بسم الله الرحمان الرحبم أنتج الربيع العربي في تونس و مصر لأول مرة حكومات و سلطات منتخبة تحمل في أرحامها شرعية الشارع و تزكية الثورة , وكان للإسلاميين سبق الفوز , فانتقلت الحركة الإسلامية من دائرة تسيير الدعوة إلى دائرة تسيير الدولة , ومن دائرة المبتلى المطارد الى دائرة الحاكم المتمكن , وأصبح من حكم عليه بالإعدام في أقل من سنة رئيس حكومة أو رئيس جمهورية بتزكية شعبية كبيرة ونزاهة انتخابية عزّت حتى في أعرق الديمقراطيات , و عرفت الحركة الإسلامية طعما لم تألفه من الوحدة و الاحتشاد في صف واحد بين كل مكوناتها (سلفية-اخوان-تحرير.....) مع بعض الاستثناءات . و تزامن مع هذا المظهر المتسارع تمايز الصفوف و ظهور مكونات جديدة للمشهد السياسي , وبرزت للوجود ممارسات سياسية راقية تجسد حرية الاختيار و حرية التعبير وصولا إلى حرية التغيير , و تأسست سلطة و معارضة من خلال اختيار الشعب ؛ البارز في هذا التأسيس أن السلطة ( إسلامية ) و المعارضة ( علمانية : يسارية او يمينية ...) , ربما معارضة ألفت - من جهة الفكر وليس من جهة المكون - أن تكون على رأس سدة الحكم , و سلطة ألفت - من جهة التاريخ - أن تكون معارضة أو مطاردة و في الغالب مسجونة. هذا المعطى الجديد أثار حفيظة فئات متنوعة في الدولتين , كلها رفضت فكرة وجود إسلامي على رأس حكومة أو فوق كرسي الرئاسة , فتحالف المتناحرون واجتمع المتنافرون وأصبح اليسار حليفاً لليمين في مشهد لم تشهد الساحة السياسية العالمية مثيلاً له. أن يقف اليسار المعتدل مع اليسار المتطرف رفقة الوسط معية اليمين الليبرالي بتمويل من البرجوازية الفاحشة بمباركة الشيوعية الاجتماعية .. صفاً واحداً مشكلين منظراً فسيفسائي للمعارضة التي حملت شعار العلمانية ضد الظلامية ممثلة في الحركة الإسلامية الحاكمة . و هذا التمايز في الصفوف بين سلطة و معارضة , وذلك التكتل الهلامي لشتى الأفكار المتناقضة , كان يمكن أن يكون اصطفافاً طبيعياً نتيجة عملية انتخابية فيها الرابح و الخاسر , فكم تحالفت الحركة الإسلامية مع العلمانية في إطار سعيها لإسقاط الطغيان..., كان يمكن لذلك أن يكون مشهداً حضارياً لعملية التدافع السياسي تحقيقاً لسبل تطبيق البرامج , و بالتالي تحقيق مصلحة الوطن و المواطن , فالسلطة متجندة لإثبات أحقيتها في الحكم وقدرتها على التسيير , و المعارضة متكاتفة لطرح البديل المناسب خلال المحطات الانتخابية المقبلة , و اسداء النصائح المانعة من الشطط خلال مسار السلطة..ويكون المستفيد الأول والمدلل الأول هو الحاكم الأول المسمى " الشعب ". ولكن بقي ذلك في مجال التنظير فقط , إذ أفرزت الثورات العربية المعاصرة نوعاً من المعارضة لم تعرفها كل التجارب الديمقراطية ولا حتى التيوقراطية أو الشمولية , معارضة تعترف بنزاهة العملية الانتخابية و في نفس الوقت تطالب بإسقاط السلطة الشرعية المنتخبة , و تنادي بعودة العسكر للحكم , وتستنجد بالقوى الأجنبية للضغط على السلطة أو لمباركة الانقلاب المنشود , معارضة تحرك الأتباع لقطع الطريق و الأرزاق و تفاخر بالإفساد و الإحراق , ثم بعد ذلك تتباكى على المواطن المسكين الذي تعب من حكم الإسلاميين . هذه المعارضة بشكلها الجديد وبأساليبها المبتكرة تحتاج إلى وقفة تنطلق من سؤال قد يكون مشروعاً عند كل متتبع أو مراقب : هل هي من خلال سلوكها الحالي تؤسس لبدائل حقيقية للسلطة الحاكمة ؟ أم أنها تهدف الى إسقاط الحكم و لو كان معها إسقاط الوطن؟ أو بصيغة أخرى هل هذه التحركات جاءت لتحقيق مصلحة سياسية أو حتى حزبية ضيقة , أم لخدمة أجندات خارجية ( عربية و غريبة ) لا يسرها أن ترى إسلاميين في الحكم أو ترى ربيعاً عربياً في بعض الدول المجاورة أو ذات الأهمية الإستراتيجية اقتصاديا و سياسياً ؟ . لابد أن نطرح هذه الأسئلة في ضوء حقيقة مهمة : أننا نتكلم عن معارضة تتشدق ليل نهار أنها معارضة ديمقراطية , تؤمن بالديمقراطية , و تدعو للديمقراطية , و تفطر ديمقراطية , و تتعشى ديمقراطية , و تنام على أحلام وردية ديمقراطية..., يعني أن الممارسة الديمقراطية القائمة على الصندوق و اختيار الشعب و قبول الخلاف وتقبل الهزيمة و الاعتراف بالشرعية ... من أهم ركائزها , وبالتالي عندما نرى تلك الممارسات المخالفة لكل هذه الركائز نحس بنوع من التناقض الفكري : أهكذا يكون العمل الديمقراطي ؟ أهكذا تكون المعارضة ؟ هل يقبل من معارضة ديمقراطية أن تدعو الجيش لتسلم السلطة من رئيس منتخب ديمقراطياً ؟؟ هذه التناقضات تسبّق حكم الاتهام لأفعال المعارضة بدل التبرير, فإما أن هذه المعارضة ليست ديمقراطية و لا علاقة لها بما تدعيه من احترام قرار الشعب , و إما هي مكلفة بتطبيق أوامر خارجية لإفشال أي تجربة ديمقراطية قد تنجح في بلاد العرب خصوصاً ورواد هذه التجربة هم إسلاميون لطالما اتهمهم الغرب وعملاؤه بأنهم ظلاميون ديكتاتوريون , لا يملكون برامج لتسيير الدولة أو حل الأزمات التي صنعها العلمانيون في الاقتصاد و السياسة و المجتمع..., أزمات مترامية خلفتها سياسات خرقاء لعلمانيين ( يساريين و ليبراليين ) خلال سنوات الحكم , تسببت في التبعية التامة للغرب , فلا يعقل – عندهم – أن يترك المجال لإسلاميين لإعطاء صورة أخرى للبديل الإسلامي الناجح كما وقع في تركيا خلال السنوات الأخيرة. فمسألة تحقيق مكتسبات سياسية لا تكون عند العقلاء أبداً على حساب تهديم الدولة أو العودة بالمجتمع إلى الوراء و الى عهد الديكتاتورية و حكم العسكر , أو الدعوة الى عصيان مدني قد يحرق الأخضر و اليابس , أو تبرير حرق المؤسسات و الممتلكات العامة و الخاصة , و رفع نسبة الاحتقان في المجتمع إلى درجة الانفجار وربما الحرب الأهلية... , و بالتالي هذا الأمر مستبعد في واقع تصرفات المعارضة , فتحقيق أي مكتسبات كان يمكن أن يتحصّل بأساليب ديمقراطية تقوم على مراقبة السلطة وتثمين المنجزات و تأطير الشعب , و لما لا خلق حكومات ظل لدفع عجلة التنمية و ترقية الممارسة الديمقراطية الوليدة و بيان الإختلالات التي قد تظهر... , و هذا ما لم يظهر – على الأقل خلال الفترة السابقة – بل ظهر عكسه و بات وكأن المعارضة لا تبالي بعواقب تصرفاتها . وقد استغلت في ذلك - بنوع من الدهاء السياسي - نقطتين مهمتين في تحركاتها : 1- نقطة الإعلام الذي لا يزال رهينة للمال السياسي , ولم يتطهر بعد من أنصار عهد الفساد و الأنظمة الساقطة , فأصبح هذا الإعلام منبراً لمهاجمة السلطة مستغلاً الهامش الرائع من الحرية , حتى وجدنا أن قناة رسمية عمومية لا تغطي زيارة رئيس الجمهورية ( الدكتور المرزوقي ) لبعض الدول وهو أدنى عمل يمكن أن تقوم به أي وسيلة إعلامية , فلا يزال هذا الإعلام شوكة في حلق التغيير يضخم السلبيات و لو كانت تافهة أو كاذبة , ويسقط الإنجازات و لو كانت جذرية أو جوهرية , و للأسف يناسب ذلك التبعية الغريبة لعقل الشعوب العربية للإعلام , فكل ما يرد في الإعلام نصدقه ويثير في نفوسنا شبهات مهما كانت مصداقيته , دون أن نتعب أنفسنا أو عقولنا في البحث عن جدية الخبر وصدقه , فمال سياسي فاسد مع إعلام تابع مع عقل تافه : خير خلطة لأي مؤامرة . 2- النقطة الثانية التي ترتكز عليها المعارضة وهي قاعدة " كثرة المشاغبة تؤدي إلى سرعة المتابعة " , أو ما يمكن أن نسميه : " اكذب ثم اكذب ثم اكذب فسيأتي اليوم الذي تصدّق فيه " , فكثرة المشاغبة وكثرة الإلهاء و إثارة القضايا الهامشية وكثرة الصياح ..., تصنع صورة باهتة تعطي انطباعاً عن غياب الأمن و غياب الاستقرار وغياب التنمية ... , وبالتالي فشل الحكومة أو النظام في التسيير وصولاً الى المطالبة بإسقاطه , و الشعوب العربية تعاني من نقص الوعي فتصدق ذلك وتقتنع به إذا كثر حولها اللغط و الخلط , حتى وجدنا أن بعض الأصوات بدأت تنادي بضرورة العودة إلى العهد السابق عهد الأمن و الأمان , والغريب أن هذه المعارضة تحسن تزييف الحقائق فهي تصنع العنف وتبرره ثم تطالب السلطة بتحمل مسؤولياتها , فإذا تحركت السلطة اتهمتها بالضعف و عدم القدرة على التسيير. هذه أساليب وغيرها تستعمل بشكل ممنهج و دوري مع رشة دعم أجنبي عربي أو غيره , فتكون النتيجة في أسوء حالاتها دخول المجتمع إلى دوامة من العنف و الاحتقان تشوه كل جميل. إن مثل هذه المعارضة بمثل هذه الأساليب قد تفتح على المجتمعات التي اختارت صناعة مصيرها بنفسها وكسر طوق الديكتاتورية نوافذ من الشرور , و تخدم في مجملها مخططات الغير الذي لا يريد لمجتمعاتنا الخير, فالرغبة في التسيير أو الحقد على الإسلاميين أو الخوف من المحاسبة لا تبرر أبداً كسر الدولة , وكثرة المشاغبة والتلهية تدعو إلى تنمية الوعي والتوحد ضد مثل هذه الممارسات التي من شأنها وأد تجربة الحرية والكرامة المعاصرة.