بمجرد ان أعلنت حركة النهضة تعليق عضويتها بهيئة حماية الثورة حتى سارع الوزير الأول إلى استدعاء زعيمها لمحاولة إثنائه عن هذا القرار. و هذا التحرك له على الأقل دلالتين: أولاهما ان قوة الضغط التي تمتلكها النهضة ترتفع بمجرد ان تغادر هذه المؤسسات التي ثبت طابعها اللاتمثيلي و الانقلابي و بذلك تقترب أكثر من نبض الشارع و تزداد قدرتها على التحول إلى بديل، و ثانيهما ان الوزير الأول لم يستطع بتحركه هذا إخفاء عدم حياديته لأنه من المفروض ان لا يتدخل في الشأن الداخلي للهيئة خاصة و ان أطرافا أخرى علقت عضويتها أو انسحبت تماما دون ان ينتبه وزيرنا الأول إلى ذلك. لقد اخطات النهضة خطا فادحا حين شاركت في هيئة كان جليا أنها لا تملك داخلها أي وزن بحكم تحكم حزب التجديد من الداخل و حزب العمال الشيوعي من الخارج في تركيبة هذه الهيئة و مناشطها. و كانت الحصيلة ان وفرت النهضة الغطاء و الشرعية لعديد القرارات و التوجهات التي تصب كلها في تحجيم تطلعات الثورة من جهة و سحب النهضة الى مساحات لا تخدم بالمرة مشروعها.
فأما تحجيم متطلبات الثورة فتمثل توفير الغطاء السياسي و "المؤسساتي" لحكومة يعلم الجميع أنها تشكلت لحماية مكتسبات التجمع من خلال حماية رموزه وتوفير الفرص له لاستعادة نشاطه تحت مسمى ما لا يقل عن ثلاثين حزبا (آخرها الحزب الحر الدستوري الذي تمثل تسميته في حد ذاتها استخفافا بدماء الشهداء و عذابات الضحايا من "صباط الظلام" الى "مزارع نعسان" سيئة الذكر التي لم يتحدث عنها احد الى حد الآن)، و الحيلولة خاصة دون ان يحصل أي تقدم حقيقي في ملفات الفساد المالي و التعسف الأمني. و لذلك رأينا إلى أي مدى عجزت هذه الهيئة عن مساندة التحركات الشبابية بل و تآمرت بصمتها المخجل ضد اعتصام القصبة 3 و الحال ان الهيئة نفسها كانت انجازا من انجازات هذه الاعتصامات في زمن الوزير الأول السابق محمد الغنوشي.
و لقائل ان يقول بصدق و دون ان ينعت بالتهور أو التطرف: ما الذي تغير مع هذه الحكومات المتعاقبة منذ الرابع عشر من جانفي على مستوى المقاربة الاقتصادية و التركيبة السياسية للنخبة الحاكمة؟ بل و ما الذي تغير و نحن نرى تونس الثورة تتحول الى بوابة نظام القذافي على الخارج؟ و ما الذي تغير حين نفس تلك المقاربة الذليلة للسيادة الوطنية حين نرى مسؤولينا يتكلمون الفرنسية مع "ضيوفهم" الفرنسيين و يتسابقون للظهور على الكاميرات مع شخصيات سياسية فرنسية (مثل سيئ الذكر فرنسوا هولاند) لا زالت تنظرالى تونس كمستعمرة غير جديرة بالديمقراطية و السيادة و هو ما يفسر ان ترسل إلينا فرنسا احد مواطنيها ليشرف على الهيئة العليا للانتخابات فتكون أولى انجازاته ان يتحدى "هيبة" السبسي وسلطة المراسيم و توافق المجتمع السياسي و يعلن بكل عنجهية تأجيل هذه الانتخابات.
شخصيا كمواطن تونسي يعيش حاليا بالمهجر يهمني ان اشعر بان لدولتي هيبة تمكنني بان أعيش محترما حيث أنا الآن و ان لا ينظر إلي كما كان الأمر الحد الآن على كوني أجنبيا ينتمي الى دولة ليس لديها أية سيادة.
هذا هو الصعيد الأول.
أما الصعيد الثاني فيتصل بإنقاذ النهضة نفسها من مأزق جلي واضح المعالم يراد لها بمقتضاه ان:
- ان تكون فزاعة تهيب الرأي العام الداخلي و الخارجي من دون ان يكون لها حق في ان تحكم. وفي هذا السياق يمكن ان نفهم تزامن تأجيل الانتخابات مع تنظيم حركة النهضة لجملة من التحركات الناجحة عدديا. ولا يمكن ان نغفل في هذا السياق تصريحات الوزير الحالي للتكوين المهني و التشغيل الذي تعهد بان الإسلاميين لن يفوزوا و هو تصريح يتناقض جملة و تفصيلا مع ادوار و مسؤوليات وزير حكومة انتقالية أو حكومة تصريف أعمال.
- ان تقبل بكل الاعتداءات الفكرية و القانونية و السياسية على هوية البلاد العربية الإسلامية مقابل وصمها بقليل من الاعتدال
- ان تكون "الممثل" الوحيد للصوت الإسلامي في البلاد من خلال استقطاب ثقافي و سياسي موتور يسمح ل"حزب فرنسا" (وهو أقوى الأحزاب على الساحة لتمثيله ضمن سياق سياسي معقد لورثة التجمع المنحل و تشكيلات اليسار الاقصائية التي يغيظها في ان تقرا الفاتحة على أرواح شهداء الوطن من الأمن في أحداث الروحية) يسمح لهذا الحزب بتركيبته الأخطبوطية ان يبقي تونس دولة دائرة دورانا كليا في المدار الثقافي الفرنسي الذي يعلم الجميع انه أقوى المدارات معاداة للإسلام في ذاته و ليس للتطرف أو ما شابه ذلك. ويمثل العقد الجمهوري الذي يراد فرضه على الطريقة التركية اكبر أضحوكة ضمن هذا المسار الانتقالي : أضحوكة بادر الى فرضها على مسارات النقاش في الهيئة رئيسها الذي عين أصلا من قبل بن على للالتفاف على مطالب الثورة و ذلك يوم 13 جانفي قبل ان "يقلب القميص" و يتحول الى "ثوري" و بعض "أشباه المثقفين" المدعومين من الدول الغربية بالتواطؤ مع ملكيات الخليج الفاسدة.
- وضمن هذا السياق نلاحظ بان التشكيلات اليسارية تستمد زخمها الإعلامي من تمثيلها القوي في الهيئات المختلفة عن طريق المستقلين (و للحزب العمال الشيوعي في هذا المضمار قصب السبق) و هيمنتها أيضا على المشهد الإعلامي في حين لا نكاد نرى أثرا واضحا للتشكيلات الإسلامية الأخرى الناشئة لا داخل هذه الهيئات و لا على الصعيد الإعلامي. وبعجزها عن "الدفاع" عن حقوق هذه التشكيلات بل و إصرارها على ان تكون التعبيرة الوحيدة المعبرة عن التوجه الإسلامي تطوق النهضة نفسها داخل عزلة سياسية و إعلامية هي التي تفسر توجسها من تبني سياسة أكثر مبدئية و التحاما بمطالب الثورة.
- ان تكون ورقة التوت التي تغطي على المعادلة الحالية للحكم (التي نرى فيها التجمع ممسكا بكل مؤسسات الدولة القائمة حاليا و نرى فيها اليسار ممسكا بكل تلابيب المعادلة السياسية القادمة) وهو ما يفسر من جديد ما دبجنا به مقالنا من إسراع رئيس الحكومة الى ممارسة ضغط على النهضة للعودة الى هيئة الالتفاف على حلم الثورة لان تعليقها لعضويتها ان تطور الى قطيعة كاملة سيهز أركان هذا التوافق الخادع الذي قبلت به النهضة .
كما رأينا المشهد السياسي التونسي هو اليوم على حالة كبرى من التعقيد الذي قد يفتح على سيناريوهات خطيرة إذا استمرت النهضة في سياسة "سد الذرائع" و تغييب المجتمع من معادلة تعاملها أو صراعها مع الدولة و ذلك بالانكفاء على ضرورات البناء الداخلي و الاصطفاف في خانة أحزاب "الموالاة" ( إشارة الى المصطلح المشهور في لبنان) و عجزها عن قراءة احتياجات هذه اللحظة الثورية الفريدة.