الدكتور الصحبي العمري من هنا تبدأ الحكاية : متى وكيف يقع تفعيل العفو التشريعي العام ؟ يبدو أنّ الحكومة المؤقّتة قد سارعت إلى محاولة لملمة الوضع بعد 14 جانفي 2011 دون تشخيص الدوافع الدّفينة التي جعلت الشّعب ينتفض ضدّ رئيس صفّق له الجميع وتواطئ معه الجميع بالصّمت أو بالفعل أو بالمخاوزة على حساب حقائق مأساويّة عايشتها شرائح مجتمعيّة حاولت التّصدّي للإنجرافات الأخلاقيّة التي إستنزفت الجهد والمال في مختلف الميادين . وإن إقتنعت الحكومة المؤقّتة بهول ما حدث من تجاوزات وإنتهاكات رافقت سلطان الرئيس الهارب في تونس إلاّ أنّه لم يصدر منها إلى الآن بيان إعتذار رسمي عمّا صدر من أجهزة السّلطة من خروقات تسبّبت في مأسي إجتماعيّة شلّت كيانات البلاد من جرّاء خيارات أمنيّة متطرّفة أنهكت الجهد والمال والموارد لجميع الأطراف المتداخلة . ولأنّ الله يمهل ولا يهمل فقد دقّت ساعة الفرج وإنقشع الكابوس المهيمن على البلاد منذ عقود بعد أن إندلعت ثورة تونس من المناطق المهمّشة وحرّك دوافعها الشّعور بالحيف والإقصاء في وطن يتّسع للجميع من أبنائه . ودون الخوض في التفاصيل فقد حدث ما حدث منذ 14 جانفي 2011 وما زلنا نبحث منذ ذلك التاريخ عن شاطئ الأمان لتحقيق ما عجز عن تحقيقه غيرنا ولكنّنا أيضا ما زلنا لم نتوفّق إلى ما يدفع بإستحقاقات ثورة تونس نحو الإنجاز رغم توفّر قواسم مشتركة بين حميع الأطياف والشرائح السياسيّة المتواجدة في المشهد العام . إذ بعد قرابة الأربعة شهور من صدور مرسوم العفو التشريعي العام في 19 فيفري 2011 ما زالت الحكومة المؤقّتة لا تعير أيّ إهتمام لإلتزاماتها وتعهّداتها المحلّية تجاه شريحة من التونسيّين دفعت ثمن تحدّيها لسياسة الظّلم والقهر والإستبداد التي إنتهجها الرئيس الهارب لتجذير سلطانه البوليسي حتّى إقتلعته ثورة تونس من كيانه السّلطوي . وفي إطار التوجّه نحو الإستقرار والهدوء وشعورا بثقل المسؤوليّة فيما ألحقه التعسّف السّياسي والبلطجة الأمنيّة والتّوظيف القضائي والتّهوّر الإداري من أضرار ماديّة وصحيّة لدى العديد من ضحايا نظام بن علي لجأت الحكومة المؤقّتة إلى إستصدار أوّل مرسوم ينصّ على العفو التّشريعي العام الذي ناضلت من أجله منذ عقود أجيالا متتالية من مختلف القوى السياسيّة والحقوقيّة والمدنيّة . إلاّ أنّه يبدو بعد صدوره في أول مرسوم بعد الثورة ما زال هذا الإجراء يفتقد إلى عزم صريح يضفي على مثل غيره من المراسيم حرصا وجدّية في التّنفيذ تجعل آليات المصداقية والشفافية تحقّق غايته الإنسانيّة قبل السياسيّة . لكنّ الحقيقة المعاشة باتت تفنّد مزاعم الحكومة المؤقّتة أمام تواطئ عديد الأطراف التي ركبت ثورة تونس وأصبحت طرفا في السّباق نحو الالتفاف على إستحقاقات العدالة الإنتقاليّة التى يتمثّل هدفها في ردّ الاعتبار لكلّ من طالتهم آلة القمع والإستبداد وذلك من أجل إنصافهم وجبر ضررهم ماديّا و معنويّا قصد التّحضير لأرضيّة وئام ومصالحة وطنيّة حقيقيّة تكون مطيّة لوفاق سياسي نتجاوز من خلاله أسباب التّباين والإختلاف الذي لا يخدم مصلحة أيّ طرف في المشهد العمومي . وما إن وقع الإعلان عن صدور مرسوم العفو التشريعي العام في الرّائد الرسمي ووسائل الإعلام المحلّي والدّولي حتّى تهاطلت جحافل اللاّجئين النّهضويّين وغيرهم نحو العودة من الخارج إلى أرض الوطن بعد غربة قسريّة طال أمدها في شتّى بلدان العالم . ظنّ الجميع أنّ الحكومة المؤقّتة ساعيّة بكل جدّية إلى طيّ صفحة الماضي وتضميد الجراح لكلّ من تأذّى من ظلم الرئيس الهارب . هرول المساجين السياسيّين السّابقين واللاّجئين وعائلات ضحايا نظام بن علي إلى إستصدار شهادة التمتّع بالعفو التّشريعي العام من مختلف محاكم البلاد لإرفاقها بملف إداري يسمح بتسويّة وضعيّاتهم في وظائفهم السّابقة التي أطردوا منها ظلما وبهتانا . ومع مرور الأيّام والأسابيع والشّهور ظهر التّسويف والتّعطيل وإختلاق العراقيل في تطبيق بنود المرسوم المذكور بذرائع التّسيّب والإنفلات الإداري وتكوين مجالس ولجان وهيئات و ... و ... في الوزارات لتنغيص حياة من كان يرى في هذا الإجراء ردّا للإعتبار أكثر منه تعويضا ماديّا لما لحقه من ضرر لا يمكن تعويضه بمال الدنيا . تذرّعت جميع الوزارات والإدارات بإرسال جميع الملفّات إلى الوزارة الأولى أين تكوّنت لجنة تؤشّر على الملفّات حالة بحالة وهي عمليّة لم ينص عليها أيّ بند من بنود العفو التّشريعي العام . ورغم كلّ ذلك ما زالت هذه اللّجنة شبحا مجهول الأسم والأطراف وغير موجود في الوزارة الأولى ولم يسمع أحد بإنتصابها لإجتماع واحد منذ أكثر من أربعة شهور لمعالجة الإشكال المطروح في عفو تشريعي عام ما زال حبرا على ورق قبل أن يندثر . سارعت في الأثناء وزارة الداخلية إلى لملمة عناصرها المطرودة لأسباب سياسيّة وتأديبيّة وغيرها تفاديا للخطر المحدق بأمن البلاد من جرّاء غضب أنفار مدرّبة على التعاطي مع السلاح إضافة إلى تعاطف زملائهم الذين ما زالوا في حالة مباشرة . رجع السّارق والجرم وبائع المخدرات والمغتصب وخائن الأمانة و ... و ... إلى سالف مهنته في جهاز الأمن ولكنّ الغريب في الأمر تعطّل النّهضويّون من الإلتحاق بسالف وظائفهم في باقي الإدارات بذرائع لا ترتقي إلى الإقناع . لعلّ العدد الكثيف في حجم مأساتهم كان حاجزا في تلبيّة جميع المطالب دفعة واحدة ولكن سوء آداء الحكومة زاد في تعكير صفو المناخ والتّواصل في هذا الموضوع إذ إتّسم بالبطىء والتّلكّإ والتّسويف أو بكلّ صراحة أضفى التّعاطي فيه بعدم الوضوح والمماطلة والمخاوزة ممّا يجعل المرء يحتقر من أصدره وأمضى عليه. وفي الأثناء تبادرت إلى الأذهان عمليّة مقايضة في الخفاء بين قيادة حركة النّهضة والحكومة المؤقّتة لتجاوز إصرار المنتفعين بالعفو التّشريعي العام على الحصول على ما يجيز به القانون من جبر للضّرر والعودة إلى سالف الوظيفة وذلك في إطار يخفّف الأعباء الماليّة والإداريّة على الحكومة المؤقّتة . لذلك لم يسمع أحد في تصريحات وخطابات الجمعيّات والمنظّمات الحقوقيّة والأحزاب السياسيّة المعارضة ما يشير إلى إعطاء موضوع تفعيل ومتابعة تنفيذ العفو التشريعي العام ما يستحقّه من عناية ومتابعة وكأنّ الأمر هيّن ولا يستدعي أيّ إهتمام . إنّه التّواطئ والإهمال والجحود أمام نضالات من هانت عليه نفسه من أجل عزّة وكرامة التّونسيّين في تونس وخارجها . إنّ تفعيل حق جبر الضرر وإعادة الإندماج والإلتحاق إلى سالف الوظيفة بعد الطّرد والعزل لأسباب سياسيّة جاء نتيجة نضالات متضرّرين من سياسة القهر والإستبداد وبتدخّل مباشر من جميع مكوّنات المجتمع المدني التي حرصت على تدارك الموقف في ظرف حرج بعد إندلاع ثورة تونس وذلك لتهدئة الخواطر وإجتثاث الإحتقان الشّعبي المتنامي بعد هروب الرئيس المخلوع ولا يزال العديد من الذين تمتّعوا بالعفو التشريعي العام محرومين من العودة إلى سالف وظائفهم ( أساتذة ومعلّمون متعاقدون ووقتيّون وقيّمون وعمّال البلديّات وموظّفون بالإذاعة وأطبّاء الصّحة العموميّة ومهندسون وتقنيّون ... إلخ ) وحتّى الذين عادوا لم تقع تسويّة أوضاعهم الإداريّة من حيث التّرقية والتّنظير و المرتّبات المتخلّدة والأقدميّة والتّقاعد و التّغطية الاجتماعيّة وأمّا الذين كانوا يعملون في شركات و دواوين وقع التّفويت فيها للقطاع الخاص (الستيل ... الأنابيب ..... إلخ ) وجدوا أنفسهم في التسلّل وأصبحوا يتساءلون كيف تسوّى أوضاعهم في غياب الإصغاء والصراحة لتدارك ما فات من العمر تحت وطأة الظلم والقهر والإستبداد ... أمّا التّلاميذ و الطّلبة الذين تحطّمت حياتهم ومستقبلهم الدّراسي والجامعي وسرق منهم شبابهم وصحتهم فلا يعرفون كيف يستفيدون من قانون العفو التّشريعي العام وكذلك أصحاب المهن الحرّة وغيرها . أمّا الذين وقع الإستيلاء على ممتلكاتهم وتفليس مشاريعهم التّجارية والصناعيّة فقد ضاعوا في متاهات أروقة عدالة بدون قضاة وقضاة بدون عدالة . إلى متى تتواصل مأساتهم و تجاهلهم من وسائل الإعلام وخاصّة متى تقف الحكومة المؤقّتة وقفة حازمة في تفعيل أول مرسوم أصدرته بعد الثورة وما زال حبرا على ورق ؟ لا يمكن بناء جسور الثّقة بين السّلطة والشعب دون إحترام الشّعب في ذاته وفي مكوّناته الأساسيّة إذ أنّ المتضرّرين من أداء نظام بن علي ما زالوا يعتبرون في محيطهم الإجتماعي معيارا لمصداقيّة الحكومة المؤقّتة في تعهّداتها وأنّ جبر الضّرر المادّي يعطي دفعا إقتصاديّا وإجتماعيّا في عديد المجالات ويرمي بظلاله على التّواصل المفقود بين الحكومة المؤقّتة والشعب لأنّه لا توجد عائلة في تونس لم تطلها يد الظّلم والقهر والإستبداد من قريب أو من بعيد وبصفة مباشرة أو غير مباشرة من غطرسة نظام بن علي . قد يعتبر تنفيذ بنود العفو التّشريعي العام الصّادر في 19 فيفري 2011 إعترافا بذنب ترفض الإقرار به أجهزة السّلطة وقد يكون أيضا وسيلة وهميّة لإجتثاث الغضب الشّعبي والضّحك على الذّقون مثلما حدث ذلك في العفو التّشريعي العام الصادر في شهر جويلية 1989 والذي تبعته مآسي أمنيّة وقضائيّة للمنتفعين به بعد أن تحوّل هذا العفو الخبيث إلى كارثة نزلت عليهم وحوّلت حياتهم إلى جحيم بعد أن وقع إفراغه من مضمونه وتعرّض أصحابه إلى حملات إعتقال في إطار توجّه إستئصالي لشريحة مجتمعيّة أكّدت حضورها السّياسي والميداني حتّى أصبحت قطبا يشاكس الحزب الحاكم من أجل التّواجد القانوني على السّاحة السياسيّة . إن صدقت العزائم لن يكون في تونس إلاّ ما ينشده الجميع من أجل خير الجميع لتجاوز الإشكاليّات المطروحة بوفاق يحزّ في النّفوس المريضة التي صدمتها ثورة تونس وجعلتها تهرول لعلّها تحصل على مكان تزرع فيه جراثيم مستنقعاتها ... وإن خاب الأمل ... فيا خيبة المسعى .