مع اشتداد المواجهة الدائرة هذه الأيام بين الخائفين على "هيبة الدولة" و الخائفين على مستقبل الثورة، بدأت الأحزاب خروجا تدريجيّا من حلبة الصراع الأيديولوجي و جدله الذي يتصاعد و يخفت حسب الأحداث التي تغذّيه، و دخلت استوديوهات التصوير لإنجاز ومضات إشهاريّة لحشد المزيد من الأنصار و الجماهير و استقطاب الناس و حثّهم مبدئيّا على التصويت لها في ذلك اليوم المشهود، يوم الانتخابات. و قد بدأت بعض الأحزاب فعلا حملتها التسويقيّة، فصرنا نشاهد على طرقاتنا لافتات عملاقة لصور شخصيّات سياسيّة تبتسم، و مع الابتسامة شعار جميل يبشّر بمستقبل أفضل للشعب. و صرنا نسمع في الإذاعة و نشاهد في التلفزيون ومضات تقدّم تلك السلعة السياسية جنبا إلى جنب مع الإعلانات عن أنواع الشامبو و مشتقّات الحليب، و كلّها تراعي قواعد التسويق و شروطه الفنيّة من جمال الصورة و عذوبة الصوت و بشائر المضمون الذي يعد كما قلنا بمستقبل سعيد للتونسيّين إن هم صوّتوا طبعا لذلك الحزب دون غيره من الأحزاب. و لعلّ الأحزاب الغنيّة ستتنافس قريبا في شراء الابتسامات الجميلة المؤثّرة، و هنا ننصحهم ،إن قبلوا النصيحة، بجوليا روبرتس ذات الابتسامة الساحرة و قد باعتها بمبلغ 1.5 مليون دولار في إعلان لقهوة إيطاليّة مدّته 45 ثانية. ولعلّ المجال سيفتح قريبا أمام نجوم الفنّ و الرياضة ليبيعوا مفاتن صورهم إلى أحزابنا الفقيرة و الغنيّة على حدّ السواء ما دامت الدولة ستدفع لها من الخزينة العامّة للإنفاق على حملاتها الانتخابيّة. نكاد نفهم الآن لماذا تأجّلت الانتخابات إلى ما بعد الصيف و شهر رمضان. فالتونسيّون سيتنقّلون بين المدن السياحية من أجل "الخلاعة" و في الطرقات الوطنيّة و السيارة سيمرّون بتلك اللافتات العملاقة و سترسخ بأذهانهم صور المبتسمين تلك الابتسامات الجميلة التي لا يمكن أن تكون "صفراء" فليس أصدق من رجال السياسة و نسائها و من ابتساماتهم البرّاقة و وعودهم الخلاّقة. و في شهر رمضان يستقطب التلفزيون ملايين المشاهدين، و المؤكّد أنّ الأحزاب حجزت لها أفضل المساحات لتمرير إعلاناتها و منافسة أكبر شركات الاتصالات و المواد الغذائيّة و الخدمات التي تتهافت على الحجز في مثل ذلك الشهر لبيع سلعها. و مازال التونسيّون يتذكّرون طبعا ما وقع في رمضان 2010 حين تحوّلت ساعات البثّ للقنوات التلفزيونيّة التونسيّة العامّة و الخاصّة إلى مهرجان متواصل من العروض الإشهاريّة على حساب البرامج الأخرى حتّى ارتفعت أصوات فزعة تنادي بتقنين العمليّة احتراما للمشاهد و حقّه في الحماية من تلك الهجمات الشرسة. وفي غياب تلك الحماية التي لا يتمتّع بها إلاّ المشاهدون في البلدان المتقّدمة، و في ظلّ الفراغ القانونيّ الذي قد يستمرّ مدّة أطول في بلادنا، نتوقّع أن يتجدّد الهجوم على المشاهد التونسيّ في رمضان القادم بشكل أكثر شراسة من السنة الماضية باعتبار كثافة المنتوج الحزبيّ الذي قد ينخرط معظمه في الإعلان لبضاعته استعدادا للانتخابات التي ستحلّ في أكتوبر القادم. و لعلّنا ندعو من جهتنا منظّمة الدفاع عن المستهلك المعروفة بنضالها الكبير في عهد المخلوع إلى أن تجنّد أعوانها لمراقبة ذلك الصنيع من أجل حماية التونسيّين من تلك الحملة المنتظرة و ذلك بتوعيتهم و إرشادهم إلى ما في الإعلانات الإشهاريّة عموما من أنواع الخداع و الكذب و المغالطة التي يعاقب عليها القانون في الدول المتقدّمة بالمنع و بدفع التعويضات الباهظة لمن تضرّر منها. و في انتظار أن تواكب قوانيننا هذه الجرائم الجديدة، سنكتفي بمجهود المنظمة في دفاعها عن المستهلك و قد كان لها في الماضي القريب صولات و جولات! و لكنّ أخطر ما ننبّه إليه في ختام هذه المقاربة ، خوفنا من تحويل هدف الانتقال الديمقراطيّ المنشود في بلادنا إلى سوق لبيع الأصوات و شرائها ما دامت برامج بعض الأحزاب تحوّلت إلى بضاعة معروضة على قارعة الطريق و لعلّها ستعرض قبيل الانتخابات في المغازات الكبرى و بمغريات متنوّعة، و قد تشمل الأسواق الأسبوعيّة و الشعبيّة، و لعلّ بعضنا سيقتنيها عن طريق التجارة الإلكترونيّة و يتسلّم السلعة في بيته دون الحاجة إلى التنقّل بحثا عنها. و لكنّ المخيف أكثر من كلّ ذلك ما قاله السيد المنصف المرزوقي مؤخّرا عن "المال السياسيّ القذر" الذي قد يحسم العمليّة الانتخابيّة لصالح بعض المؤسّسات الاقتصاديّة التي تحوّلت إلى ما يشبه الأحزاب و حينها سيجد الناخبون أنفسهم في سوق سوداء يعمل المضاربون فيها على استقطاب أصوات الناخبين لاحتكارها و السيطرة على مسارها، و هنا قد يتساءل الناس معي: لمن سأبيع صوتي و من سيشتريه؟!