غارات إسرائيلية عنيفة تستهدف مواقع مختلفة في سوريا    علماء يحذرون.. وحش أعماق المحيط الهادئ يهدد بالانفجار    تفاصيل الاحكام السجنية الصادرة في قضية "التسفير"    دعما للتلاميذ.. وزارة التربية تستعد لإطلاق مدارس افتراضية    ترامب يبحث ترحيل المهاجرين إلى ليبيا ورواندا    الدوريات الأوروبية.. نتائج مباريات اليوم    جلسة عمل بين وزير الرياضة ورئيسي النادي البنزرتي والنادي الإفريقي    نصف نهائي كأس تونس لكرة اليد .. قمة واعدة بين النجم والساقية    ملكة جمال تونس 2025 تشارك في مسابقة ملكة جمال العالم بالهند    مهرجان «كنوز بلادي» بالكريب في دورته 3 معارض ومحاضرات وحفلات فنية بحديقة «ميستي» الاثرية    عاجل: ألمانيا: إصابة 8 أشخاص في حادث دهس    تونس: مواطنة أوروبية تعلن إسلامها بمكتب سماحة مفتي الجمهورية    تحيين مطالب الحصول على مقسم فردي معدّ للسكن    الاتحاد الجهوي للفلاحة يقتحم عالم الصالونات والمعارض...تنظيم أول دورة للفلاحة والمياه والتكنولوجيات الحديثة    عاجل: بينهم علي العريض: أحكام سجنية بين 18 و36 سنة للمتهمين في قضية التسفير مع المراقبة الإدارية    القيروان: هلاك طفل ال 17 سنة في بحيرة جبلية!    تحسّن وضعية السدود    معدّل نسبة الفائدة في السوق النقدية    اللجنة العليا لتسريع انجاز المشاريع العمومية تأذن بالانطلاق الفوري في تأهيل الخط الحديدي بين تونس والقصرين    مأساة على الطريق الصحراوي: 9 قتلى في حادث انقلاب شاحنة جنوب الجزائر    تونس تسجّل أعلى منسوب امتلاء للسدود منذ 6 سنوات    عاجل: إدارة معرض الكتاب تصدر هذا البلاغ الموجه للناشرين غير التونسيين...التفاصيل    عاجل/ تحويل جزئي لحركة المرور بهذه الطريق    تونس تستعدّ لاعتماد تقنية نووية جديدة لتشخيص وعلاج سرطان البروستات نهاية 2025    اتخاذ كافة الإجراءات والتدابير لتأمين صابة الحبوب لهذا الموسم - الرئيسة المديرة العامة لديوان الحبوب    النّفطي يؤكّد حرص تونس على تعزيز دور اتحاد اذاعات الدول العربية في الفضاء الاعلامي العربي    عاجل/ زلزال بقوة 7.4 ودولتان مهدّدتان بتسونامي    الشكندالي: "القطاع الخاص هو السبيل الوحيد لخلق الثروة في تونس"    الليلة: أمطار رعدية بهذه المناطق..    جريمة قتل شاب بأكودة: الإطاحة بالقاتل ومشاركه وحجز كمية من الكوكايين و645 قرصا مخدرا    مدنين: مهرجان فرحات يامون للمسرح ينطلق في دورته 31 الجديدة في عرس للفنون    عاجل/ تسجيل إصابات بالطاعون لدى الحيوانات..    غرفة القصّابين: أسعار الأضاحي لهذه السنة ''خيالية''    منوبة: احتراق حافلة نقل حضري بالكامل دون تسجيل أضرار بشرية    سليانة: تلقيح 23 ألف رأس من الأبقار ضد مرض الجلد العقدي    مختصون في الطب الفيزيائي يقترحون خلال مؤتمر علمي وطني إدخال تقنية العلاج بالتبريد إلى تونس    فترة ماي جوان جويلية 2025 ستشهد درجات حرارة اعلى من المعدلات الموسمية    الانطلاق في إعداد مشاريع أوامر لاستكمال تطبيق أحكام القانون عدد 1 لسنة 2025 المتعلق بتنقيح وإتمام مرسوم مؤسسة فداء    حزب "البديل من أجل ألمانيا" يرد على تصنيفه ك"يميني متطرف"    جندوبة: انطلاق فعاليات الملتقى الوطني للمسرح المدرسي    فيلم "ميما" للتونسية الشابة درة صفر ينافس على جوائز المهرجان الدولي لسينما الواقع بطنجة    كلية الطب بسوسة: تخرّج أول دفعة من طلبة الطب باللغة الإنجليزية    بطولة افريقيا للمصارعة بالمغرب: النخبة التونسية تحرز ذهبيتين في مسابقة الاواسط والوسطيات    خطر صحي محتمل: لا ترتدوا ملابس ''الفريب'' قبل غسلها!    صيف 2025: بلدية قربص تفتح باب الترشح لخطة سباح منقذ    تطاوين: قافلة طبية متعددة الاختصاصات تزور معتمدية الذهيبة طيلة يومين    إيراني يقتل 6 من أفراد أسرته وينتحر    الأشهر الحرم: فضائلها وأحكامها في ضوء القرآن والسنة    الجولة 28 في الرابطة الأولى: صافرات مغربية ومصرية تُدير أبرز مباريات    الرابطة المحترفة الثانية : تعيينات حكام مقابلات الجولة الثالثة والعشرين    الرابطة المحترفة الأولى (الجولة 28): العثرة ممنوعة لثلاثي المقدمة .. والنقاط باهظة في معركة البقاء    ريال بيتيس يتغلب على فيورنتينا 2-1 في ذهاب قبل نهائي دوري المؤتمر الاوروبي    أبرز ما جاء في زيارة رئيس الدولة لولاية الكاف..#خبر_عاجل    صفاقس ؛افتتاح متميز لمهرجان ربيع الاسرة بعد انطلاقة واعدة من معتمدية الصخيرة    "نحن نغرق".. نداء استغاثة من سفينة "أسطول الحرية" المتجهة لغزة بعد تعرضها لهجوم بمسيرة    خطبة الجمعة .. العمل عبادة في الإسلام    ملف الأسبوع.. تَجَنُّبوا الأسماءِ المَكروهةِ معانِيها .. اتّقوا الله في ذرّياتكم    أولا وأخيرا: أم القضايا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اليسار التونسي اليوم .. مواصلة التحايل على الواقع بقلم: منير العوادي
نشر في الحوار نت يوم 03 - 03 - 2011


تونس: الخميس 3 مارس 2011
تمثل الأحداث التي جدّت أخيرا بتونس لحظة ممتازة لاستجلاء كيفية تفاعل مختلف النخب السياسية والفكرية مع الواقع، وتفحّص مختلف الاستراتيجيات التي حاولت أن ترسمها لتجسيم مشروعاتها وأهدافها، من أجل تحديد الإرادة الموجهة للقراءة والفعل.
ولئن كانت هذه المساهمة لا تهتمّ إلاّ بالنخبة اليسارية، فإنّ مردّ ذلك هو الفشل الذريع والهزيمة المروّعة التي عرفها المشروع اليساري وعدم قدرته على التوصّل إلى ما هو متوقّع منه، أي التحوّل إلى بديل باستطاعته مقاومة نظام العمالة والاستبداد، وإرساء نظام وطني ديمقراطي يستند إلى السيادة الشعبية.
لقد بدأ الجميع يدرك أنّ واقع الحركة اليسارية اليوم هو واقع فاجع ومأساوي وبائس. فبعد سنوات الكفاح البطولي والصمود في الستينات والسبعينات، تحوّلت الساحة اليسارية بفعل التهشيم والتهميش إلى فضاء للغو، تتردد فيه "التحاليل" السطحية المبتذلة، وتسيطر عليه الازدواجية بين ما يُقال علنا وما يقع البوح به سرا، وحيث يسعى كل "قائد" إلى تكريس "أناه" الصغيرة، بكل ما تحمله من تعال وتخيلات وأوهام، معتقدا أنّه عنوان الحقيقة في مجالي النظرية والممارسة.
ولعلّ من أهمّ العبر والدروس التي يمكن استخلاصها، في علاقة بالانتفاضة الباسلة التي وقعت أخيرا في تونس، استفحال بُعد التيارات اليسارية عن الواقع، إن لم نقل غربتها عنه، وعدم قدرتها على تحريك الشارع والفعل فيه، مقارنة خاصة مع شباب الريف والجهات الداخلية، وامتداداتهم في المدن، وخاصة مدينة تونس.
هذا المعطى وضع هذه النخبة أمام مأزق : إمّا الاعتراف بمحدودية مساهمتها، وبالتالي الإقدام على مراجعة الذات وتحديد العوامل التي أدّت إلى شلّ فاعلية مختلف المجموعات وإلى عزلتها الواقعية والفعلية، وإمّا مواصلة نفس عقلية الوصاية في التعامل مع الجماهير وقضاياها.
الطريق الأوّل صعب ومرهق وباهظ التكاليف، وهو يقتضي العمل في صمت ولمدّة طويلة، كما أنّه طريق غير مأمون العواقب. أمّا الطريق الثاني فسهل وميسور، وهو كفيل بأن يؤمّن لأصحابه الحضور تحت الأضواء البرّاقة، التي عادة ما تخفي خواء الفكر وفقر التحليل.
ولكن ما لا يدركه أصحاب التصوّر الثاني هو أنّ طريق التفاؤل المفرط على افتراض حسن النية لن يؤدّي في النهاية إلا إلى الانتكاسة ومزيد الإحباط واليأس.
كيف تصرفت هذه النخبة؟
عندما ندقق النظر في آليات التفكير والممارسة لدى المجموعات اليسارية، وعلاقتها بما استجدّ أخيرا، نرى أنّها مرت بمرحلتين اثنتين:
أولا : منذ أن انطلقت الأحداث في 17 ديسمبر 2010، وجدت هذه المجموعات نفسها في حالة ذهول وبهتة حول ما يدور حولها.
حاولت في البداية " الالتحام" بالجماهير سواء مباشرة أو من خلال الهياكل النقابية القاعدية. وكان كلّ عمل تنجزه هذه الهياكل يقترن بلزوم التقيّد بإطار محدد سلفا، من أهمّ نقاطه: "قطع الطريق على المزايدة"، وعدم إحراج بيروقراطية الاتحاد.
ثانيا: منذ 14 جانفي وبعد السقوط المدوّي للرئيس السابق، حاولت المجموعات اليسارية استباق الأحداث، فسارعت إلى تنصيب نفسها وصيا على الجماهير، بالرغم من أنّها لا تملك في الحقيقة شيئا كبيرا يمكن أن تعطيه.
اعتمدت في سبيل تحقيق هذا الهدف على خطاب عاطفي يستثير الانفعالات الجيّاشة، من خلال إعلاء سقف المطالب، وطلب تحقيقها الآن وهنا، باعتبار أنّ ما حصل هو "ثورة شعبية".
فما الذي حدث بالضبط؟
انطلقت الشرارة الأولى للأحداث من واقعة محددة : شاب متعلم، ينتمي إلى منطقة تعاني من الفوارق الجهوية المقيتة، وما ترتب عنها من بؤس وحرمان، يُقدم في لحظة يأس وغضب على إحراق نفسه، ليس نتيجة الفقر والجوع فقط، بل خاصة نتيجة الظلم والإهانة والجبروت.
هذه الواقعة تحوّلت إلى "حدث"، رجّ الأرض رجّا، تداعى له الشباب والجماهير التي اكتوت طويلا بنيران الواقع المرير. لذلك انفجر بركان الغضب سريعا، فشمل البوادي والأرياف والقرى المجاورة: من سيدي بوزيد، إلى الرقاب، إلى منزل بوزيان، إلى القصرين، إلى تالة. ثم عمّ بعد ذلك بشكل متفاوت بقية المناطق، وخاصة الأحياء الشعبية على تخوم تونس العاصمة.
كان العنوان الأكثر جلاء للاحتجاجات هو الرفض، رفض الطغيان ورمزه الأول، ورفض النظام وأزلامه.
ومنذ الفرار الجبان والذليل للرئيس السابق وأفراد عائلته، توقّفت جذوة الانتفاضة وخفّ بريقها، ولم تستمر إلاّ في شكل بعض المظاهرات أو الاعتصامات هنا أو هناك.
لم تكن مقتضيات الانتفاضة ومعطياتها ( خاصة فجئيتها وسرعة إيقاعها) تسمح بتوليد قيادة أركان حقيقية أو تصورات برنامجية أو أدوات نضال ( أحزاب جبهات...)، لذلك لم يقع رصد الدور الخطير الذي كانت تؤديه في الخفاء بعض الدوائر الأجنبية (الولايات المتحدة الأمريكية خصوصا)، وكذلك الدوائر المحلية (المؤسسة العسكرية خاصة)، لإيقاف هذه الانتفاضة عند حدود معينة، و"إعادة الأمور إلى نصابها"، بعد ترميم الصورة والمشهد.
من هنا نرى أنّ الانتفاضة، شأنها شأن الثورة، كيفية من كيفيات "التمرّد". ولكن لكلّ منهما أوضاعه الخاصة وآثاره الواقعية. لذلك يجب الوعي بما يميّز بينهما، باعتبار أنّ هذا الوعي هو الشرط الضروري لضبط الممكنات التي يجب بلورتها في هذا الظرف بالذات.
فما هي الفروق الأساسية بين الانتفاضة والثورة ؟
أولا: الانتفاضة هي ردّ فعل تلقائي وعفوي، يمكن أن ينطلق في كلّ لحظة، دون تخطيط أو برنامج، لذلك لا يفرز بالضرورة قيادة له، ولا يرمي إلى نتائج محددة.
أمّا الثورة، فهي فعل واعي ومنظم، يخضع لخطة دقيقة. إنّها مخاض سياسي وعسكري، يهدم القديم ويبني على أنقاضه الجديد. فهي إذن تحوّل نوعي ناتج عن عملية نمو تدريجي وتصاعدي.
ثانيا: الانتفاضة تحمل في طيّاتها احتمالين، إذ يمكن إجهاضها عن طريق التصفية أو التدجين، كما يمكن أن تتوفر لها السبل لتحقيق نجاح نسبي ومحدود، عكس الثورة التي لا تكون على الأقل في بدايتها إلا ظافرة ومنتصرة.
الثورة تملك لكلّ شروط التحقق: حزب ثوري جماهيري جبهة متراصة ومتحدة تضمّ كل الطبقات المضطهدة جيش شعبي. وهي تُتوّج بالضرورة بتحطيم النظام السياسي والاقتصادي السائد والإجهاز عليه، وصولا إلى امتلاك الشعب لحقّ تقرير مصيره.
الثورة لا تزيل فقط رموز الطغيان، بل هي تزيل أسباب الطغيان، وتحدد قبل ذلك الأسلوب الذي يمكّن من إزالة نظام الطغيان واقتلاع أسسه.
إنّ إصرار البعض على إضفاء صفة "الثورة" على ما حدث، دون تحليل أو برهنة، يعبّر في أفضل الأحوال عن شدّة ضغط الهواجس والحسابات السياسة الآنية، وخاصة الرغبة في إثبات الذات تفاديا للانقراض.
فلقد كانت هذه القوى اليسارية تعيش في واقع من التآكل والتراجع وبداية الاندثار. فجأة "اكتشفت" أنّ الحدث يُمكن أن يقذف بها إلى الواجهة.
في هذا الإطار جاء ميلاد جبهة 14 جانفي، التي أعلن عن تأسيسها في 20 جانفي 2011. وقد أثار الإعلان عن الجبهة الكثير من الالتباس والضبابية والغموض، بالنظر خاصة إلى هزال مكوناتها، وكيفية انتقالها من التنافي والتجافي إلى الوحدة والعمل المشترك، وكذلك حول مضمون برنامجها.
إذ تتشكل هذه الجبهة من مجموعات مختلفة، أو بالأحرى من نواتات صغيرة، لا تملك المقوّمات الأساسية للحزب السياسي، الذي يملك عادة قيادات ذات كفاءات عالية، وقواعد جماهيرية قوية.
من خلال تخصيص هذا الرأي، نرى أنّ المجموعات المكوّنة للجبهة تعيش أوضاعا متفاوتة من الإرباك والارتباك.
ف"حزب العمال الشيوعي التونسي" PCOT))، هو استنساخ لتجربة PCOF))، دون تأصيل نظري أو سياسي خاص. وقد سار هذا الحزب في ركاب سلطة بن علي بعد انقلاب 7 نوفمبر 1987، حيث أصدر جريدة قانونية "البديل". كما تمّ توظيفه بشكل فج في الصراع ضدّ التيار الأصولي (قضية الكاسات). وقد عرف هذا الحزب ضعفا شديدا بعد انسحاب مجموعة محمد الكيلاني في أواخر سنة 1993. وقد أعاد الحزب النظر في مواقفه السابقة وأبرم تحالفا مع التيار الأصولي في إطار "هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات".
أماّ "حزب العمل الوطني الديمقراطي"، فهو امتداد لمجموعة نقابية صغيرة، معروفة بتبعيتها وذيليتها للبيروقراطية النقابية المسيطرة حاليا على الاتحاد العام التونسي للشغل. وقد كاد ينحصر جهد هذا الحزب في العشرية الماضية، في الحقل النقابي، على محاولة إيصال أحد العناصر المقربة جدّا من قيادته إلى عضوية المكتب التنفيذي للإتحاد، بما جعله يعيش تمزقا وتصدّعا في صفوفه.
وبالنسبة ل"حركة الوطنيين الديمقراطيين"، فهي جناح أو جزء مما يُعرف في الساحة السياسية ب"الوطج". وتعيش هذه المجموعة الهلامية مأزقا حادا، نتيجة تصرّف أحد عناصرها بمنطق "العرّيف"، على وزن "الفهّيم"، وهو ما جعل عناصر انتمت سابقا إلى هذه المجموعة ترفض الانضواء في صفوفها. وإضافة إلى التسلط، تعاني هذه المجموعة من تكلس فكري وسياسي فاضح.
وفي ما يخصّ "الوطنيون الديمقراطيون" (الوطد)، فيتعلق الأمر بمجموعة نقابوية، شهدت ما يشبه التبخّر في أعقاب فشلها في المؤتمر القطاعي للتعليم الثانوي في أواخر مارس 2005. ومن المفارقات اللافتة للنظر أنّ النقاوة والطهرية التي تتظاهر بها هذه المجموعة، ترافقت مع تورّط بعض عناصرها النّافذة في ملف عقاري ومالي أو بالأحرى في صفقة مشبوهة مع الحزب الحاكم وأجهزته الإدارية، يعود تاريخها إلى جويلية سنة 1997، وهو ما يضع هذه المجموعة مدار احتراز واتهام.
وبالإضافة إلى هؤلاء، توجد مجموعة أخرى هي "رابطة اليسار العمالي"، وهي مجموعة تروتسكية ليبرالية، ذات نبرة احتجاجية عالية، ولكنها ضعيفة جدا من حيث الانتشار.
وهناك أخيرا "اليساريون المستقلون"، وهم انشقاق عن مجموعة، منشقة بدورها عن "حزب العمال".
كما يكشف البيان الأوّل الذي أصدرته الجبهة عن إجراء عملية توحيد سريعة ومتسرعة بين مجموعات اتسمت العلاقة بينها في الماضي القريب بالصراع والاتهامات المتبادلة والاحتقان الشديد.
فكيف توصلت بهذه السرعة الغريبة إلى الاتفاق؟
إنّ إغفال الفروق والاختلافات والإعلان على عجل عن "وحدة"، وهو في الحقيقة وحدة وهمية، لا يمكن أن تفهم إلا على أساس تأويل نفعي مصلحي للواقع، ومحاولة بائسة لركوب نضالات الشعب، ذلك أنّ الوحدة مهما كانت ضرورتها لا يمكن أن تكون حقيقية وصادقة إلاّ متى كانت تتويجا لصيرورة سجال ونقاش بين مقاربات متباينة وأطراف مختلفة.
إنّ غياب الصراع الفكري والسياسي، كتمهيد لبناء الجبهة، يجعل" الوحدة" بين مكوّناتها ملغومة وهشة وقابلة للانفجار في كل لحظة.
من الوصاية إلى التنصيب
لم تستطع جبهة 14 جانفي مواجهة امتحان الواقع، بالنظر خاصة إلى ضعف مكوناتها. لذلك تدحرجت شيئا فشيئا، بفعل ضغط الأحداث، إلى تغيير وجهتها وقبول الالتقاء مع أعداء الأمس القريب، بل والرضوخ إليهم.
فلئن لم يتضمن بيان 14 جانفي أيّة إشارة إلى المهام العملية أو الآليات الكفيلة بتحقيق الأهداف المعلنة، فإنّ المجموعات المكوّنة للجبهة "تفطنت" إلى هذه الضرورة لاحقا. إذ دعت يوم الأربعاء 26 جانفي 2011 إلى تشكيل" المؤتمر الوطني لحماية الثورة"، وهو يضمّ في صفوفه كل القوى السياسية والمدنية، "التي تتبنّى مطالب الشعب وتناضل من أجل تحقيقها".
هذه المبادرة وقع تعديلها وتجسيمها يوم الجمعة 11 فيفري 2011، من خلال إصدار بلاغ إعلامي، ممضى من قبل 28 طرف يمثلون مجموعة من "الهيئات والأحزاب والجمعيات والمنظمات". وقد اتفقت الأطراف المشاركة على الدعوة إلى إنشاء "المجلس الوطني لحماية الثورة".
ويتضمّن هذا الإتفاق جملة من النقاط بالغة الخطورة، والتي تفرض الاحتراس واليقظة، انطلاقا من دواعي سياسية وأخلاقية، لا يمكن الاستهانة بها، مهما كان ضيق الحال، ومهما كانت الملابسات، ويتعلق الأمر هنا بمسألتين:
أولا: أنّ هذا التجمع يضمّ العديد من القوى والفعاليات المعادية: البيروقراطية النقابية حركة النهضة (الإخوان المسلمين)...
فهل يتعلق الأمر بتدبيج بيانات كيفما اتفق أم أنّ المسألة خضعت للبحث والنظر؟ أو بصورة أوضح : هل يمكن أن تحمي الثورة قوى غير ثورية؟
ثانيا: يدعو البلاغ إلى تكوين "برلمان منصب" أو "سلطة موازية"، ممثلة من قوى سياسية، لها حق القرار والتشريع والمراقبة، خلال "الفترة الانتقالية". ويتمّ المصادقة على هذه الهيئة بمقتضى "مرسوم يصدره الرئيس المؤقت".
إنّ كل هذا المشروع يقوم على التكاذب المشترك وعلى الخداع والغش بين القوى التي أبرمت هذا البيان. كما أنّ طلب إصدار مرسوم للموافقة على هذا المجلس يتعارض مع الموقف من "الحكومة المنصبة"، إذ كيف نقبل برئيس منصب ولا نقبل بحكومة منصبة؟
ولأنّ الجبهة، أو غيرها من القوى الممضية على البلاغ، لا تملك القدرة على تجسيد مطلبها، فإنّها رأت أنّه من الضروري الاستناد إلى البيروقراطية النقابية حتى تسعفها بإمكانية الضغط، لذلك فوّضت لها عملية التفاوض مع "الرئيس المؤقت". كما أنّ البيروقراطية وجدت ضالتها في اعتماد هذه القوى عليها، وفي تبنّي كل مشروع مهما كان، لربح الوقت وتجنب كل محاسبة على الخدمات الجليلة التي قدمتها لنظام بن علي ولممارستها الاستبداد والفساد داخل المنظمة النقابية. من هنا نفهم "التجميد" الذي آلت إليه مبادرة" اللقاء النقابي الديمقراطي".
محاولة للتفسير
إنّ ما أصاب اليسار اليوم من وهن وتذرُر وعجز، يدفع ضرورة إلى وضع تجربة هذا اليسار على محك النقد والمراجعة، وخاصة في مجالين : في مجال الرؤية والفكر وفي مجال العلاقة بالطبقات الشعبية.
إذ تنطلق هذه المجموعات اليسارية من تصوّر يقرّ أولوية القضية السياسية وأولوية الفعل السياسي. إذ هي ترى أنّ الوصول إلى السلطة، عبر العمل السياسي المباشر، يمكن أن يحقق كلّ المطالب: الحرية والتقدم الاقتصادي والاجتماعي والتطور الفكري..
الفرضية الضمنية لهذا النوع من التفكير هي التالية: التغيير يبدأ من فوق، أي من السلطة، ثم يقع تعميمه على كافة نواحي الحياة.
هذا الخطاب، رغم "جذريته"، في مستوى الظاهر فقط، هو خطاب يتماهى مع ما يسعى الفكر التقليدي السائد إلى إشاعته وترسيخه، وخاصة تغليب المصلحة الآنية المباشرة على كل ما هو نظري ومعرفي، وكذلك الانطلاق من الوحدة والاتفاق ونبذ التعدد والاختلاف.
أماّ في مستوى العلاقة مع الطبقات الشعبية، فإنّ ما يلاحظ هو عزلة المجموعات اليسارية وعدم قدرتها على التوجه إلى الطبقات المضطهدة.
ولعلّ أهمّ الأدلة على ذلك أنّ الجماهير الفقيرة والمفقرة التي خرجت لمقاومة نظام الاستبداد والفساد في الفترة ما بين 17 ديسمبر 2010 و14 جانفي 2011 رفضت الانضواء تحت راية أيّ تيار سياسي مهما كان (يساريا أو قوميا أو إسلاميا)، بل إنّ هذه المجموعات كلها لم تقدم شهيدا واحدا من قوافل شهداء الشعب. فكيف يجرؤ البعض على تنصيب نفسه قيادة لشعب لم يقدم من أجله التضحيات الضرورية؟
إنّ الجماهير المسحوقة التي قارعت أعتى الديكتاتوريات قادرة على التصدي للمجموعات التي انغمست في اللوصوصية بشكل ضمني أو صريح.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.