يبدو أن ثورة الياسمين التي حررت الشعب التونسي من الطغيان و الاستبداد كانت مثالا يُحتذى في كل البلدان العربية. فشهر واحد بعد نجاح الشباب في طرد بن علي من الحكم تمكن الفراعنة من إزاحة مبارك من عرش اعتلاه منذ ثلاثة عقود. تحرك شعبي شابه إلى حد كبير ما حدث في تونس: بدأ بمظاهرات صاخبة احتجاجا على تردي الأوضاع, انتشار الاعتصامات والإضرابات في كل الجهات بمشاركة كل طبقات المجتمع من طلاب المعاهد إلى العاطلين عن العمل. و قد أخذت الحركة منحى تصاعديا عندما انضمت إليها النقابات و المحامين و ممثلي المجتمع المدني في ضل إصرار السلطة على القمع البوليسي و التعتيم الإعلامي. صورة تتكرر في كل البلدان من سوريا إلي ليبيا مرورا باليمن. في البداية السماح لقوات الأمن الداخلي بترويع المتظاهرين ثم دس مجموعة من المخربين لبث الفوضى و إفضاء شرعية على عنف تدخل الأمن. ثم يأتي إعلان الطوارئ و إنزال الجيش إلي الشارع و هي الحركة التي تنبئ بقرب نهاية النظام لان الجيش تكّون و تدرّب لحماية الأوطان من العدوان الخارجي و ليس لقتل أبناء البلد. و في الواقع إن كل البلدان العربية كانت تعيش حالة طوارئ منذ عقود تميزت بغياب القانون و تهميش الحريات و قمع المعارضة. منذ رحيل المستعمر في منتصف القرن الماضي, تولى الحكم في البلدان العربية حكام طغاة أحاطوا أنفسهم بحاشية فاسدة همها جمع المال و تحقيق المآرب الشخصية. كان كل همهم الحفاظ على السلطة لضمان مصالحهم. و حتى عند رحيل الجيل الأول من الحكام كان انتقال الحكم تعسفيا: * فمن وقع اغتياله مثل السادات نُصّب نائبه بسرعة البرق دون استشارة الشعب و لا حتى استشارته هو إذا صدقنا مبارك حين قال عشية رحيله "لم أكن يوما اسعي إلى سلطة أو جاه" , لعله كان يعي ما يقول لكن بعد فوات الأوان. * أما من وقع الانقلاب عليه مثل بورقيبة فان العملية نُعتت في وقتها "بالانتقال النظيف" لكنها كانت في الحقيقة أبشع مظاهر الغدر و الخيانة. خيانة المقربين للرئيس العجوز و على رأسهم بن علي الذي كافأ بورقيبة لترقيته إلى رئاسة الحكومة فأزاحه ووضعه تحت الإقامة الجبرية إلى آخر يوم من حياته و حتى بعد مماته فُرض طوق امني على ضريحه. و لعل مصير بن علي ذاته يذكرنا بالمقولة الشهيرة "انقلب السحر على الساحر". أما الغدر فدفع ثمنه الشعب الذي لم يحصد من وعود "صانع التغيير" كما كان يحلو لبن علي أن يُلقب سوى الأوهام و التنكيل. هو كذلك صاح عاليا عشية هروبه : "لا رئاسة مدى الحياة.. لا رئاسة مدى الحياة", لعله هو كذلك كان يعي ما يقول و لكن بعد فوات الأوان. إذ في الوقت ذاته كان التونسيون ينادون بصوت واحد : "اغرب عنا ..اغرب عنا." و هو ما تم بالفعل يوم 14 جانفي 2011. * أما المثال الثالث فهو ما حدث في سوريا, إذ وقع تنصيب شاب ليس له بالسياسة أي دراية على راس دولة تعد 25 مليون مواطن, فيها ديانات مختلفة و أعراق متنوعة إضافة إلى تصدرها الصراع العربي الإسرائيلي. هذه الأمثلة تلخص نصف قرن من الحكم في الوطن العربي تميز بالتسلط و البطش. وها هي تونس تحقق السبق مرة, فهي من أوائل الدول التي حققت استقلالها من المستعمر الفرنسي سنة 1956. و هي الآن تسجل اسمها بحروف من ذهب في كتب التاريخ, فموقعها الجغرافي سيزيد في سرعة التحولات في المنطقة. فهي بلد صغير من حيث المساحة و عدد السكان, لكن شعبها مثقف و متفتح على العالم و فيه طبقة وسطى هامة ساهمت في نشر قيم الحرية الديمقراطية. في الوقت الذي كان فيه النظام يروج لحملة مناشدة للانتخابات القادمة تدعو الرئيس إلى الترشّح, كان المواطن التونسي يتألم لوضع البلد. فالفساد منتشر و الحريات مقيدة و كل المؤشرات توحي بتأزم الوضع.