باحت كما معلوم الانتخابات التونسية الأخيرة بنتائجها المعلومة وأفضت إلى انتخاب مجلس شعب ورئيس وكانت الغلبة إلى الشق الذي يرى فيه التونسيون أنفسهم المعتدل والليبرالي الاجتماعي والوسطي بحيث تأخر الاسلام السياسي إلى الوراء قليلا وكذلك المتمترسون خلف الايديولوجيات اليسارية والمتشبثون باقتصاد الأعمال الحرة والفوضويون. وقد عرت هذه الانتخابات بصفة حاسمة ومؤكدة المشهد السياسي برمته وجعلته يبوح بأسراره الدفينة والتي كانت تغطيها الديكتاتورية بلبوس الزيف والخداع بحيث أصبحت لنا فكرة واضحة على عقل الناخب التونسي واتجاهاته الفكرية والسلوكية وجغرافية الانتخابات وتضاريسها وتشعباتها. ولهذا فمن السهل عندئذ استنتاج العبر لرسم ملامح الناخب التونسي وتوقع المشهد السياسي المستقبلي وفي ذلك فائدة عظمى لكل من يريد التخطيط والقيام بالإصلاحات اللازمة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والثقافي بحيث توفرت الآن للفاعلين السياسيين والباحثين في شتى المجالات المعطيات الكافية لما يريده التونسي وما على هؤلاء إلا القراءة الجيدة للنتائج ورسم السياسات الفاعلة على ضوئها. وأهم هذه النتائج هي كما يلي: 1.المواطن التونسي يميل إلى الفكر الوسطي ولا يحبذ التطرف والمغالاة والمخاطرة إلا في الظروف القاهرة وبذلك له رؤية مستقرة وواعية وهي ميزة تاريخية جيدة بحيث لم يتمكن الارهاب أن يجد حاضنة له وكان منبوذا من الجميع. 2.بروز ثلاث اتجاهات فكرية واضحة ذات وزن على الساحة السياسية هي أعمدة الحراك السياسي في المستقبل القريب يمكن أن تتقاسم المشهد وتتداول على الحكم إذا تم الالتزام بالديمقراطية ولم يقع الانقلاب عليها. فنجد الفكر الليبرالي الدستوري والفكر اليساري الاجتماعي والفكر الاسلامي التقليدي واتجاهات أخرى متحركة وغير ثابتة تبحث عن موقع هنا وهناك. 3.الفقر والبطالة والتفاوت الجهوي والفساد مصدر كل المخاطر التي تهدد الدولة في كيانها واستقرارها وتطورها بحيث من الممكن في ظرف الخمسة سنوات المقبلة الشروع في بناء منظومة تنموية متكاملة لرفع الغبن والظلم التاريخي عن الجهات المحرومة وذلك بتدخل قوي للدولة مع تشجيع المبادرة الفردية والقطاع الخاص. كما أن القضاء على الفساد والتهرب الضريبي وهدر الموارد يعد من أوكد التزامات الحكومة المقبلة المطالبة بتحديد الأولويات وتنفيذ الاصلاحات بعد القيام بالمشاورات اللازمة مع الجميع. 4.انقسم المجتمع التونسي تقريبا إلى كتلتين متجانستين بعد انحدار الطبقة المتوسطة اقتصاديا إلى الأسفل بحيث التصقت بالطبقة الفقيرة والمعدمة وقد أصبحت تجاري صعوبة العيش ولا تجد ما تدخره وظهرت في المقابل كتلة صغيرة العدد استغلت فوضى ما بعد الثورة واستغنت أكثر بفعل الفساد المستشري. وهذه الطبقة إن لم تردعها القوانين فستتغول أكثر فأكثر وتصبح متحكمة في الإرادة السياسية والدولة لما لها من قوة التأثير المالي والمعنوي على الأحزاب والأفراد. 5.ظهور المرأة التونسية كوازع لعقلنة وترشيد الحياة السياسية لما لها من دور هام وجوهري في الحياة الأسرية رغم تأخرها في المسؤوليات السياسية الهامة وقد شاركت بفاعلية في بلورة الاتجاه الحداثي والتنويري والمعاصرة المجتمعية ووقفت سدا منيعا أمام الاطروحات التقليدية البائسة. هذا الدور من الممكن تفعيله وتجذيره في قادم الأيام. 6.من أولويات المواطن التونسي الأمن على نفسه وعلى عائلته ثم البحث عن قوت عياله ورفاهيته. فالأمن والاستقرار من الحاجيات الأساسية للمواطن ومطلب ملح وثابت لديه و الخوف بصفة عامة كان المحدد الجوهري في نزعته الانتخابية بحيث تحول مزاجه العام في فترة قصيرة من الاسلام السياسي الذي يدعو إلى تغيير في نمط المجتمع إلى التشبث بتلابيب هيبة الدولة التي عاشرها لمدة طويلة رغم جحودها وهيمنتها. 7.عزوف الشباب عن المشاركة في الانتخابات وهذا يعد لغزا محيرا للجميع ولا بد من الوقوف طويلا عند هذه الظاهرة السلبية وفك رموزها لأن الشباب هو مستقبل هذه البلاد ورصيدها البشري الذي سيثمر في قادم الأيام. فلا يمكن تفسير ذلك فقط بالإحباط والعدمية ومعاقبة السياسيين لأن الوضع في البلاد لم يتحسن بعد الثورة. فالبقاء على الربوة وعدم المشاركة والاحتجاج السلبي والذي يصل أحيانا للعنف وجلد الذات والانهزامية لا يؤدي لشيء إيجابي أبدا. فالتفاعل مع المحيط هو الأجدى والأنفع عوض انتظار كبار السن للمبادرة والتمكن من الكراسي الفارغة. وهناك بالفعل مشكلة تواصل عميقة لا بد من الانكباب على إيجاد حل لها وهذا دور الأحزاب على الساحة السياسية التي من واجبها استقطاب الشباب وتأطيره ومساعدته على التأقلم والانخراط في الحياة السياسية.