بسم الله الرحمن الرحيم من المفيد أن نتفق قبل كل شيء على تشخيص الوضع الذي تمر به الثورة التونسية من بعد أن نكثت الزمرة الممسكة بمفاصل السلطة منذ 15 جانفي الماضي بكل تعهداتها التي استمرت على أساسها في نفس مواقعها، شريطة الإعداد لانتخابات يقول فيها الشعب كلمته دون تزوير ولا تدخل خارجي ثم ينزل الجميع على حكمه. وإمعانا في الخديعة والمخاتلة تعهد السبسي أمام الجميع أنه لن يستمر في مهمته يوما واحدا بعد الموعد"الوفاقي" الأول للانتخابات في 24 من جويلية القادم. غير أن ما عشناه جميعا قد أكد لنا أن هذه التعهدات لا تساوي شيئا ولا تلزم إلا من صدقها. و النتيجة هي هذا الوضع الغريب الذي قضى بان يقع تقرير مصير الثورة التونسية بين يدي ثالوث ليس من مصلحته أن تكتمل مسيرة الشعب نحو تحقيق جميع الأهداف المعلنة للثورة وعلى رأسها جميعا سيادة الشعب من خلال ما نصبو إليه من انتخابات حرة ودولة خادمة للشعب نازلة عند أمره ونهيه، غير تابعة ولا متواطئة... ومن المجمع عليه أن هذه القوى الثلاث المتحالفة يجمعها الخوف من الإرادة الشعبية، طرفان منها يخشيان المحاسبة أحدهما على ما ارتكبه من جرائم وفظاعات ترتقي إلى مستوى الجرائم ضد الإنسانية، والثاني يخشى المساءلة عن جرائم السلب والنهب المنظم والتسبب بالخراب والدمار الذي أصاب البلاد والعباد، وأهون ما يتوقعه أن يفقد ما جناه وما بناه من مال الشعب.أما الطرف الثالث، فيبدى علنا استعداداه للتحالف مع إبليس نفسه على الخضوع لإرادة شعب يعلم أنه سيلفظه في أول مناسبة، ومنتهى حلم هذا الطرف أن يستبدل هذا الشعب بشعب على مقاس خياراته ورؤاه. قوى الردة هذه، تعضدها إرادة خارجية مصممة ومصرة على التصدي بكل حزم للاختيار الحر للشعب التونسي و قد أخذت قرارها بعدم السماح للشعب بالاختيار إلى حين الفراغ من كل الترتيبات التي تضمن أن لا تخرج الأمور عن السيطرة، وقد نجح رهان هذه القوى على قبول الجميع بالأمر الواقع لتأجيل الانتخابات لتتمكن من تمرير خططها معولة على إخضاع الشعب بجميع الوسائل، بعد أن تمكنت من خداع النخبة أو شراءها أو تخويفها، أو على بقايا رهاب مرضي لم يستطع البعض أن يخلعه عن كاهله بعد.. والحال هذه ما العمل وما هو الطريق الأسلم للمواجهة؟؟؟ إن التعويل على الوسائل السياسية لوحدها لن يجدي نفعا البتة، ذلك أن السياسة التي أعلن موتها في تسعينات القرن الماضي لم تبعث بعد من رفاتها. فالسياسة باعتبارها البحث عن الأرضيات المشتركة والوفاق والتنازلات المتبادلة من أجل الصالح العام، ثم وضع الأمر في النهاية بين يدي الشعب ليحكم بين البرامج المختلفة دون تزييف أو تزوير لإرادته لا يمكن أن تنجح وسائلها مع المافيات التي لا تعرف الوفاق ولا التنازل ولا الصالح العام، ولا مع من يفضلون التحالف مع إبليس نفسه على الاحتكام للإرادة الشعبية. والواقع يفرض علينا الاختيار بين "الوثوق" في الفرقاء السياسيين الماسكين بدواليب الأمور حاليا رغم ما ثبت من استعدادهم الدائم للنكوص عن كل ما يتعهدون به ومن رغبة جامحة في العودة بنا إلى ما هو أتعس من المربع الأول من جهة، وبين الوثوق في وعي شعبنا وقدرته على فرض إرادته بالوسائل التي يرتئيها رغما عن إرادة قوى الردة وظهيرها الخارجي كما سبق أن أسقط الطاغية رغم أنف هؤلاء. هذا عن الموقف المبدئي والحالة الذهنية التي يجب أن تقود مواقفنا اليومية وتهدي تحركاتنا السياسية والميدانية. وإن لم يتم الإتفاق على هذا الضابط لتحركنا فسوف نقع في مثل ما وقعنا فيه من موقف غريب بعد خطاب السبسي الأخير المستهزئ بكل ما سبق أن أعلناه ويكاد يجمع عليه المنتظم السياسي الجدي، وكذلك الاتجاه الغالب للرأي العام. أما عن الطرح السياسي العملي فإن أدنى ما يمكن الالتزام به في هذا الإطار، وفي غياب إرادة مجمع عليها لتفعيل الوعي والفعل الشعبي، هو ألا يكون سقف خطابنا منخفضا بشكل غير مقبول عن السقف الذي نتلمسه جميعا لدى شعبنا في كل مكان، وأن نتجنب الإمضاء على صكوك بيضاء للذين لم تعد مكائدهم خافية على أحد. وفي هذا الإطار علينا التمسك بمطالب نعتبرها شروطا للسماح لهذه الزمرة بالاستمرار حتى إجراء الانتخابات لأن الاكتفاء بوعودها مثار للسخرية بعد كل هذا الغدر. ومن هذه الشروط ما يتعلق بالحكومة نفسها، ومنها ما يتعلق بالهيئتين المعينتين. أما ما يتعلق بالحكومة فيجب دفعها نحو الاستجابة للمطالب العاجلة التي ترفعها جماهير الشعب. أما الهيئتان فلا سبيل لاستمرارهما لأنهما نقضتا بأيديهما أسس شرعيتهما حيث أخلتا بشرط التوافق ونكثتا بعهد الانسجام والتناغم مع الإرادة الشعبية وتحقيق الأهداف المعلنة للثورة التي ليس من بينها بالتأكيد الهروب من مواجهة الإرادة الحرة عبر التأجيل غير المبرر للانتخابات، وعبر السعي بصفاقة منقطعة النظير للتحول إلى "برلمان" دائم ناطق باسم الثورة يعد لنا القوانين في غياب أي شرعية من أي نوع كان. وهذه أسباب كافية للخلاص من المأزق الذي وقعنا فيه.