سنوات تقليص عدد المنح التي تقدمها لطلبتها المتفوقين لإتمام دراستهم في الخارج إلى أدنى حد، بعد أن اتضح أن أغلبهم لا يعودون إلى البلد ويفضلون الاستجابة لإغراء الدول المتقدمة التي يتكونون فيها بأموال الجزائر. ويرى البعض أن تفشي البيروقراطية المنفّرة للباحثين وتدهور الظروف الاجتماعية والمهنية للأساتذة والباحثين الجزائريين دفع بعضهم إلى تنظيم الإضرابات في السنوات الأخيرة للمطالبة بتحسين أوضاعهم جذرياً وفي مقدمتها مضاعفة الأجور وتوفير السكن لكل أستاذ وباحث. وكشف تقرير للمجلس الاقتصادي والاجتماعي بالجزائر أعدّه سنة 2005 حول هجرة الأدمغة، عن أرقام مرعبة حول الظاهرة، إذ أحصى هجرة 71500 جزائري إلى الخارج بين سنوات 1994 و2006، أي خلال 12 سنة فقط. واعتبر التقرير أنها "أكبر موجة هجرة للكوادر منذ استقلال الجزائر في 1962 إلى الآن"، وهو ما كبّد البلد خسارة فادحة قدّرها ب 40 مليار دولار، باحتساب 100 ألف دولار كمتوسط تكوين الكفاءة الواحدة. وقال الدكتور أحمد قسُّوم (أستاذ بجامعة العلوم والتكنولوجيا بالجزائر) إن "الكثير من الجامعات والمستشفيات وكذا الشركة الجزائرية للبترول وغيرها خسرت أساتذتَها وأطباءها وكوادرها لصالح مؤسسات دولية كبيرة، وهذه خسارة كبرى لنا". ورد قسُّوم خسارة كل هؤلاء الباحثين في هذا الوقت القصير لعاملين هما "تفاقم الإرهاب في التسعينيات، وعدم توفر بيئة مثالية للعمل والبحث بالبلد". وكان الإرهاب الذي اندلع في يناير 1992 استهدف اغتيال المئات من الأساتذة الجامعيين والمثقفين والإطارات في اختصاصات شتى والصحفيين وكل من رفض الوقوف معه، وخلف ذلك موجة رعب كبيرة دفعت آلاف الإطارات الجزائرية إلى المغادرة نحو بلدان مختلفة وفي مقدمتها فرنسا وبريطانيا وألمانيا والولايات المتحدة وكندا.. وهو ما شكّل نزيفاً كبيراً لبعض الجامعات والمؤسسات، حتى أن الجامعات فقدت نحو 2600 من خيرة أساتذتها وباحثيها، ما أجبرها على الاستنجاد ببعض طلبة الماجستير لسدّ النقص في مجال التدريس. واستقبلت ألمانيا وكندا المئات من المتخصصين بالمعلوماتية. وكشف الدكتور مصطفى خياطي رئيس هيئة ترقية البحث عن "استقبال المستشفيات الفرنسية نحو 7 آلاف طبيب وجرّاح جزائري كفؤ في مختلف الاختصاصات الطبية". ولم يقتصر الأمرُ على الباحثين والكفاءات التي كانت تشتغل بالجزائر لسنوات قبل أن تقرر الهجرة بدافع الإرهاب أو بحثاً عن رغد العيش، بل يمتدّ النزيفُ ليشمل أيضاً عشرات الآلاف من الذين أرسلتهم الدولة على نفقتها إلى مختلف الجامعات المتقدمة لإكمال دراساتهم العليا بها، ورفضوا العودة بعد ذلك. ويكشف حفيظ أوراج (المدير العام للبحث العلمي بوزارة التعليم العالي الجزائرية) عن أن 25 ألف طالب من ضمن 50 ألفاً تم إيفادهم في بعثات خارجية رفضوا العودة بعد إكمال دراستهم بالخارج، ما كبّد الجزائر خسارة 700 مليون دولار، وهو قيمة تكاليف تدريبهم في الجامعات الغربية طيلة 40 سنة، ما جعل الدولة تعيد النظر في سياسة إرسال طلبتها المتفوقين إلى الجامعات الغربية لإكمال دراساتهم العليا. وتتم إعادة النظر في الظاهرة، "خاصة أن الجزائر باتت تزوِّد الدول المتقدمة مجاناً بالمدرسين الجامعيين والباحثين والأطباء الاختصاصيين والكفاءات التي كوّنتها بأموالها.. ولا يُعقل أن تزرع ليحصد الآخرون".