تسعى العديد من القوى الإجتماعية والسياسية التي كانت متنفذة في تونس ما قبل 14 جانفي إلى الحفاظ على المشهد السياسي والفكري كما كان سائدا قبل ثورة 14 جانفي، مع إحداث تغببرات طفيفة هنا وهناك لخداع الرأي العام. وتحاول فئتان رئيسيتان الاستفادة من ذلك: قوى اليسار التي بإثارتها للمعارك الهامشية تحاول ربح الوقت للتغطية على جرائمها في حق تونس نتيجة تحالفها الذي إستمر لعقود مع النظام السابق، وطائفة مهمة من رجال الأعمال، وقوى دولية معروفة هي بصدد إعادة التموقع وتغيير أساليبها تفاعلا منها مع المستجدات بما يضمن حفاظها على مصالحها، ولا يهم بعدئذ أفاز اليمين أو اليسار بالإستحقاقات الإنتخابية المقبلة. وجدت هذه الأطراف في الصراع المفتعل بين "القوى التقدمية العلمانية"، و"القوى السلفية الدينية" أفضل خديعة لتحقيق أهدافها. لكن المتأمل لمفردات وأدوات هذا الصراع يكتشف بسرعة أنها معركة معزولة عن الواقع الجديد الذي أحدثته هذه الثورات المتعاقبة، ومنفصلة عن هموم أبناء الشعب وقضاياه الملحة، في توفير لقمة العيش الحلال، وضمان مستقبل مشرق للأجيال القادمة بعد أن حرمنا نحن منه.
هذه المعركة الإيديولوجية التي تنشط القوى اليسارية اليوم من أجل بقائها حية ومتقدة، تلتجأ فيها إلى أدوات بالية مستدعية من الماضي البعيد، ما يكشف إلى أي حد لا يزال أصحابها محكومين بعقلية القرن الثامن عشر، ومقولات الكتاب المسيحيين العرب مثل بطرس البستاني، وفرانسيس مراش، وأديب إسحاق، وكلهم مؤسسين لتيار لم ينبع من داخل الثقافة العربية الإسلامية، ولم يتمكن رغم محاولاته الاندماج فيها، أو شق نواة هويتها العربية الصلبة، أو التشكيك في مرجعيتها الإسلامية والأخلاقية العليا. وإن نجح في التمكين للأقليات العرقية والدينية في العديد من البلدان العربية على حساب الأغلبية الساحقة، كما هو حاصل في سوريا والعراق ولبنان وفلسطين...
في مواجهة هذا التيار "التقدمي" "السلفي"، نجد تيارا "سلفيا" "تقدميا"، يحاول جاهدا الإنفكاك من كماشة الماضي، وثنائياته القاتلة، القائمة على عقلية توفيقية للإنطلاق إلى فضاء المستقبل الرحب الواعد بمستوى معيشي محترم، يكفل كرامة الإنسان، وعمل شريف يسد الحاجة، ويضمن نهضة الوطن ورقيه.
ورغم ان هذا التيار "السلفي" يجد أصوله الأولي في أدبيات عصر النهضة ورموزه المتنورة من أمثال جمال الدين الأفغاني، ورشيد رضا، ... ومن لحق بهما من الإصلاحيين في تونس، فإنهم يدعون اليوم إلى الإنتظام الإجتهادي في التراث، ويرفعون لواء التجديد الفكري والثقافي، وهم في سعي حثيث إلى تحقيق التحديث السياسي والإجتماعي الذي بدونه لا يمكن لتونسالجديدة أن تحقق التقدم الذي يصبو إليه شعبها.
وإن كان ولابد، فيجب التذكير كل مرة بأن الذين نزلوا إلى شوارع وأزقة مدينة سيدي بوزيد، والقصرين، وتالة...، والمدن الأخرى التي لحقت بها في ديسمبر 2010، لم تدفعهم إلى ذلك الرغبة في تسريع عجلة الجدلية المادية او حسم الصراع الطبقي، فتلك مقولات لم تخرج يوما عن دائرة الترف الفكري بالنسبة إليهم. كما لا يبدو من خلال الشعارات التي رفعت والمطالب التي عمّدت بدماء طاهرة أنها كانت دفاعا عن الهوية العربية والإسلامية لتونس، لأن تلك الهوية ببساطة لم تكن يوما من الأيام موضع شك أو إبطال لديهم. وهذا الشعب لا يحتاج اليوم إلى فاتحين جدد بالقدر الذي يحتاج فيه إلى رجال دولة مصلحين، يوحّدون ولا يفرّقون، وينتصرون إلى الوطن لا إلى أنفسهم، والمصلح الحقيقي اليوم في تونس هو من يرتفع من تحت الإنقاذ ليرفع الأنقاض عن غيره.
عبد الحفيظ بن علي - سويسرا مصدر الخبر : بريد الحوار نت a href="http://www.facebook.com/sharer.php?u=http://alhiwar.net/ShowNews.php?Tnd=19082&t=لا "التقدميون" تقدميون، ولا "السلفيون" سلفيون بقلم عبد الحفيظ بن علي &src=sp" onclick="NewWindow(this.href,'name','600','400','no');return false"