منوبة: احتراق حافلة نقل دون تسجيل أضرار بشرية    تلقيح 23 ألف رأس من الأبقار ضد مرض الجلد العقدي في هذه الولاية..    عاجل/ مسؤول يؤكد تراجع أسعار الأضاحي ب200 و300 دينار..ما القصة..؟!    تونس تستقبل أكثر من 2.3 مليون سائح إلى غاية 20 أفريل 2025    مختصون في الطب الفيزيائي يقترحون خلال مؤتمر علمي وطني إدخال تقنية العلاج بالتبريد إلى تونس    الانطلاق في إعداد مشاريع أوامر لاستكمال تطبيق أحكام القانون عدد 1 لسنة 2025 المتعلق بتنقيح وإتمام مرسوم مؤسسة فداء    حزب "البديل من أجل ألمانيا" يرد على تصنيفه ك"يميني متطرف"    في مظاهرة أمام منزله.. دروز إسرائيل يتهمون نتنياهو ب"الخيانة"    جندوبة: سكان منطقة التوايتية عبد الجبار يستغيثون    فترة ماي جوان جويلية 2025 ستشهد درجات حرارة اعلى من المعدلات الموسمية    جندوبة: انطلاق فعاليات الملتقى الوطني للمسرح المدرسي    فيلم "ميما" للتونسية الشابة درة صفر ينافس على جوائز المهرجان الدولي لسينما الواقع بطنجة    عاجل/ هذه البلدية تصدر بلاغ هام وتدعو المواطنين الى الحذر..    البرلمان : مقترح لتنقيح وإتمام فصلين من قانون آداء الخدمة الوطنية في إطار التعيينات الفردية    استقرار نسبة الفائدة في السوق النقدية عند 7.5 %..    عاجل/ قضية التسفير..تطورات جديدة…    عمدا إلى الإعتداء على شقيقين بآلة حادة ... جريمة شنيعة في أكودة    عاجل : ما تحيّنش مطلبك قبل 15 ماي؟ تنسى الحصول على مقسم فرديّ معدّ للسكن!    الرابطة المحترفة الاولى: صافرة مغربية لمباراة الملعب التونسي والاتحاد المنستيري    بطولة افريقيا للمصارعة بالمغرب: النخبة التونسية تحرز ذهبيتين في مسابقة الاواسط والوسطيات    الإفريقي: الزمزمي يغيب واليفرني يعود لحراسة المرمى ضد النادي البنزرتي    خطر صحي محتمل: لا ترتدوا ملابس ''الفريب'' قبل غسلها!    إلى الأمهات الجدد... إليكِ أبرز أسباب بكاء الرضيع    ارتفاع تكلفة الترفيه للتونسيين بنسبة 30%    صيف 2025: بلدية قربص تفتح باب الترشح لخطة سباح منقذ    في سابقة خطيرة/ ينتحلون صفة أمنيين ويقومون بعملية سرقة..وهذه التفاصيل..    إيراني يقتل 6 من أفراد أسرته وينتحر    القضية الفلسطينية تتصدر مظاهرات عيد الشغل في باريس    عاجل/ هلاك ستيني في حريق بمنزل..    أبرز ما جاء في زيارة رئيس الدولة لولاية الكاف..#خبر_عاجل    الرابطة المحترفة الأولى (الجولة 28): العثرة ممنوعة لثلاثي المقدمة .. والنقاط باهظة في معركة البقاء    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    عاجل/ أمطار أعلى من المعدلات العادية متوقعة في شهر ماي..وهذا موعد عودة التقلبات الجوية..    الرابطة المحترفة الثانية : تعيينات حكام مقابلات الجولة الثالثة والعشرين    نهائيات ماي: مواجهات نارية وأول نهائي لمرموش في مانشستر سيتى    الأشهر الحرم: فضائلها وأحكامها في ضوء القرآن والسنة    الصين تدرس عرضا أميركيا لمحادثات الرسوم وتحذر من "الابتزاز"    لي جو هو يتولى منصب الرئيس المؤقت لكوريا الجنوبية    سعر ''بلاطو العظم'' بين 6000 و 7000 مليم    عيد الاضحى 2025: الأضاحي متوفرة للتونسيين والأسعار تُحدد قريبًا    سقوط طائرة هليكوبتر في المياه ونجاة ركابها بأعجوبة    رئيس الجمهورية: تونس تزخر بالوطنيين القادرين على خلق الثّروة والتّوزيع العادل لثمارها    صفاقس ؛افتتاح متميز لمهرجان ربيع الاسرة بعد انطلاقة واعدة من معتمدية الصخيرة    وجبة غداء ب"ثعبان ميت".. إصابة 100 تلميذ بتسمم في الهند    "نحن نغرق".. نداء استغاثة من سفينة "أسطول الحرية" المتجهة لغزة بعد تعرضها لهجوم بمسيرة    توتنهام يضع قدما في نهائي الدوري الأوروبي بالفوز 3-1 على بودو/جليمت    بقيادة بوجلبان.. المصري البورسعيدي يتعادل مع الزمالك    ملف الأسبوع.. تَجَنُّبوا الأسماءِ المَكروهةِ معانِيها .. اتّقوا الله في ذرّياتكم    خطبة الجمعة .. العمل عبادة في الإسلام    الوضع الثقافي بالحوض المنجمي يستحق الدعم السخي    أولا وأخيرا: أم القضايا    انتخاب رئيس المجلس الوطني لهيئة الصيادلة رئيسا للاتحاد الافريقي للصيادلة    ارتفاع طفيف في رقم معاملات الخطوط التونسية خلال الثلاثي الأول من 2025    يوم دراسي حول 'الموسيقى الاندلسية ... ذاكرة ثقافية وابداع' بمنتزه بئر بلحسن بأريانة    نحو توقيع اتفاقية شراكة بين تونس والصين في مجال الترجمة    توقيع عدد من الإصدارات الشعرية الجديدة ضمن فعاليات معرض تونس الدولي للكتاب    محمد علي كمون ل"الشروق" : الجمهور على مع العرض الحدث في أواخر شهر جوان    اليوم يبدأ: تعرف على فضائل شهر ذي القعدة لعام 1446ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الجماهير الكادحة في الريف التونسي (1/3) : تزايد التّفقير بقلم : منير العوادي
نشر في الحوار نت يوم 01 - 06 - 2011

الجماهير الكادحة في الريف التونسي الحلقة الأولى (1/3) : تزايد التّفقير بقلم : منير العوادي
1 جوان 2011
تكشف التحاليل التي تناولت الانتفاضة الشعبية التي وقعت أخيرا في تونس عن غياب أيّ جهد نظري خاص يدلّ على الاهتمام بأوضاع الرّيف التونسي، بالرغم من أنّ كادحي الريف شكّلوا المبعث الأصلي، أو الشرارة الأولى، التي انطلقت منها أهمّ الانتفاضات في التاريخ المعاصر. ويُعزى هذا التقصير، المتمثل في قلة الاهتمام بشؤون البوادي والأرياف، إلى طبيعة "الثقافة المدينية"، السائدة في أوساط النخبة الفكرية والسياسية، التي تستبطن في أعماقها ضربا من التفكير ينظر بتعال واشمئزاز إلى قضايا الفلاحين وشؤون حياتهم اليومية، وهي ثقافة مارس النّظام الحاكم في تونس منذ 1956، دورا أساسيا في تكريسها وتدعيمها، وقَبِل ضمنياتها ومُضمراتها، سائر المثقفين، بمن فيهم أولئك الذين عارضوا النّظام وناصبوه العداء.
المعالم الأساسية لسياسة النظام في الرّيف
: حرص النّظام القائم في تونس على أن يحتكر تصريف أمور الريف، وبالتالي السيطرة على الفلاحين، من خلال إجبارهم على الخضوع إلى جهاز إداري أخطبوطي لا يهمّه في المقام الأوّل إلاّ توفير شروط الهيبة والمثابة :
من مكاتب وثيرة، وسيارات إدارية، ومساكن فخمة،.... حتى يستطيع بعد ذلك التفرغ للقيام بمهمته الأصليّة، المتمثلة خاصة في إقامة صرح كامل من القوانين والتدابير القهريّة الجائرة، التي تمكّن من التدخل الحاسم في كلّ صغيرة أو كبيرة تهمّ سكان الريف، بغاية تطويقهم، وإحكام القبضة عليهم في كافة المجالات :
الأوضاع العقارية، توزيع الأراضي، إسناد القروض البنكية، التحكّم في ريّ المياه، ضبط مسالك التوزيع.....
وقد أدّت السياسة الفلاحية التي انتهجتها السلطة الحاكمة إلى تكريس سياسة طبقية جائرة، من خلال: أولا: ترسيخ أقدام الإقطاعيين وتواصل نفوذهم، بشكل يكاد يكون مطلقا، على الريف. ثانيا: إبقاء الفلاحين المتوسطين، وخاصة الصّغار، فريسة للنهب بكلّ أصنافه، ولضروب متنوعة من الفاقة غير العادية.
I / وضعية كبار ملاكي الأرض: تتركّز أهمّ الملكيات الكبرى، في المجال الزراعي في تونس، بأجود الأراضي الفلاحية وأكثرها خصوبة ( وخاصة زراعة الحبوب بالشمال الغربي، والقوارص وكروم العنب بالوطن القبلي، والزياتين بجهتي الساحل وصفاقس، والنخيل بواحات الجنوب)، بين أيدي ثلّة قليلة من الأعيان، الذين يشكّلون الطبقة الإقطاعية. وكثيرا ما يلجأ أفراد هذه الطبقة إلى نظام الاستغلال بالوكالة، عوض الاستغلال المباشر، من خلال أسلوب عمل، يستند إلى أنواع متعددة من "التعاقد"، بين أرباب الأرض وأصحاب العمل، يقوم بموجبها المزارع بخدمة الأرض مقابل التزامه بتقديم النّصيب الأوفر من الإنتاج إلى صاحب الأرض، ويحتفظ لنفسه بالجزء القليل المتبقّي. ولعلّ من أهمّ أشكال العمل التي تعكس علاقات الإنتاج الإقطاعية، والتي ما زالت سائدة إلى اليوم في الريف التونسي :
"الخماسة" و"المساقاة": التي تنتشر خاصة في الأراضي السقوية وفي جهتي الساحل والواحات. وعادة ما يستند "الخماس" إلى مجموعة من "القيالة" الذين يعملون تحت إمرته.
"المغارسة": حيث يتعهد المزارع بالعمل في الأرض التابعة للمالك ( غرس الأشجار وفتح القنوات...)، وحينما تُثمر الأشجار يستلم المزارع الفقير جزء من الإنتاج، يتراوح من الربع إلى النصف. وفي العديد من الحالات تتجاوز التسليفات المتراكمة على الفلاح الحصّة المستحقة له.
"الهطاية" : وهي تتمثل في انتقال مجموعات من الأفراد (تصطحبهم عائلاتهم)، في فصل الصيف، من منطقتي الجنوب والوسط إلى منطقة الشمال، قصد الحصاد، بمقابل عيني، يساوي العشر (1/10) بالنسبة للقمح، والخمس (1/5) بالنسبة للشعير. وإذا أراد المزارع أن يُمكّن ماشيته من الرعي في أرض الإقطاعي، فعليه أن يدفع مقابل ذلك بدلا عينيا.
"الظهارة" : المنتشرة خاصة في الشمال الغربي، والمتمثلة في دفع كراء الأرض نظير جزء من الصابة، يُقدم في نهاية كل موسم زراعي، طبقا لقاعدة تقديرية، تختلف من جهة إلى أخرى. وتخضع عملية المحاصصة هذه إلى تشريعات قانونية، وجملة من التقاليد والعادات والأعراف العتيقة والبالية، والتي تتغير حسب طبيعة الأحوال والظروف المحلية والخاصّة بكلّ جهة. كما أمكن لبعض أفراد الطبقة الإقطاعية تكديس أموال طائلة إضافية، باعتماد أساليب "عصرية" و"مستحدثة"، تتمثل خاصة في: أوّلا: شراء المعدّات والآلات الفلاحية، وتسويغها للفلاحين الصغار والمتوسطين. وتدرّ عمليات التسويغ هذه فوائد ربحية هامة. ثانيا : الحصول على القروض بتسهيلات كثيرة من البنوك، إذ تخول شهادة ملكية الأرض الحصول على هذه القروض، في حين يُحرم من هذا الحق فقراء الفلاحين ومتوسطيهم، نظرا لعدم قدرتهم على إثبات ملكيتهم، وضبط مساحتها وحدودها، بواسطة رسوم عقارية، تُجيز لهم حقّ بيع الأرض أو رهنها. فلا يُمكنهم والحال تلك إلاّ التّداين من الإقطاعيين، مع ما يترتب عن ذلك من تحوّلهم إلى لقمة سائغة للمستغلين. وهو ما يؤدّي في النهاية إلى مزيد استحكام علاقة تبعية الفلاحين الفقراء لهذه الأقليّة من الملاكين الكبار. ثالثا: التوجه إلى المدن الأساسية للاستثمار في قطاع العقارات السكنية والتجارية، وهو قطاع يشكّل اليوم في تونس أحد أهمّ مجالات الإثراء، إذ يدُرّ على أصحابه، سواء عن طريق البيع أو الإيجار، أرباحا مالية خيالية. "أهل الشمايل" إنّ نمط الإنتاج الإقطاعي ليس نسقا اقتصاديا فقط، بل هو كذلك نظام اجتماعي وفكري، يقوم على الإقرار بدونية المرأة، والتعامل معها بعقلية "الحريم"، وهيمنة الفكر الماضوي الذي يتأسس على التعلق المرضي بالقديم، وترسيخ قيم الولاء والطاعة في العلاقة بين التابع والمتبوع. كما يقوم كذلك على تغذية النعرات العشائرية، وافتعال الخلافات بينها، وتأجيج سعيرها، وحتى تفجيرها، وتحويلها إلى صراعات داخلية عنيفة، حينما تقتضي الحاجة ذلك، حتى تبقى جماهير القرى والبوادي أشلاء متهارشة ومتصارعة، بما يُيسر فرض السيطرة على الجميع. وعادة ما يميل كبار ملاكي الأرض أو الإقطاعيين إلى السّكن في الأحياء الراقية بالمدن، وإيثار حياة الدّعة والراحة من جهة، والانهماك في الاستهلاك الترفي، وسائر السلوكات القائمة على التظاهر والبذخ من جهة أخرى: فيلات فخمة ذات زخارف وتجهيزات راقية الاعتماد على عدد وافر من الخدم رحلات إلى البلدان الأوروبية المبالغة في البهرج أثناء المناسبات العائلية، وخاصة عند إقامة حفلات الزفاف والختان، وعند العودة من الحج وحتى العمرة اقتناء المجوهرات الثمينة ومختلف أنواع التحف..... ولعلّ أهمّ دافع لهم، من خلال هذا الأسلوب في العيش والسلوك، محاولة تجاوز عقد النقص الكامنة في نفوسهم، إزاء أفراد البورجوازية الكمبرادورية، ومحاولة تقليدهم واتخاذهم نموذجا يُحتذى. ويسعى أفراد الطبقة الإقطاعية، في المستوى الاجتماعي، إلى إبراز عناصر تميّزهم عن بقية طبقات المجتمع، من خلال ادعاء سموّ المكانة ورفعة المقام. إذ هم، وحدهم، دون غيرهم، أهل الشرف والمجد والثراء. فهم "أهل الهمّة، أهل الكار"، وهم "أبناء عائلات عريقة"، و "أصحاب مروءة وكرم"،..... أمّا أفراد الطبقات الكادحة، وخاصة من أهل الريف، فهم وفق هذه النظرة: "أوباش"، و"هُمّل"، و"عُربان".....
II / وضعية الفلاحين الفقراء والمتوسطين: في مقابل ما تعرفه هذه القلة القليلة من الإقطاعيين من رغد العيش، تعيش أغلب جماهير الفلاحين في واقع من البؤس والحرمان، نتيجة عدم القدرة على تأمين ظروف الحياة في مستوى أبسط الحاجيات والمرافق الضرورية :
العمل السكن اللائق الصحة التعليم، شبكات النقل...
ويواجه هذا الصنف من الفلاحين أنواعا متعددة من العوائق والصعوبات :
أولا : هشاشة الوضعية العقارية : ملكيات ضيّقة الرقعة، ومبعثرة التوزيع، ومتفاوتة الجودة، إضافة إلى فقدان وسائل إثبات الملكية (كالرسوم العقارية، وما يقوم مقامها : كرسوم الحوز، وشهادات الترسيم، وعقود البيع، ومختلف الإثباتات الأخرى). ويشكّل هذا الوضع عائقا يحول دون إمكانية الانتفاع بالقروض المالية الضرورية لتغطية نفقات الاستثمار، سواء بالنسبة للأرض أو الغرس أو الماشية، وهو ما يُسهّل على كبار الملاكين العقاريين، عبر حيل متعددة، اغتنام الفرصة لمزيد اعتصار الفلاحين المتوسطين والفقراء، وتتويج ذلك في الأخير بمصادرة أملاكهم وأراضيهم. ويُعتبر هذا الوضع العقاري السبب الأساسي الذي جعل فقراء الرّيف يعيشون في حالة من الغبن الاجتماعي وضنك العيش : تفشي البطالة وانتشار العمل الموسمي ( وهو ما يدفع الكثير من المحرومين إلى البحث عن موارد رزق إضافية) السكن في أكواخ تُبنى بالطوب وتُغطّى بالقش والزنك التنقل بواسطة الحمير والبغال الاعتماد على بعض الدواجن والمواشي لتوفير الحدّ الأدنى من مستلزمات الحياة، والاتجار بالفائض الضئيل في الأسواق الأسبوعية، حتى يمكن التزوّد بما يُقيم الوأد ويدفع غائلة الجوع.
ثانيا : الخضوع لتقلبات الطبيعة، إذ تخضع الفلاحة في تونس لتقلبات مناخية قوية: أمطار خفيفة أحيانا، تؤدّي إلى جدب الأرض، وغزيرة أحيانا أخرى، تؤدّي إلى فيضانات وانجراف التربة وهلاك الحيوان وحتى الإنسان. إضافة إلى نّدرة الآبار الارتوازية التي توفر المياه بكميّات كافية. انطلاقا من هذا المعطى يمكن أن نفهم شيوع عقلية العجز والاستسلام وما يترتب عنها من انتشار كبير ومكثف للأضرحة والزوايا والطرق الصوفية في الريف التونسي وفي أحواز المدن.
ثالثا : الارتفاع المشط لأسعار مستلزمات الزراعة، أي كلّ ما يتعلق بالبذور والأسمدة ومبيدات الحشرات والنباتات الطفيلية. وهذه المواد موردة في الغالب، ويُجيد المحتكرون التلاعُب بأثمانها.
رابعا : الابتزاز من قبل حلقات متعددة من الوسطاء أو السماسرة، أي ما يُعرف ب"الخضّارة"، و"القشّارة"، و"الحمّارة"، وخاصة "الهبّاطة"، الذين يتحكّمون تحكما كاملا في مسالك التوزيع، نظرا لعدم امتلاك الفلاح الفقير وسيلة نقل تمكّنه من إيصال منتوجه مباشرة إلى السوق، ونظرا كذلك لعدم قدرته على الخزن والتبريد. ولتقديم فكرة حول الدور التخريبي لهؤلاء الوسطاء، يكفي الإشارة إلى ما يلي :
تمثل المواد الفلاحية الطازجة )اللحوم الأسماك الخضر الغلال) 62 بالمائة من الإنتاج الفلاحي، و52 بالمائة من المصاريف اليومية للمستهلك التونسي. ويتمّ توزيع هذه المواد في حوالي 54 سوق جملة، و280 سوق أسبوعية، و 299 سوق بلدية مختصة في تجارة التفصيل )إحصائيات 1995). وتخضع هذه الأسواق، من حيث تنظيمها وتسييرها، إلى أساليب متعددة ومتشعبة، كما تختلف الآداءات الموظفة فيها، من سوق إلى أخرى. هذه الوقائع تتيح الفرصة للوسطاء، باعتبارهم الأكثر قوة ودهاء، لممارسة كلّ أنواع الغشّ والتحيّل، بما يؤدّي إلى إلحاق بالغ الأذى بالمنتج والمستهلك. لذلك ليس من الغريب أن تكون كلمة السرّ المتداولة بين هؤلاء الوسطاء في شكل أمر: " اذبح"، عند القيام بعمليات الاتجار مع الفلاحين الفقراء. خامسا : المعاملة غير اللائقة من قبل الإدارة، نتيجة سيطرة المحسوبية والمحاباة، وتفشي داء الارتشاء في مختلف الأجهزة : الإدارة العمومية القضاء الشرطة ....
كل هذه العوامل في تظافرها هي التي أفضت إلى حالة الركود والجمود التي تعيشها القوى المنتجة في الريف التونسي. فهذه القوى تعيش في وضع متخلف هو وضع "القنانة" (le servage)، عكس ما يدعيه بعض الأفراد أو المجموعات المنحدرة من تنظيم "العامل التونسي"، وخاصة تلك التي تشكّلت فيما يُسمّى ب"حزب العمال الشيوعي التونسي"، الذين يؤكدون أنّه تمّ "تثوير" علاقات الإنتاج، وبالتالي تحقيق التحوّل الكيفي من نمط الإنتاج الإقطاعي إلى نمط الإنتاج الرأسمالي. وقد أنجز عملية الانتقال هذه حسب "التحليلات" السطحية والمتسرعة لهذا البعض طورا الاستعمار المباشر، وطورا آخر نظام العمالة الذي نصّبه الاستعمار ابتداء من سنة 1956. إمّا جنديا أو قنّا استهدف الاستعمار الفرنسي المباشر استنزاف الريف التونسي من خلال شكلين أساسيين:
الشكل الأوّل: الاستحواذ على أهمّ الأراضي الزّراعية وأكثرها خصوبة وجودة.
الشكل الثاني: التجنيد الإجباري لأفضل شباب القرى والبوادي، من حيث المواصفات الجسدية، في صلب الجيش الفرنسي. فبالنسبة للاستحواذ على الأرض، قام الحكم الاستعماري، بعد مدّة قصيرة من انتصابه المباشر بتونس، بتشكيل لجنة في 31 جويلية 1884، لإعداد قانون عقاري جديد. وقد ترأس اللجنة المقيم العام بول كامبون (Paul CAMBON)، وكان من أعضائها أعيان السلطة وشيوخ الدين من المدافعين عن الإقطاعيين، الذين سعوا إلى البرهنة على طريقتهم إلى أن أحكام هذا القانون تطابق مع قواعد الفقه الاسلامي. وصدر القانون في أواسط 1885 في شكل أمر عليّ. وشكّل الأرضية التي شرّعت انتزاع الاستعمار الفرنسي لأفضل الأراضي التونسية. أمّا بالنسبة للتجنيد الإجباري، فقد ارتكز هذا التجنيد خاصة على الفقراء من شباب الريف، الذين لا يستطيعون دفع"العوض"، أي نوعا من الفدية، أو تقديم رشوة لأعوان الاستعمار من المتنفذين. وتحتفظ الذاكرة الشعبية بالكثير من المرويات، والأغاني الحزينة، التي تردد إلى حد الآن، وهي تُعبّر عن اللوعة والأسى، اللذان يخلفهما يوم التجنيد، أو "يوم القرعة"، في نفوس الأهل والأمهات والفتيات، نتيجة لفراق الأحبّة، وكيف يسعى الاستعمار البغيض لبناء قُوّته ومجده، من خلال إتلاف الحرث )الأرض)، والنسل )الشباب الناهض).
وقد قامت سياسة بورقيبة على تثبيت الأسس الاقتصادية والاجتماعية القائمة منذ مرحلة الاستعمار المباشر، مع القيام ببعض الإجراءات الجزئية والطفيفة، التي تهمّ الشكل دون الجوهر. ففيما يخصّ المسألة الفلاحية، أقطع بورقيبة، بغير وجه حقّ، بعض المجموعات من أتباعه، العديد من الهناشر والضيعات في مختلف أرجاء القطر. وقد شملت أُعطياته خاصة "المقاومين"، الذين كانوا يُدينون لشخصه بالولاء التام. كما فعل زين العابدين بن علي الأمر ذاته منذ بداية حكمه. فبعد أن مسك بكل قوّة بزمام الأمور، سارع، هو أيضا، إلى تمكين مريديه وأتباعه، من "المعمرين الجدد"، من استقطاع مساحات شاسعة من الأراضي، التابعة خاصة ل"ديوان الأراضي الدولية" (O.T.D)، وذلك خاصة عبر "شركات الإحياء والتنمية الفلاحية". وقد شملت عملية النهب هذه ما يقارب 313 ألف هكتار، من جملة 500 ألف هكتار. كما تعلقت بكلّ القطاعات : تربية الأغنام تربية الأبقار غراسة الأشجار المثمرة الزّراعات الكبرى...
وتُعدّ عملية التفويت على هذا النحو عملية كارثية، أو بالأحرى إجرامية بأتمّ معنى الكلمة : "بيع من لا يملك لمن لا يستحق". إذ وقع إسناد بعض هذه الأراضي إلى أشخاص لا صلة لهم البتة بالقطاع الفلاحي، ولا يمتلكون أيّة خبرة في المجال الزراعي، من الوزراء، وكبار الموظفين (المدنيين والعسكريين)، ومن أفراد العائلة الحاكمة طبعا . كما تمكّن بعض المتحيلين، والباحثين عن الربح السريع والسهل، من اغتنام الفرصة، والحصول على أراضي عالية الجودة. وكل هؤلاء يتمتعون بالمنح والقروض التي يمنحها بسخاء "البنك الوطني الفلاحي التونسي"، دون رقيب أو حسيب. وتفيد بعض الأخبار أنّ هذا البنك أقرض 10 مجمعات تضم 65 شركة، تابعة لعائلتي الرئيس السابق زين العابدين بن علي وزوجته ليلى الطرابلسي، بما قيمته تقريبا 328 مليون دينار، وتمّ هذا الإقراض وفقا لصيغتين : 148 مليون دينار بواسطة ضمانات، 180 مليون دينار دون أيّة ضمانات. هذا فيما يخص تعامل النظام القائم منذ سنة 1956 مع مسألة الأرض، أمّا فيما يتعلق بكيفية التعامل مع شباب الريف، وخاصة عملية "التجنيد"، فإنّ الأمر لا يختلف عمّا ركّزه الاستعمار من أسس واختيارات.
فمن يتأمل في بنية المستخدمين في قوات الأمن من شرطة وحرس، وكذلك الجيش التونسي، يتبين له، أنّها في مستوى قاعدتها، ذات منبت ريفي بالأساس، أي أنّ أفرادها ينتمون عادة إلى الجهات الداخلية، المحرومة والمفقرة، وإلى ما يتفرع عن هذه الجهات من أحياء شعبية، تشكل أحزمة الفقر بالمدن التونسية. وهم بذلك سليلي الأقنان والفلاحين الفقراء. أماّ في مستوى المراتب العليا للقوات الأمنية والعسكرية، فهي تتشكل خاصة من أبناء المدن والمناطق المحضوضة. إنّ تركيبة هذه القوى على هذا النحو، هو الذي يؤمن للنظام توظيفها كأداة للعنف والردع، بما يخدم مصلحة طبقتين
: الطبقة الإقطاعية والطبقة البورجوازية الكمبرادورية، اللتان تتحكمان في توجيه كل دواليب الحكم الحالي. ويتوخى النظام في سبيل ذلك أسلوبا يُطبق بكل عناية وحرص، ويتمثل في إغداق الامتيازات ومختلف المغانم على ضباطه، على حساب الأغلبية الساحقة من الأعوان والجنود. من خلال كلّ ما تقدّم، يتبيّن أنّ نمط الإنتاج السائد في الريف التونسي هو نمط الإنتاج الإقطاعي، الذي يتحدد اعتبارا لمجموعة من المقومات والخصائص، التي تتشكل، نظريا وعمليا، على هذا النحو:
يتخذ الإقطاع شكلان أساسيان : الأوّل هو نظام المقاسمة، والثاني نظام الإيجار. وفي الحالتين يتحصل المنتج ( المزارع أو القن) على جزء ضئيل من الإنتاج، بشكل عيني ( مناصفة أو مثالثة أو مرابعة....)، وذلك حسب نوع التربة والغراسة والأحوال المتغيرة ( جفاف ندرة ....).
تتخذ العلاقة بين الإقطاعي والقنّ طابع التبعية الشخصية المباشرة. فالإقطاعي يتحكم تحكما كاملا في الأرض ومن عليها، وفي كلّ ما يتعلق بالأرض والعمل والسكن والتنقل....، ولكن دون أن يصل الأمر إلى حدّ العبودية، حيث يمكن للسيّد أن يزهق أرواح عبيده، ودون أن يصل الأمر كذلك إلى ما هو سائد في النظام الرأسمالي، حيث يكون العمل بضاعة، وحيث يكون العامل "حرّا" في بيع قوّة عمله وفقا لمقتضيات السوق، أي وفقا لقانون العرض والطلب.
اعتماد وسائل إنتاج بدائية، ظلّت هي نفسها منذ قديم الزمان، يتوارثها الأبناء عن الأجداد : المحراث "العربي" وسائل السقاية التقليدية.....، وهي أدوات ذات وتيرة إنتاجية متدنية. وقد اضطرّت أعداد متزايدة من الفلاحين الفقراء، أمام الفقر المدقع وسوء الحال، إلى مغادرة المكان الذي نشأوا وترعرعوا في كنفه وبين أحضانه، وبالتالي إلى النزوح نحو المدن والهجرة نحو البلدان الأجنبية، مع ما يترتب عن ذلك من معاناة وضياع وتمزق نفسي واجتماعي. هذا فيما يخصّ أوضاع الفلاحين الفقراء، أمّا فيما يتعلق ببقية الطبقات الشعبية، وبالمجتمع عموما، فقد أدّت السياسة الفلاحية إلى بقاء القطر التونسي سوقا مستباحة للرأسمال العالمي، إذ ما زالت تونس تورّد إلى غاية اليوم مقاديرا هامة من المواد الضرورية لغذاء الشعب، مثل: القموح، واللحوم، وزيت السوجا، والسكر..... وهو ما يدلّ بشكل واضح وجليّ على عجز النظام القائم عن تحقيق الاستقلال الاقتصادي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.