بعد هروب الرئيس المخلوع وجد التجمعيون أنفسهم في مهب الرياح وفي موقف لا يحسدون عليه فالرجل الذي كانوا يستظلون بظله ويحتمون باسمه فر بجلده دون سابق إعلام. بعد فترة من التخبط والصدمة بدأ التجمعيون ينظمون صفوفهم وقرروا طرد الرئيس الهارب من الحزب في محاولة فاشلة لخلط الأوراق وسرعان ما تغير خطابهم السياسي فأصبحوا يكيلون لرئيسهم وولي نعمتهم أبشع التهم والشتائم بعد ما كانوا يناشدونه المرة تلو الأخرى للترشح للانتخابات الرئاسية وذهب بعضهم إلى اعتبار أنهم هم أيضا من ضحاياه وشملهم قمعه وجبروته. لكن الشعب الذي صنع الثورة لم تنطل عليه الحيلة وطالب بشدة بضرورة حل هذا الحزب الذي أفسد الحياة السياسية في تونس لمدة تزيد عن نصف قرن وكان بمثابة السرطان الذي انتشر في كل دواليب الدولة بعد أن تحالف مع الأجهزة الأمنية. عملت بقايا التجمع على إثارة الفوضى والبلبلة والنعرات القبلية في مختلف أنحاء البلاد في محاولة للفت الأنظار على القضايا المصيرية وإتاحة فرصة الهروب للمتورطين في حق الشعب. وبعد التأكد من أن الحزب في شكله الحالي لن يجدي نفعا بعد أن فقد كل مقومات الحياة ودخل في موت سريري عمل التجمعيون أنفسهم على التسريع في حل التجمع وتم ذلك فعلا بأمر قضائي. ومن هنا بدأت قصة التفريخ ففي فترة وجيزة تم إغراق المشهد السياسي بأكثر من خمسين حزبا أو يزيد قاسمهم المشترك جذورهم التجمعية رغم إنكار بعضهم ذلك. بعد حصولهم على التراخيص القانونية حاولت هذه الأحزاب أن تظهر بثوب جديد لاستقطاب الجماهير فمنهم من حاول توظيف العامل التاريخي لإحياء الحزب الحر الدستوري والفكر البورقيبي ومنهم من ظهر في شكل حزب وسطي تقدمي. وقد راهنت هذه الأحزاب على عامل التكاثر من أجل الحصول على أكبر عدد ممكن في المجلس التأسيسي في مرحلة أولى وإقامة تحالف قد يعيد مجد الحزب المنحل في مرحلة ثانية. ومن أجل استعطاف الجماهير عملت هذه الأحزاب على لعب دور الضحية ولبست عباءة الثورة وأصبح رموز النظام البائد لا يجدون حرجا في انتقاد النظام السابق الذي كانوا يسبحون بحمده بل وذهب بعضهم إلى اعتبار أنهم هم من أسقطوا نظام بن علي بعدم مؤازرته أثناء الثورة وهم الذين كانوا يهيئون سيدتهم الأولى لتسلم السلطة وكانوا يتمسحون تحت أقدامها لنيل رضاها. ورغم أن الشعب التونسي كان كريما مع هؤلاء واكتفى فقط بإقصاء كل من تحمل مسؤولية في هذا الحزب في العشر سنوات الأخيرة من الترشح للمجلس التأسيسي وكان من الأجدى منع كل الرموز الذين تحملوا مسؤوليات في هذا الحزب من العمل السياسي لمدة لا تقل عن خمس سنوات تطبيقا للعدالة الثورية حتى لا يعيد الحزب إنتاج نفسه من جديد وحتى يعطي هؤلاء الفرصة للآخرين من أجل بناء نظام ديمقراطي بعد أن سيطروا هم على المشهد السياسي لأكثر من نصف قرن. ورغم أن الحزب البائد كان يضم في صفوفه بعض العناصر النزيهة التي كانت تحاول إصلاح النظام من داخل المنظومة التجمعية الفاسدة بالوسائل المتاحة ودون الدخول في المواجهة لكن كل هذه النوايا الصادقة لا تشفع لهؤلاء لأنهم كانوا شركاء في الجرائم التي ارتكبها نظام بن علي حتى ولو كان ذلك بالصمت. ومع اقتراب انتخابات المجلس التأسيسي نهيب بجماهير شعبنا أن يفوتوا الفرصة على هؤلاء بعدم التصويت لأحزابهم التي تريد إعادة إنتاج النظام القديم بديكور جديد وان لا يغتروا بشعاراتهم الكاذبة لأن هؤلاء تربوا في مدرسة بورقيبة وبن علي التي لا تؤمن بالتعددية وتؤمن بسياسية الحزب الواحد كما أن الديمقراطية لا يمكن أن تلد من رحم الديكتاتورية لأن فاقد الشيء لا يعطيه ونحثهم على التصويت للأحزاب التي تسعى لبناء نظام ديمقراطي تعددي فيه تداول للسلطة وتقطع مع أساليب الماضي بغض النظر عن خلفياتها الأيديولوجية. كما وجب التحذير من خطورة المال السياسي لأن من يشتري صوت الناخبين اليوم قد يعيدنا إلى مربع القمع الذي كنا نعيش فيه لذلك لابد لكل تونسي أن يتذكر عند دخول الخلوة دماء الشهداء الذين ضحوا بحياتهم وتركوا لنا وصية بناء دولة ديمقراطية في كنف الكرامة والحرية فالشعب قال يوم الرابع عشر من جانفي لا خوف بعد اليوم كما قال لبن علي وأنصاره اللعبة انتهت.