الأستاذ: عبد الرحمن الهذلي تمهيد: هذه خواطر صغتها، بعد زيارة أديتها، إلى موقع كان للأحرار قبرا، أو إلى قبور أخرى معبرا، أستنكف من ذكر اسمه لسوء ما ترك في النفوس من ذكرى، ولكن ذكاء القارئ، بالتأكيد، لن يخطئ له ذكرا. *** حكى التاريخ يوما في الشرق عن قلعه، عن المسلمين تمنعت قرونا سبعه، بأسوارها العالية السبعه، يدعونها القسطنطينيه. قيض الله لها فاتحا، يدعونه محمدا، فلم يتوقف المسلمون بعدها، إلا على أبواب فيانا، عاصمة النمسا. ويحكي الناس في تونس عن قلعه، من أهل البلاد نالت لعقود تقرب السبعه، ومنهم لثلاث وعشرين قد احتمت بالسبعه، داخلها مفقود، والخارج منها مولود. زارها الآبق قبلا خائفا معزوما، ودفعته الحاجة لزيارتها لاحقا بثورة مدعوما. مشى إليها والأسئلة في ذهنه تزدحم: ترى ما الذي تغير بين الأمس واليوم؟ أهي كما هي حين زارها؟ أم حط الزمن بعد من أوزارها؟ يَمَّمها مقتحما، ولراية الثورة الليبية تاجا على رأسه ممتشقا. فبالأمس ما كان يستطيع عن ميول تعبيرا، ولا لصورة رمز تعليقا. يذكر أنه حين كانت تشتد الخطوب شرقا، ويصطلي أهل لبنان وفلسطين بنار العدو صليا، ويخرج الأحرار ليعبروا عما يختلج بصدورهم غضبا، كانوا يقادون شارعا، ومنهم تسحب الرايات إلا ما نجا، وفي الخامس يحشرون، وبه يصرخون، ولا من سمع، فالتصوير إلا على أصحاب القلعة قد منع، وكم تمنى لسيد النصر صُورة أن يرفع، أو على بلور سيارَة أن يعلقها دون أن تقطع. وكم تمنى حين رزق المولود يوم سجل العرب نصرا، لو سمى ابنه حسنا نصرا، لكن خشيته عليه، حرمته هكذا شرفا. اقترب من حرم القلعة سيرا، فتدافعت في ذهنه الذكرى. هذا النهج زاره قبل مرارا. الوجوه الكالحة التي كانت النهج تملأ، هي هي، على الجدران تتكئ، وعلى الرصيف تتلكأ، وفي المقاهي والمطاعم تتكأكأ[1]، قد فقدت الحيوية، بعد أن شاعت الحرية. اقترب من باب جناح على أطراف القلعه، تذكر حين ولجه يوما من أيام السبعه، ليُوَقِّع فيبادره أحد سكان القلعه: "من أين تنفق؟" أجاب: "من راتب". فأردف: "كم تقبض؟" قال: "تسعون". "وكم الكراء؟" قال: "خمسون". فاستنتج وهو القوي في الحساب: "إذن يبقى أربعون!" وقد يكون جال في ذهنه أنه على كنز وقع. فبادر: "وماذا تقتات؟" قال: "خبزا وحليبا". فاستمر يسأل: "وما أيضا"؟ أجاب: " إن سمحت الظروف بيضا". لم تنطل عليه الحقيقه فهاج وماج، وانتفخت منه الأوداج: "ماذا؟ خبزا وحليبا وبيضا؟ من هنا فصاعدا ستأتي كل يوم للإمضا!". ها معاناة جديده! نزل عليه الحكم صاعقا، ألم يكن يكفيه أن يجول على ثلاثة فروع للقلعه حتى يزيدوه رابعا؟ فأكثر ما كانت تنقبض منه نفسه، هو حين كان يقف على الأبواب، ينتظر الدور ليوقع وهو يخشى السباب، ويجود عليه أحد الساكنين ببعض كريم الكلمات، وإن كان أكثر اجتهادا، ببعض رقيق اللمسات! أفاق من الذكرى، فسأل عن مكان قضاء حاجته أحدا، أشار عليه بأعماق القلعة موجها، فراح خلال الديار جائسا، ينظر حيث شاء مليا، من خوفه منتقما، كل باب مقتحما. تقاذفته المكاتب حتى استقر بأحدها ساحبا رقما. وقف آخر قاعة الانتظار في الطابور، يلقي السمع إلى ما كان يدور: أول يدعو للصلاة حازما! وثان يشكو صعوبة بفرائض الإسلام التزاما، وثالث ورابع في الطرف الآخر من أجل هذه اللحظة التاريخية قد هرما، بين حديث وآخر يذكران إسلاما... كان يسمع ما يدور ويستغرب، وهو في كل ذلك من أمر الله يعجب. أهنا؟ حيث كان اسم الله وحده يثير اشمئزازا؟ أهنا؟ حيث كان اسمه تهتز به الأرض والجدران والأسقف اهتزازا؟ أهنا؟ حيث كان يقرن اسمه بالفحشاء للمؤمنين استفزازا؟ لم يلبث إلا القليل، حتى اجتمع بالقاعة له مثيل، عَرَّفَتْه بهم المنافي داخل الوطن، حين كان السابع في قطع الأرحام يتفنن، بالتشريد والإبعاد، بين أصقاع البلاد. تبادلوا العناق والذكرى، والأنفس والقلوب بين الأمس واليوم حيرى: بالأمس صحبة كل كان ينكرها، لأنها قد تعني رحلة بعدها، واليوم في قلب القلعة إمعان في إظهارها، وتلك الأيام بين الناس نداولها. ترك القلعة بعد قضاء حاجته مغادرا، وفي نفسه صوت يعلو هادرا: سيحكي التاريخ يوما كما حكى، أن بتونس كما بالشرق قلعه، فُتِحَت يوم جُمُعه، يوم زلزلت الأرض زلزالها، وأخرجت البلاد أثقالها، وقال الناس في العالم كله: "كيف لها؟" يومئذ حدثت أخبارها، بأن ربك أوحى لها، يومئذ علم الناس أن للقلعة، كما كان للقسطنطينية، فاتِحَها، محمدَها، وأن لتونس كما كان للقسطنطينية ما بعدها. رحم الله البوعزيزي، محمدا فاتح القلعه. عبد الرحمن الهذلي / أستاذ مبرز في التاريخ (100 520 22)
[1] - تَكَأكَأ القوم على الشيء، إذا ازدحموا عليه.(ابن دريد، جمهرة اللغة)