مرت الأشهر سريعة وجاوزت في رحلتي مع الجلادين العشرة أشهر وكانت الأيام لا تختلف عن بعضها البعض حيث يقع ايقاظنا حوالي الساعة الثامنة صباحا ليقوم عون السجن بتفقدنا و هو ما يسمى في لغة السجن "الحساب" ثم يقع اخراجنا لشم قليل من الهواء ولا يتجاوز ذلك ربع الساعة ترى خلالها المسجون يركض حتى يتمكن من اعطاء بعض الحيوية لجسمه الذي ملّ الجلوس طول النهار. من اشد ما يقلقني في سجني هو قلة الاستحمام حيث لا يقع السماح لنا بازالة ما علق بنا من أوساخ الا مرة في الشهر ولمدة عشر دقائق. ودلك ما ساهم, الى جانب الاكتظاظ بانتشارمرض الجرب. كان معنا في الغرفة صاحب سوابق معروف يدعى "بوناب " كناية على ناب فضي يسد به فراغا في فمه حصل له بعد احدى بطولاته الاجرامية, يهابه كل المساجين وحتى حراس السجن لأن له باع طويل في الاجرام ولا يكاد يغادر السجن حتى يعود اليه, يخرج الى الفسحة أنى شاء يطيل شعره كيفما يريد وهو معنا في الغرقة يتقرب اليه كل المساجين ويعتبر المسؤول الشرفي للغرفة فقد يحدث خلافا بين كبران الغرفة وأحد النزلاء أو أن أحدهم يريد الحصول على شىء فيلجأ اليه. تجاذبنا مرة أطراف الحديث فعرف اني أقطن بجهة الساجل التونسي فقال لي أن أمه من أصيلي تلك الجهة وأصبح من ذلك الوقت يناديني ب"ولد بلادي" وهي من المصطلحات التي تسيل على ألسنة التونسيين وتذكرني بطرفة أيام الدراسة بأحد من الأربعة المعاهد التي احتضنتني في دراستي الثانوية حيث كان معي في نفس الفصل زميل لا يقدر على نطق حرفي السين و الصاد أو لا يريد نطقهما ويتخير كلامه بطريقة عجيبة حيث يتجنب أي كلمة فيها هذان الحرفان. ومن سوء حظه ان اسمي ولقبي يحتويان على حرف السين وكان صاحبنا ذكيا فأطلق علي اسم "ولد بلادي" وكان يختار لكل من كان اسمه محتويا على هذين الحرفين او أحدهما اسما آخر يطلقه عليه ولا ينساه أبدا. ذات مرّة وفصل الصّيف يلقي بثقله على أجواء زنزانات السجن حيث كانت الغرف تستوعب أضعاف ما هو مقدر لها ،كان يسمح لنا في بعض الأحيان ان نصبّ على أجسامنا بعض الماء البارد حتى نخفف من وطأة الحر لكن لا يتم ذلك إلا باذن ناظر الغرفة واذا كان "بوناب" حاضرا فيكفي اذنه. جلس"بوناب" نيابة عن ناظر الغرفة لينظّم عملية الاستحمام السّريعة بالماء البارد وهي تتم أمام بيت الراحة التي توجد في نفس الغرفة التي نسكنها ولكم أن تتخيلوا الروائح التي تهب على الأنوف كلما زار أحد ما كنا نصطلح على تسميته بدار التجمع كناية على تعفّن تلك المؤسسة التي تتحكم في رقاب العباد منذ ان وهبتنا فرنسا استقلالا مزيّفا بل قل سلّمتنا الى استعمار جديد و اكتفت بتسييره بروموت كونترول هي وحلفاؤها. لا بد أن أستحم لكن لن يسمح لي اذا استأذنت من صديقنا، فدخلت بيت الراحة وجلست قرفصاء وصببت على جسمي قليلا من الماء أزيل به ما علق ببدني من نجاسة حتى اتمكن من القيام بفروضي الدينية. أثناء خروجي، لمحني ولم يتردد في ان يقول لي بانه تفطّن لما قمت به دون اذنه وكنت سأقبل ملاحظته لولا أنه صاغها بألفاظ قبيحة. كان ردي سريعا ومفاجئا: -نعم أخذت "دوش" وإذا أردت اشتكيني, وأرجو أن لا تطيل معي الكلام استشاط غضبا لما سمعه من تحدي وهو الذي تعوّد على اخافة الناس . هبّ قائما وهو يصيح سترى !! هذه ثالث خصومة مع مساجين من الحق العام والسبب في كل الحالات انّي لا أقبل الطريقة التي يتكلمون بها ثم اني اكتشفت أن هولاء المجرمين خارج القضبان يختلفون كلّيا عما يصبحون عليه داخل السجن من حيث الجرأة والشجاعة ذلك ان افتقادهم لأدوات الاعتداء يجعل منهم نعاجا تسوقها كيف تشاء بل قل جبناء بامتياز تعجّب الكلّ لهذه الجرأة. جاءني العم خميس وهمس في اذني: -أنت لا تخاف من أحد. -أنا في السجن ماذا سيحدث لي أكثر من ذلك, العذاب وقد أخذت نصيبي منه, دراستي وقد حرموني من مواصلتها, نغصوا حياة أهلي, شوقوني الى أحبابي وشوقوا أحبابي الي, ما ذا عساهم أن يفعلوا؟ امتدت أيديهم وسياطهم الى جلدي فخطت عليه ذكريات لا تمحى بل قل جروحا لا تنسى والآن يريدون مني أن أنسى, أنى لهم ذلك. توعّدني خصمي بنقلي الى غرفة الى أخرى أسوأ لأن "في الهمّ ما تختار" كما يقول المثل التونسي . كان الوقت يشير الى قرب صلاة المغرب وكنت يومها صائما حين جدت خصومة بين فتحي بالحاج و مسجون من الحق العام ورغم أنه لا ناقة لي ولا جمل في هذه الخصومة الا اني وجدت نفسي أنا ومحمد وفتحي أمام المسئول لانّ خصم فتحي وبإيحاء من "بوناب" أقحمني في الخصومة حتى يتمكن من تحقيق وعيده. اقتادونا إلى مكتب الملازم أين انهالوا علينا لكما وركلا ثم أمر بحملنا إلى "السّيلون" لكنّهم لم يدخلونا فيه بل ظللنا في الجناح القريب منه واقفين ووجوهنا إلى الحائط إلى حدود الساعة الواحدة صباحا. فتك بي الجوع لاني لم أتمكن من الإفطار وظللت صائما لمدة أربع وعشرون ساعة. مرّ احد المسئولين وأمر بإعادتنا إلى الغرفة والطريف في الأمر أن طرفي المعركة لم ينالا اي عقاب في حين أني وجدت نفسي منقولا الى غرفة أخرى، حيث تبدأ رحلة أخرى. إلى اللقاء في الحلقة القادمة بإذن الله