احمد دخيسي مضت ستة عقود أو تزيد على رحيل الاستعمار الأجنبي من أقطار الأمة الإسلامية، حينها كانت الفرحة كبيرة لنيل الحرية. انهمك كل كيان في بناء دولته وصيانة حدوده والقطع مع الماضي الاستعماري. ربما لم يكن في حسبان الجيل الأول من المجاهدين ضد الاستعمار أن يعمروا طويلا حتى يعايشوا النسخة الوطنية من ذلك الاستعمار ويعاصروا جهاد ونضال أبنائهم وأجدادهم ضد الأنظمة الحاكمة ببلدانهم. يتساءل الجيل الأول: ما بال دولة الاستقلال تجنس الاستعمار وتبخس البشر كالحمير؟ هذا حاكم يبيد شعبه بعد عقود من العبودية لأنه يراهم جرذانا لا يستحقون الحياة من دونه، إما سمع وطاعة أبد الدهر أو قمع وتصفية بالمرصاد. وحاكم آخر لا يرى في شعبه سوى حفنة من الخونة وشرذمة من المتآمرين على الدولة الوطنية. لسان حاله يقول: إذا قلت لحاكمك ارحل... فقد لغوت، ومن لغا فلا مواطنة له. بعد ستة عقود من الاستقلال، أصبح الشعب الذي جاهد أجداده لإخراج المستعمر من الديار يستجدي هذا المستعمر ليساعده لتحقيق استقلاله الثاني من استعمار ذوي القربى. أجيال عاشت حياة مديدة ولم تر في حياتها سوى حاكم واحد أو اثنين. الآن تغير كل شيء، أصبح حديث الثورة فاكهة المجالس وأنيس الناس وعزاءهم بغد كل هذه الأعوام الطويلة من التكميم. عقود عاشت خلالها الشعوب على هامش الحياة وانتظرت طويلا، حتى هرمت، هذه اللحظة التاريخية لتجدد إيمانها بالتغيير وإمكانية الحياة من جديد رغم كل المآسي. لقد طال الأمد على هذه الضمائر المنهكة من فرط الظلم والقمع حتى كادت الأرحام تعجز عن ولادة الرجال رغم كثرة الذكور. ومن لطائف القدر أن يولد الصبح من رحم الليل وتنعتق الثورة من ردهات الثلاجة الأمنية. ولما كان ذلك كذلك، كان لزاما أن تحيى الشعوب من جديد. أخيرا تمرد الناي علة أنامل الراعي، وأفاق الحاكم من الهذيان ليعلم أن له شعبا يريد الحياة. خيرهم بكل الوسائل بين عبودية راضية مرضية أو حرية مضجرة بدمائهم. قال لهم إن رحيلي عنكم سيحولكم من رعية وفية إلى دجاج يأكل بعضه بعضا من قلة الطعام. قالوا له ما أنت إلا فخار تطفل على صناعة الحرير، انتهت اللعبة. هذا فراق بيننا وبينك لأن الطهارة لا تباع ولا تشترى في الدعارة.