بينما كنت أجمع الأفكار لأكتب عن ظاهرة الفساد إذ بى أفتح جريدة الشروق لأجد بصفحتها الخامسة حوارا مطولا مع رجل من رجالات القضاء التونسي الذين شرفوا تونس وشرفوا جهازها القضائي ,ومن الذين وقفوا بكل جرأة وشجاعة ضد طغيان بن علي وزمرته الفاسدة ونالهم بسبب تلك المواقف الشجاعة والجريئة من الأذى والإقصاء و التهميش الشيء الكثير فأردت أن أوفيه حقه وأعرف به فقد عرفت بلادنا أبطالا وعظماء فى تاريخها القريب والبعيد ناضلوا من أجل دولة الحق والعدل والحرية والكرامة الإنسانية وتم طمس تاريخهم أو وقع تقزيم نضالهم من طرف مؤرخي العهد البائد فمن هو إذن هذا الرجل ؟ الأستاذ مختار اليحياوي من مواليد 1952 بغمراسن من ولاية تطاوين نشأ ودرس فى العاصمة وتحصل على الإجازة فى الحقوق عام 1976 , درس فى السربون بفرنسا حيث تحصل على الكفاءة فى المحاماة , نجح فى مناظرة القضاء فى مرة أولى وتم تعيينه قاضيا فى سيدي بوزيد لكنه لم يباشر العمل واجتاز المناظرة مرة ثانية عام 1983 ليصبح قاضيا فى محكمة تونس , تنقل بين عدة محاكم وخطط قضائية عبر البلاد وتدرج فى سلم الترقيات حيث عرف بنزاهته التاريخية و بكفاءته المهنية, وكان كل شئ يؤهله لمزيد التقدم المهني ولما أحس هذا الرجل بما آل إليه وضع القضاء من فساد وتدخل سافر فى شؤونها ولتصبح أداة طيعة فى يد البوليس السياسي تنفذ أحكامه المنزلة والجائرة وتسلبهم من دورهم فى حماية الحقوق والحريات فهاله الأمر فكتب برسالة إلى رئيس الدولة بوصفه رئيس المجلس الأعلى للقضاء والضامن للقضاء العادل بتاريخ 6 جويلية 2001 يقول عن أسباب كتابة تلك الرسالة : " لم أكن أنتمي إلى أي حزب أو تيار سياسي لكنى وصلت إلى مرحلة فقدت فيها رغبتي فى العمل فى القضاء" ويضيف " نشأ قضاء مواز مع جهاز القضاء العادي , كانت لدي مشاكل يومية مع طبيعة الأحكام التى نصدرها منذ أن كنت فى محكمة أريانة وتوترت العلاقات بسبب الضغوط اليومية التى تمارسها الإدارة على القضاء والتي تحولت إلى هرسلة يومية" فأخضع على اثر تلك الرسالة متابعة لصيقة من طرف أعوان البوليس السياسي فقد كانوا يجمعون يوميا محتوى سلة المهملات بعناية ليأخذوها إلى مكان ما , وكلف حاجبه بإعداد تقرير يومي عنه وبعد ذلك اخترعوا له عدة قضايا عدلية مثل نشر الأخبار الزائفة أو قضايا حوادث المرور للضغط عليه ولما جاءت ثورة الحرية والكرامة"يقول السيد اليحياوي استدعيت من طرف السيد محمد الغنوشي إلى مكتبه فى الوزارة الأولى حيث قضينا ساعة ونصف فى الحديث عن القضاء وكيف يمكن معالجة ملفه؟ يقول بذلت له جهدي لإقناعه بأهمية وأولوية القضاء فى هذه الرحلة , إن موقفي هو ضرورة تفكيك الفساد لكن طبق القانون, لأن القضاء هو المخول لوحده فى ذلك, وأنا أعارض عزل القضاة الفاسدين ولكن يجب محاسبتهم وإعطاؤهم شروط المحاسبة العادلة لكشف أسباب الفساد وفهم الوضع وإصلاح جهاز القضاء وان التستر على طريقة عزلهم أمر سيئ جدا" ويلفت الأستاذ اليحياوي النظر إلى أن بن علي عرض عليه تعيينه سفيرا وعرض عليه أجرة شهرية بثلاثة عشر ألف دينار ورفض تماما ولم يقبل المساومة على المبادئ ومن هذا كله تكفل القضاء من تتبع قضايا الفساد أمر لاتريده الحكومات السابقة ولا تريد استقلالية للقضاء ولا إصلاحا له ولدوره وهنا مكمن الداء. وهذا نص رسالة القاضي المختار اليحياوي إلى الرئيس المخلوع : " جناب السيد رئيس الجمهورية التونسية رئيس المجلس الأعلى للقضاء. أتوجه إليكم بهذه الرسالة لأعبر لكم عن سخطي ورفضي للأوضاع المريعة التى آل إليها القضاء التونسي والتي أدت إلى تجريد السلطة القضائية والقضاة من سلطاتهم الدستورية وتحول دونهم وتحمل مسؤوليتهم كمؤسسة جمهورية مستقلة يجب أن تكفل لهم المساهمة في تحديد مستقبل وطنهم والاضطلاع الكامل بدورهم فى حماية الحقوق والحريات. أن القضاة مقهورون فى كل مكان على التصريح بأحكام منزلة لا يمكن أن ينال منها أي وجه من الطعون ولا تعكس القانون ألا كما أريد له أن يقرأ. إن القضاة التونسيين يعانون من حصار رهيب لايبقي أي مجال للعمل المنصف ويعاملون باستعلاء في ظروف من الريبة والتوجس والوشاية تطولهم وسائل القمع والترهيب بما يسلب إرادتهم ويحول دون التعبير عن حقيقة قناعتهم, كما تداس كرامتهم يوميا ويقدمون للرأي العام بشكل مرعب وبشع من الحيف والبطش حتى كاد يتحول مجرد الانتماء إلى القضاء معرة أمام كل الشرفاء والمظلومين. إن القضاء التونسي قد فرضت عليه الوصاية بسيطرة فئة من الانتهازيين المتملقين الذين نجحوا في بناء قضاء مواز خارج عن الشرعية بكل المعايير. استولوا على المجلس الأعلى للقضاء وعلى أغلب المراكز الحساسة في مختلف المحاكم لا يعرفون معنى التجرد والحياد وتحولت الاستقلالية إلى استقالة وتبرم لدى كل القضاة الحقيقيين المحيدين والممنوعين من الاضطلاع بدورهم وتحمل مسؤوليتهم وتفعيل كفاءاتهم في خدمة القضاء والوطن. إن هذه الفئات التى تتاجر بالولاء لتكريس الخضوع والتبعية والمعادية لمنطق التغيير والتطور الخلاق عن طريق الالتباس بنظام الحكم القائم والتي تسعى إلى إشاعة التباس النظام بالدولة بالاستيلاء على كل مؤسساتها إنما تسعى إلى الفتنة وتقود إلى المواجهة وتشكل التهديد الحقيقي للنظام والأمن والاستقرار. إن مباشرتنا اليومية التى أتاحت لنا الاطلاع على حقيقة أوضاع القضاء تجعلنا نتجاوز واجب التحفظ في ظروف سدت فيها كل قنوات الحوار المتوازن بما لم يبق معه مجال للصمت أمام صرخة الضمير حتى وان تحولت سجوننا لأحسن مكان للشعور بالكرامة والحرية وراحة الضمير. إن مسؤولياتكم الدستورية تفرض عليكم اتخاذ القرارات اللازمة لرفع الوصاية عن القضاء وعلى كل مؤسسات الدولة على نحو يسمح بإتاحة ممارسة الحريات الدستورية للجميع لصياغة التغيير الحقيقي الذي يتطلع إليه شعبنا وتقتضيه مصلحة الوطن." • وتعقيبا على هذه الرسالة المتضامنة مع شعبنا والمعبرة عن حقه فى الحريات الدستورية التى سلبها منه ذلك المجرم الجبان مستعينا فى ذلك بمؤسسة القمع البوليسية التى طالب ويطالب شعبنا بإلغائها وبفئة القضاة الانتهازيين الذين باعوا ضمائرهم بعرض من الدنيا قليل يمكن أن نلخص محتواها فى ما يلي : ففي الفقرة الأولى والثانية : أعرب عن سخطه الشديد من تجريد للقضاء من سلطاته الدستورية بحيث أصبح القاضي ينفذ تعليمات البوليس السياسي لتسليط الأحكام المنزلة على المناضلين السياسيين فى تلك الفترة دون أن يكون له فيها رأي وفى الفقرة الثالثة: يشير إلى الوضع الذى آل إليه القضاء من التدخل البوليسي في شانه بالقمع والترهيب والحصار والوشاية المضروبة عليه من ميليشيات حزب التجمع والتهجم عليه وعلى شرفائه عن طريق وسائل الإعلام المأجورة. وفي الفقرة الرابعة والخامسة : يشير هنا إلى فئة الانتهازيين المتملقين من القضاة الذين استولوا على المجلس الأعلى للقضاء وأسسوا قضاء موازيا لخدمة بن على وعائلة الطرابلسية ليعيثوا فى الأرض فسادا وبذلك كرسوا الخضوع والتبعية للمفسدين فخانوا القضاء وخانوا الوطن. وفى الفقرة السادسة والسابعة : يشي إلى انسداد قنوات الحوار المتوازن واصداعه بالحق وان أدى به الأمر إلى السجن فهو أحسن مكان لراحة ضميره وشعوره بالكرامة والحرية وانه لشرف عظيم لهذا الرجل الذى قال كلمة الحق حين سكتت الشياطين الخرساء ولم يبالى ويطلب من المجرم الجلاد أن يرفع وصايته عن القضاء ويتيح للشعب حق ممارسة حرياته التى كفلها له الدستور