للدين موازين...للحياة موازين...للرجال موازين...للقيم موازين،وللعبث..للهو..للمجون..للإفساد في بلادنا موازين.لكننا في حرقة مضنية للروح نتساءل ألم يكن حريا بمن ينصب هذه الموازين أن يزن منتوجه الذي يقدمه إلى هذا الشعب،إن كان له من القيمة أرطالا من خير ونفع وبركات،أم أن أكف موازينه قد طاشت إذ هي استحضرت قسرا وعنوة فلم ترصد إلا خفة في الفعل والمعنى؟مامدى صحة أن الجماهير تسكنها رغبات صميمة في شهود هذه الفعاليات كحاجة نفسية وروحية متوجبة النفاذ؟ماهي العوائد المرتجاة على الإنسان وعلى الأوطان من وراء هذه المهرجانات؟ يبدو أن نصب الموازين له في الأنفس غايات ليس أقلها قياس منسوب الرفض لهذه الخلاعة المسماة فنا،وذاك الضجيج المنعوت موسيقى، وذلك الإسفاف في الذوق والرؤية،ومدى التحرج الذي تلقيه مثل هاته الفعاليات داخل البنى المجتمعية من أسرة وأحزاب ومجتمع أهلي،وكذلك مقايسة أثقالنا الروحية المناقضة لهذه المسوخ المسماة ثقافة على خطى الوجهة والمصير.هي مانصبت إلا لتستبين مدى التمكن المنجز في إبطال قدرة أرواحنا على المشاغبة في وجه مد يبتغي جعل الهوية مزقا فوق رقعة الذوات وبالتالي تتناثر ذاتنا الجمعية جزرا دونما وشاج رابط من دين أو تاريخ أو مصير لتغدو الذوات والأوطان آفاقا خصبة لكل الإستباحات. لاتنفك مثل هذه الأعمال عن تقديم نفسها وفق صياغات تسويقية تدعي انبجاسها من معين الثقافة الصرف وفقا لحاجات الإنسان ورؤاه مما يتم معه الإزراء بمفهوم الثقافة ليتمحل فيما هو إسفاف وإنحدار نحو مساقط الذي هو أدنى. إنه نشر لفضاضات تعبيرية إعتملت مفاعيلها التأسيسية خارج مدارات تاريخ يجلل ذواتنا بغير قليل من الفخار المستحضر لعظمة الله وإعزازه لعباده الصالحين في ميزان الحضارات والشعوب.لاتتم مثل هذه الأعمال إذن بمعزل عن إرادة شاملة تستهدف إنسان هذه الأمة في دواخله وفي وعائه العقدي والفكري المنتج لقيم تتصادم في الأسس والمنطلقات مع إفرازات مرضية/ممرضة للأنفس وللأرواح،أو على الأقل تبدي الأنفس تحرجاتها تجاهها كإحدى الآليات الدفينة المقاومة لكل محاولة لحرف مسارها عن خطى التاريخ المنشود والمتوخى. إن موازين القوم تبدو مأساة وملهاة فهي إذ تقام تعمل على صوغ النمذجات بابتكارية ملغزة.هاهي إذن جحافل أمة خرجت تسعى لاقتناص المباهج والمسرات ولم يخلف حكامها ميقات انبلاج المناشط إيذانا بميلاد الأفراح المصبغة بسمو الرعاية وبركات الرعاة الملهمين.فالمتوخى من هذه الممارسات لا يخرج عن متتالية الإلهاء والإنساء.إذ تتوسل إنساء الإنسان لكلمة الله التي بها أوجده،والتي من بعد يجب أن يكون عليها مسيره ومساره عن طريق الإلهاء بشتى صنوف المناشط المستهدفة لخلق الشرخ العميق المستقصد لبنيان الإنسان في تكامليته الربانية الفريدة،بما هي تواؤم وتوحد وانسجام بين طرفيه المشكلين لوحدته كوجود فردي متعدد ومتوحد.هذا الشرخ الذي يبغي إعلاء فتنة الجسد ليجعلها مراد الإنسان ومقصد وجوده عبر الإبراز الفاقع،والتغذية المستمرة لكل المنازع المعلية من حاجات جسد هي في الأساس لا تعدو أن تكون مبقية له ليعين على سلوك طريق الحق الموصل للروح نحو تحقق كمالاتها.ولهذه البغية يتم الإقصاء لثقافة يشكل الوحي منبعها المنتج سبيلا من أجل نزع كل صبغة يصطبغ الإنسان من خلالها ليقطع كل العلائق التي تحلق به فيما وراء بعده المادي المجرد الواصل به إلى منبع الحياةوالوجود. يتم التمنطق بأن كل هذا ليس إلا نزولا على رغبات الشعب وتحقيقا لما يريد ويهوى،وهذا ربما يحمل بعضا من الحقيقة التي لايمكن أن تخفى عن كل ذي عينين.ولكن هذه الطروحات تغفل متناسية أو متعمدة عن أمرين اثنين،أولهما:أن هذه "الإستجابات الرائعة" لأحلام الجماهير وتوق أرواحها إلى هذه الفعاليات، تبدو استجابات مغشوشة ومستحبة لمن يعمل على الدفع بها وتصويرها على أنها هي مايسكن أعماق الإنسان في أوطاننا،إنما هي في حقيقتها وافقت هوى منتجها،وعمل بأدواته التسويقية الحديثة الجبارة على إلباسها كساء الجمهرة المحبة العاشقة والمفتونة.ثانيهما: أن هذه الشعوب تلقى حفاوة غريبة في تحقيق أمانيها دونما إبطاء في هذه الجوانب فقط،بينما حقيقة أشواق هذه الأمة في مجموعها الغالب يسكنها التوق إلى حكم عادل يصوب مسيره الرشد،إلى كرامة إنسانية تمنح الفرد قيمة ومعنى،إلى توزيع عادل للثروة الوطنية،إلى عمل كريم يحقق للمرء وجوده الفاعل والمنتج،إلى سكن لائق يحترم آدمية الإنسان في حياته،إلى حرية في وطن يتولد في رحمه حب الإنتماء،فأين هي إذن هذه التصويرات الخادعة التي تدعي بأن مايراد هو مايكون؟ولم يتم التغافل والتعامي عن تحقيق وتحقق هذه الرغبات والأشواق،والتي بها ومن خلالها يكبر الإنسان ويتعملق في مدارج الإنسانية الحقة ليتم حرفه عنها إلى رغبات تبدو في حقيقتها لا تعمل إلا على سلبه انسانيته والتي إنما هي في جوهرها رغبات مصنوعة على أعين القابضين على الرقاب والعقول. إن مساءلة الواقع والقائمين على هندسة خطوه المكين تغدو متوجبة في حق كل من تربطه بهذا الوطن وشيجة،أو نتفة من وصال أورباط،لأن هذه الصورة على قباحتها المستفزة لكل ذي لب أو ضمير،يتم التسويق الدعائي الفج لها بكل جهد محاولة لترسيخها في الأذهان،وإقرارا لها في المخيال الجمعي للأمة. هذه الصورة القميئة التي رسمت الأجساد يسكنها وله الرقص كجذبات الممسوسين.هي ذي العقول والأرواح والأجساد استبدلت صلاة ربها،وتراتيل قرآنها بمتون غنائية تهوم بالذوات في سباحات فضائية تكاد توازي أو ربما تفوق سياحة الروح في ملكوت ربها حين صلاتها إذ تستحضر خشية الله فتحقق خشوعها رهبة من تجليات الحق في منازل القرب.هذا الإحلال المتعمد والمتقصد لتغييب الأجساد والأرواح أحدهما في مواجهة رفيقه ضمن ثنائية الحضور والغياب،إنما هو أمر يراد من لدن فعلة يحسبون التجلي والإنجلاء فوق مسارح الفعل والممارسة من قبل جموع الأمة أمرا يعيق السطو على مقدرات الوطن،كشهود في الواقع وتشهيد للقدرة والفعل،فيتم بناء على كل هذا ممارسة التغييب للإرادة والمحو للإنجاز.بناء عليه يعمل هؤلاء على ابتداع صوفية حداثية تمركز الجسد وتجعله بغية لبلوغ السعادة ،فجذبات الجسد قد غذت طقوسا أزاحت الروح وأعادتها إلى مجاهل معتمة،إن لم نقل أنه تمت إماتتها من طول ماقاست من جوع وقهروتضييق.هذا الإحتفاء المكرس لجسد ورث القداسة والسمو في مخالفة ومناقضة صريحة لكل شرعة وميثاق،يكاد يطيح بإنسانية الإنسان في مهاوي سحيقة من الضلال المستوجب لتنزل المهالك الكبرى الممحقة للمشروع الرباني/الإنساني الأصيل.ماأحوجنا اليوم إلى موازين تقيس ضحالة الفكر والثقافة لدى الملأ المسمى نخبا،نقيس بها مستويات الانحدار الأخلاقي والقيمي في أرواحنا المأزومة،نقيس نسب الشرائح المفقرة والملقاة على هامش الحياة والمعيش في بلادنا الزاخرة بالنعم،نقيس مدى قوة الانتماء إلى الأوطان وتمكن اللامبالاة من مشاعرنا تجاه الارتباطات المفروض تجذرها في تربة الذوات المغلولة بفضاعات العسف والقهر الممأسس.نقيس نسب الرشد المتبدية داخل نسقنا الفكري والسياسي الواجب توطنه،كحضور مائز وتجلياته في السلوك الجمعي بما يتوافق مع مسؤولية الأمانة الوجودية،نقيس بها ماتبقى من وطن هجرت أركانه وقسمت على من ليس لهم حق في قسمة أو متاع، نقيس حجم الإنسان الذي لازال يتوطن منا فراغ الذات والكيان. إن من يمدون خطوط الإصغاء لأشواق شعب تنبجس من مفازات روحه رغائب التفلت من جور الأزمان المثقلة بالهموم كما يقال،ألم يكن حريا بهم أن يسكنوا جراحات الأنام من وقع مالقيت ذواتهم من مسوخ وعسف أزرى بها إلى مهاوي الضنك،مما كان يتوجب معه رفدها بكل مايتوسم فيه ومن خلاله مكنة لها على إقدارها على البحث عن مايحقق سعادتها الحقة؟ الحلو عبد الحفيظ ماي 2014