بقيادة بوجلبان.. المصري البورسعيدي يتعادل مع الزمالك    قضية منتحل صفة مسؤول حكومي.. الاحتفاظ بمسؤول بمندوبية الفلاحة بالقصرين    مخاطر الاستخدام الخاطئ لسماعات الرأس والأذن    صفاقس تُكرّم إبنها الاعلامي المُتميّز إلياس الجراية    سوريا... وجهاء الطائفة الدرزية في السويداء يصدرون بيانا يرفضون فيه التقسيم أو الانفصال أو الانسلاخ    مدنين: انطلاق نشاط شركتين أهليتين في قطاع النسيج    في انتظار تقرير مصير بيتوني... الساحلي مديرا رياضيا ومستشارا فنيّا في الافريقي    عاجل/ "براكاج" لحافلة نقل مدرسي بهذه الولاية…ما القصة..؟    الاحتفاظ بمنتحل صفة مدير ديوان رئيس الحكومة في محاضر جديدة من أجل التحيل    الطبوبي في اليوم العالمي للشغالين : المفاوضات الاجتماعية حقّ ولا بدّ من الحوار    ملف الأسبوع.. تَجَنُّبوا الأسماءِ المَكروهةِ معانِيها .. اتّقوا الله في ذرّياتكم    خطبة الجمعة .. العمل عبادة في الإسلام    انهزم امام نيجيريا 0 1 : بداية متعثّرة لمنتخب الأواسط في ال«كان»    نبض الصحافة العربية والدولية... الطائفة الدرزية .. حصان طروادة الإسرائيلي لاحتلال سوريا    الوضع الثقافي بالحوض المنجمي يستحق الدعم السخي    أولا وأخيرا: أم القضايا    المسرحيون يودعون انور الشعافي    إدارة ترامب تبحث ترحيل مهاجرين إلى ليبيا ورواندا    المهدية: سجن شاب سكب البنزين على والدته وهدّد بحرقها    الجلسة العامة للبنك الوطني الفلاحي: القروض الفلاحية تمثل 2ر7 بالمائة من القروض الممنوحة للحرفاء    الكورتيزول: ماذا تعرف عن هرمون التوتر؟    انتخاب رئيس المجلس الوطني لهيئة الصيادلة رئيسا للاتحاد الافريقي للصيادلة    لماذا يصاب الشباب وغير المدخنين بسرطان الرئة؟    وزير الإقتصاد وكاتب الدولة البافاري للإقتصاد يستعرضان فرص تعزيز التعاون الثنائي    مصدر قضائي يكشف تفاصيل الإطاحة بمرتكب جريمة قتل الشاب عمر بمدينة أكودة    عاجل/ تفاصيل جديدة ومعطيات صادمة في قضية منتحل صفة مدير برئاسة الحكومة..هكذا تحيل على ضحاياه..    الطب الشرعي يكشف جريمة مروعة في مصر    تونس العاصمة وقفة لعدد من أنصار مسار 25 جويلية رفضا لأي تدخل أجنبي في تونس    ارتفاع طفيف في رقم معاملات الخطوط التونسية خلال الثلاثي الأول من 2025    بالأرقام/ ودائع حرفاء بنك تونس والامارات تسجل ارتفاعا ب33 بالمائة سنة 2024..(تقرير)    إقبال جماهيري كبير على معرض تونس الدولي للكتاب تزامنا مع عيد الشغل    وزير الصحة: لا يوجد نقص في الأدوية... بل هناك اضطراب في التوزيع    عاجل/ مجزرة جديدة للكيان الصهيوني في غزة..وهذه حصيلة الشهداء..    الطبوبي: انطلاق المفاوضات الاجتماعية في القطاع الخاص يوم 7 ماي    نحو توقيع اتفاقية شراكة بين تونس والصين في مجال الترجمة    يوم دراسي حول 'الموسيقى الاندلسية ... ذاكرة ثقافية وابداع' بمنتزه بئر بلحسن بأريانة    البطولة العربية لالعاب القوى للاكابر والكبريات : التونسية اسلام الكثيري تحرز برونزية مسابقة رمي الرمح    بطولة افريقيا للمصارعة بالمغرب: النخبة التونسية تختتم مسابقات صنفي الاصاغر والصغريات بحصيلة 15 ميدالية منها 3 ذهبيات    توقيع عدد من الإصدارات الشعرية الجديدة ضمن فعاليات معرض تونس الدولي للكتاب    عاجل/ المُقاومة اليمنية تستهدف مواقع إسرائيلية وحاملة طائرات أمريكية..    تونس العاصمة مسيرة للمطالبة بإطلاق سراح أحمد صواب    صادم: أسعار الأضاحي تلتهب..رئيس الغرفة الوطنية للقصابين يفجرها ويكشف..    التوقعات الجوية لهذا اليوم..طقس حار..    قيس سعيد: ''عدد من باعثي الشركات الأهلية يتمّ تعطيلهم عمدا''    محمد علي كمون ل"الشروق" : الجمهور على مع العرض الحدث في أواخر شهر جوان    توجيه تهمة 'إساءة استخدام السلطة' لرئيس كوريا الجنوبية السابق    منذ سنة 1950: شهر مارس 2025 يصنف ثاني شهر الأشد حرارة    كأس أمم إفريقيا لكرة القدم داخل القاعة للسيدات: المنتخب المغربي يحرز لقب النسخة الاولى بفوزه على نظيره التنزاني 3-2    وفاة أكبر معمرة في العالم عن عمر يناهز 116 عاما    منظمة الأغذية والزراعة تدعو دول شمال غرب إفريقيا إلى تعزيز المراقبة على الجراد الصحراوي    معز زغدان: أضاحي العيد متوفرة والأسعار ستكون مقبولة    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    مباراة برشلونة ضد الإنتر فى دورى أبطال أوروبا : التوقيت و القناة الناقلة    في تونس: بلاطو العظم ب 4 دينارات...شنوّا الحكاية؟    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عشرية ذي الحجة أو الربيع الثاني
نشر في الحوار نت يوم 15 - 09 - 2015


للمؤمن ربيعان :
ربيع العشر الأواخر من رمضان تحريا لجائزة العتق العظمى في أفضل ليلة من ليالي الحياة ناهيك أن من قامها هي فحسب غفر له ما تقدم من ذنبه ( متفق عليه ). ومن حرم أجرها فقد حرم أجر عبادة زهاء ثمانين سنة كاملة. هو الربيع الليلي لما فيه من حض على الإعتكاف وصلاة بين يدي أغلى الأجور وأعلى الثواب أي السحر. وربيع العشر الأوّل من ذي الحجة الحرام ويظهر فضل هذا الربيع الثاني والأخير من كل عام قمري لحرمة الشهر أولا وللحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري عن إبن عباس ثانيا :" ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله سبحانه من هذه الأيام". هو يتحدث عليه السلام عن هذه الأيام. فقال الصحابة مندهشين :" ولا الجهاد في سبيل الله ؟ّ ". قال عليه السلام :" ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجلا خرج بنفسه وماله من بيته فلم يعد بذلكم من شيء ". الربيع الأول يحمل للمرء أفضل ليلة في حياته والربيع الثاني يحمل له أفضل يوم في حياته أي يوم عرفة ناهيك أن من صامه فقد كفر الله به له ذنب عامين بخلاف عاشوراء الذي يكفر ذنب عام واحد فايت.هذا ربيع نهاري نسبة إلى النهار يتكافل مع الربيع الليلي ربيع عشرية رمضان الأخيرة ليهدي المؤمن الذاكر لرسالته في الوجود والحياة ربيعين إثنين إذ من المؤكد أنه عايش خريفا بردت فيه عبادته أو شتاء لاذعا شغب فيه الشيطان عليه أو صيفا قائظا فترت فيه نفسه عن مطالب العزة والشرف. ربيعان إثنان يختم بهما عامه والعبرة بالخواتيم كما قال عليه السلام والعبرة كذلك في حديث آخر بالمبادي . ربيعان إثنان لا يستغرقان سوى ثلثي شهر واحد. هو فضل هذه الأمة التي تعمل قليلا كما جاء في الحديث الصحيح وتثاب كثيرا بخلاف الأمم السابقة. تعمل بقدر ما يفصل بين العصر والغروب لتثاب قيراطين إثنين. هو فضل مشروط بخيريتها وخيريتها مشروطة بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فليس هو عطاء يخرم عدله سبحانه كما يريد أن يصور ذلك السذج من المنسوبين إلى العلم الديني.
ذلك هو معنى أن يكون المؤمن تاجرا. أي ذكيا يعلم أي الحسنات أكثر أجرا ليلتقطها متخليا عما دونها سيما إذا أخرته عن تجارته كما يعلم أي السيئات أكثر وزرا ليتجنبها معافسا ما دونها سيما إذا كانت ستؤخره عن ذلك كذلك. ولكم صدق من قال : المفلح من شغله الفرض عن النفل والمغرور من شغله النفل عن الفرض. تجارة بمثل تجارة الدنيا بالتمام والكمال فمن فكر فيها حتى بدون علم شرعي كبير بعقل تجاري وصل ومن أكثر من أسئلة البطالين وعنتات العطالين فقد أنزل نفسه منازلهم.
أولوية العمل الصالح في هذا الربيع بعين أخرى.
عندنا من العلم المكتوب ما يجعل مصارفنا تشكو التضخم بل ما تنوء به المكتبات. إنما الحاجة إلى ما قال الثوري في زمن سابق :" إنما الفقه رخصة من فقيه أما التشدد فيحسنه كل أحد". ليس للفاروق من العلم عشر معشار ما عند أبي هريرة عليهما الرضوان جميعا فأنظر من طبق آفاق الأرض بفقهه المقاصدي العظيم إدارة ودينا. ولعبدي الله ( إبن عباس وإبن عمر ) عليهما الرضوان ما لهما من ذلك ولكن قلد ذاك من مشكاة النبوة ما لم يخلع على هذا. لم؟ ليس لكثرة العلم الذي فيه يشتركان ولا حتى للفقه الذي فيه يشتركان. بل لمنزع معروف عند أهله في فقه ذاك. عن ذاك المنزع الفقهي أبحث ناصبا فهل من صاحب وهل من مدكر.
صورة الجهاد المذكورة لا يكاد يستوعبها زمان ولا مكان.
يكاد يخلو الزمان إلا قليلا جدا من صورة رجل أو إمرأة بطبيعة الحال ورغم أنف دهاقنة المجتمع الذكوري الممقوت يخرج من بيته بماله ونفسه فلا يعود من ذلكما بشيء. أي يموت هو شهيدا في سبيله سبحانه ويذهب معه ماله إما أسيرا عند عدوه أو بأي صورة ذهب. أي يخرج من الدنيا بالكلية لا مالا ولا نفسا. هذه صورة لم تقع حتى في الصحابة الكرام إلا قليلا ولم يسجل التاريخ أن أحدا خرج بماله كله إلا الصديق عليه الرضوان. والصديق وبعض المئات منهم مئات من عشرات الآلاف قامات سامقة يعيب الخطباء اليوم أنفسهم كثيرا إن كانوا يفقهون من فن الدعوة شيئا عندما يعرضونهم للقدوة. في ذلك دعوة عكسية مضادة رسالتها : الإسلام شيء خيالي مثالي ربما نتبرك به ولكن لا سبيل إليه. فريضة الجهاد في سبيل الله فريضة محكمة ماضية حتى يوم الدين قطعا ولكن تغيرت أساليبها كثيرا ومن لا يلحظ ذلك فما فقه قوله :" وجاهدوا في الله حق جهاده ". ومن حق الجهاد أن يكون في زمانه وفي مكانه وبحجمه ومقداره وبأسلوبه المناسب لزمانه ومكانه وللمجاهد ( فاعلا ومفعولا ). فمن لم يفقه أن المقصد الأسنى من الجهاد بما فيه القتال الذي هو صورة من صوره فحسب بل هي الصورة الإستثنائية جدا هو تحرير الإنسان من كل مكبل يمكن أن يحول دونه ودون الحق الذي منحه ربه :" فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر".. ما فقه من الجهاد قلامة.
لذلك خرجت صورة الجهاد من المشهد الربيعي إلا إضطرارا لوطئ الحرم به دفاعا عن النفس وإعمالا لشريعة المعاملة بالمثل تحت السقف الأخلاقي الإسلامي لقوله :" يسألونك عن الشهر الحرام : قتال فيه ؟ قل : قتال فيه كبير. إلخ ..".
بقي السؤال الذكي : ما هو العمل الصالح الأشد حبا إليه في هذا الربيع.
1 مما يزهدني في بعض التفاسير التي يقبل عليها الناس اليوم قول أحدهم أن الباقيات الصالحات هي التسبيح والتحميد ثم يمضي. ثم يعيبون على رجل مثل إبن عاشور لسانه القح السليق. خسئت يا إبن عاشور لم لم تفسر لنا في تحريرك وتنويرك القرآن باللهجة العامية التونسية.
2 معرفة العمل الصالح تحتاج إلى فقه وليس إلى علم. العلم يعرض عليك من العمل الصالح ما به تنوء أسفار. وأسفار أخرى ينوء بها ظهر الحمار. العمل الصالح لا يمكن حصره في قائمة إسمية واحدة حتى لو أحصيت فيها حديثه عليه السلام :" الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة ..". عبثا حاول بعضهم إحصاءها. من يحاول إحصاءها لم يفقه من رسالة الحديث شيئا. مما قاله الفقهاء هنا بحق : الأحداث غير متناهية والنصوص متناهية. معنى ذلك أن المؤمن يبتلى في كل يوم جديد من حياته إبتلاء جديدا فهو في عبادة جديدة وعمل جديد وعليه تفكير جديد وأداء جديد. خذ إليك مثلا سفرا مهما جدا علما لا فقها من مثل رياض النووي عليه الرحمة. إحص كم فيه من عمل صالح. سوف تقضي ساعات طويلات ثم تخرج بقائمة طويلة. العمل الصالح لا يمكن أن يستوعبه زمان ولا مكان ولا حال ولا عرف فهو متجدد تجدد الإبتلاء.
3 ما عرفنا منه هي أركان كبرى وعزائم عظمى وهي بدورها مقسمة مرتبة. قسم للطاعات وآخر للمعاصي. قسم الطاعات نفسه مرتب بحسب الأفضل أجرا فالأفضل. أفضلها المحكمات وهذه بدورها : فرائض وحدود وحرمات ومسكوت عنه لا نسأل عنه بحسب حديث الدارقطني الذي يصلح أن يكون مفسرا لآية آل عمران. وقسم المعاصي كذلك مرتب إلى أكبر الكبائر ثم إلى أعظم الذنب ثم إلى الموبقات ثم إلى المهلكات النفسية ثم إلى الذنوب ثم إلى الصغائر والسيئات واللمم. وترتيبات أخرى داخلية في القسمين كثيرة لا تحصى منها ما يتعلق بالزمان ( رمضان والحرم والسحر إلخ ..) وبالمكان ( الحرمات الثلاث والخلوات إلخ .. ) ومنها ما يتعلق بالحاجة ( الأيتام والأرامل إلخ ..) ومنها ما يتعلق باللزوم والتعدية إذ من القواعد المحكمة هنا أن كل عمل متعد هو أفضل من اللازم لأن نفع الناس سيما في حالة الحاجة أثوب من نفع النفس لأن نفع النفس فيه شبهة الغريزة .. إلى غير ذلك من الترتيبات والتقسيمات والتحليلات التي أشبعها من مثل إبن القيم وغيره بحثا.
4 إذا كان العمل الصالح بحسب تهويماتنا البائسة هو العبادة دون تفكير فيما وراءها فلم أقر عليه السلام طائفتين من أصحابه ممن إجتهدوا في بعض كلامه ( من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة ) فتصرف كل فريق منهم بحسب ما فهم. من المخطئ في إصابة العمل الصالح هنا : هو أم هم أم هما جميعا. أم نعد الإجتهاد الذي فرقهما هنا في الصلاة وجمعهما في مقاومة بني قريظة ليس عملا صالحا. ما هو إذن. الإجتهاد إذن عمل صالح حتى لو كان مخطئا مادام خالصا طبعا دون نبذ شرطيه : الأهلية والمكان.
5 إذا كان العمل الصالح هو حبس المعتدة بأثر من وفاة زوج في بيتها فلم أقر عليه السلام إمرأة معتدة لتخرج إلى نخلها فتجذه. بل حرضها قائلا في البخاري :" لعلك تتصدقين أو تفعلين خيرا ".
6 إذا كان العمل الصالح هو نبذ الشأن العام حتى بدعوى إعتزال الفتنة والهرج كما يحلو لوعاظ السلطان أو المتخلفين عن تبوك اليوم أن يزعموا إيثارا للسلامة والأمن فلم غضب عليه السلام من رجل أي صحابي إستشاره أن يتخذ له أرضا ذات ماء وخضرة مقاما للعبادة وقال حديثه المعروف بهذه المناسبة :" لموضع سوط أحدكم في سبيل الله خير له من كذا وكذا ". لم لم يرخص له والجماعة فيها رسول الله بنفسه عليه السلام وفيها تلك القامات السامقة الشامخة؟
7 إذا كان العمل الصالح هو ترك الناس وشأنهم فيما يتعرضون له من مشكلات الحياة وإبتلاءات الدنيا فلم خرج حبر الأمة إبن عباس مع رجل لقضاء حاجته وهو معتكف في العشر الأواخر من رمضان يتحرى ليلة العمر التي هي خير من ألف شهر وهو في مسجد النبي عليه السلام من بعد موته. وهي المناسبة التي علمنا فيها بالحديث الصحيح :" لأن يخرج أحدكم ساعيا لقضاء حاجة أخيه قضاها أم لم يقضها خير له من أن يعتكف في مسجدي هذا مائة عام ". من الأفقه : نحن أم إبن عباس. من الأحرص على رضى الرحمان : نحن أم ترجمان القرآن.
8 إذا كان العمل الصالح هو عدم الحدب على مصالح الناس سيما المستضعفين منهم فلم قص علينا سبحانه قصة ذي القرنين وفيها أن حماية الناس بغض النظر عن دينهم ما لم يكونوا محاربين من العدوان قربان له سبحانه إذ بنى لهم سدا عاليا بل أشركهم فيه عملا بالمثلا الصيني الجميل : لا تعطني سمكة بل علمني كيف أصطاد. هل من مهمة الأنبياء ومن قص علينا نبأهم بناء الجسور الواقية؟ صورتنا التافهة عنهم أنهم أولياء صالحون يذكرون بعذاب الآخرة ثم ينطوون لا يلوون على شيء من عذابات الناس.
نحو إعادة بناء ميزان العمل الصالح.
هذا الميزان له أصوله في القرآن والحديث ولكن لا يتسع المجال هنا لتفصيلها ولندلف مباشرة إلى ذكر أمثلة لها.
1 للعمل الصالح قواعد ركينة ثابتة راسخة لا تتغير فهي فرائض مفروضة :
أ الإيمان وخاصة تجديده بوسائل التفكر والنظر والتدبر سمعا وبصرا وفؤادا.
ب العبادات الركنية المعروفة المشهورة من صلاة وصيام وزكاة وحج.
ج العلم طلبا وبثا وما يقتضيه من فقه وبحث وإجتهاد وتجديد وتحديث.
د الخلق الطيب الكريم ومشكاته التي لا تكذب ( الحلم والأناة ).
ه الأسرة المضيقة والموسعة وخاصة : الوالدان وما دونهما من أصول + الرحم وما يتفرع عنه من فروع والعلامة هي المحرمية والوراثة + الجيرة بحسب إمتدادها العرفي في كل بيئة. هذا أمر مغلظ جدا إذ أنه ( لا يدخل الجنة عاق ) و ( لا يدخل الجنة قاطع ) و دخلت صحابية شهد لها من لدنهم هم بأنها قوامة صوامة كثيرة التصدق بسبب إيذاء جيرانها.
و دائرة المحتاجين بكل أصنافهم حاجة مادية وحاجة معنوية وليس اليتم والترمل والفقر والمسكنة وغيرها مما ذكر إلا أمثلة رمزية إذ العبرة بالحاجة والفاقة من حاجة الطعام إلى حاجة الأمن ومن حاجة العلم إلى حاجة السكن والعافية والأنس إلخ .. ليس هناك أمر ألح عليه إلحاحا عجيبا في القرآن الكريم مثل الحدب على المحتاج حتى لو كان كلبا أو هرة.
ز الصف الإسلامي بمختلف تكويناته وتعددياته. عقيدتي اليوم هي : أحب عمل إليه سبحانه في أيامنا هذه أيام التفرق والتجزئ هو المساهمة قدر الإمكان في إعادة رص الصف الإسلامي بمختلف مذاهبه ومدارسه وألسنته وأعراقه. ذاك الرباط عندي وذاك الجهاد عندي وذاك ما يدخل فراديس الجنة اليوم عندي. معنى ذلك هو أن الصف الواحد المتنوع هو الحائل دون الإستعباد الداخلي والإسترقاق الخارجي.
ح إنفاذ التشاور والتراضي والتوافق بيننا جميعا قدر الإمكان. لنا في الصف الواحد المرصوص سورة ولنا في الشورى سورة كذلك. تلك هي عبادات الوقت. تشاور في العائلة حتى في شأن الفصال سورة البقرة وتشاور في الأمر العام وتشاور في المصائب أحد مثلا . عقيدتي اليوم هي : أحب عمل إليه سبحانه في زمن التفرد والإلهية البشرية هو بسط التشاور والتوافق والتراضي تكريما للإنسان المكرم ورصا للصف الواحد المتنوع.
ط إنفاذ الميزان المنزل جنبا إلى جنب مع القرآن ( سورة الحديد ). لا نهضة لنا ولا مستقبل فوق الأرض وتحت السماء حتى نبسط هذا السؤال. سؤال النهضة : هذا القرآن قرأناه فأين الميزان؟ من لم يطرح هذا السؤال ليس حمارا يحمل أسفارا بل حمار يحمل أوزارا. الميزان هو الحكمة التي تجعلك لا تطبق أي حرف من القرآن الكريم حتى تعلم أمرين إثنين : ما علة الأمر وما مقصده أولا. وما محل تنفيذه ثانيا وإذا ما طبقته بعلته ومقصده على محله فهل أحصل على المراد منه أم لا. ذلك هو الميزان ببساطة شديدة وإختصار أشد. الحكمة العقلية التي نتشاور فيها ونتراضى ونتوافق وليس يأتيها بعضنا ويتنكبها بعضنا الآخر. ذلك هو الميزان فمن أقام الميزان فقد أقام القرآن ومن زعم طاعة القرآن دون طاعة الميزان فهو الأحمق الذي لا يؤبه منه لكلام.
ي صناعة الحديد الذي لنا فيه كذلك سورة. ولكن لم؟ أليس لتعليمنا أن الأمة لا قيام لها إلا بالحديد الذي يوفر لها رغد العيش من جانب ويحميها من العدوان من جانب آخر بل يوفر لها أسباب حماية الناس من غيرها من جانب ثالث. أليس عجبا أن يذكر الحديد في كتاب هداية؟ أليس عجبا أن تظهر نبوءة القرآن قائلة : يا أمة نبذت الحديد بدعوى العبادة الكاذبة فأفترسها الحديد. ما ضاعت فلسطين بقدسها المحرم إلا لفقرنا في مادة الحديد وما يضطهد مسلمو البورما إلا للسبب ذاته والأمثلة لا تحتاج لمجرد ذكر لكثرة النكبات وعظمها.
ك وأخيرا وليس آخرا من العبادات الركنية الحاكمة المتبوعة : حفظ الصف بالتواصي الجماعي الدائم بالمرحمة وبالحق وبالصبر وبالإعتصام بالإيمان وبهذه المحكمات وبالجماعة إئتمارا بالمعروف وتناهيا عن المنكر لضمان الخيرية. خيرية الأمة في ثلاث لا رابع لها : خيرية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وخيرية تعلم القرآن وتعليمه وخيرية الأسرة ( خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي ). أي مناط الخيرية : الأسرة + العلم + ملح الأمة الذي يحفظها كما يحفظ الطعام الملح أي : التواصي بالثلاثي العجيب ( حقا وصبرا ومرحمة ) كما ورد في سورتي البلد والعصر.
2 وما شأن الذكر الذي يحله الفارغون أنه المقصود بالعمل الصالح.
أملي أن أحرر كراسا في الذكر أبين فيه أن ذكرنا اليوم علاقته بالذكر المقصود علاقة ضعيفة جدا. في الذكر حديث صحيح يبوؤه أفضل المنازل ولكن هل فقهنا الحديث أم نفذناه دون ميزان. متى يكون الذكر أفضل من الشهادة في سبيله سبحانه وأفضل من النصر وأفضل من إنفاق الذهب والورق كما ورد في الحديث الصحيح؟ يكون ذلك عندما نذكره سبحانه ذكرا يبعثنا إلى بذل كل ما نملك ونقدر لتنفيذ المحكمات آنفة الذكر. الذكر وسيلة وليس غاية فهو وسيلة لتزكية النفوس وتطهير القلوب حتى تتجرد من الدنيا المثبطة وعندها يقبل المرء على التضحية والجهاد والأعمال الكبرى المكلفة للحياة وللأموال والجهود والأوقات. الذكر عبادة نفسية وليس هو عبادة عضوية. لماذا عد الناس كلهم أن أفضل الذكر هو الذكر الحكيم تلاوة؟ لأن فيه كل أنواع الذكر المذكورة في السنة الصحيحة أولا ولأن التلاوة ليست مقصودة لذاتها بل هي مقصودة لتفعيل واجبات التأمل والتفكر والتعقل والتدبر والنظر ومن ذا يتأسس الإيمان ثم يتجدد ثم يهب المرء إلى المساهمة مع الناس في تنفيذ تلك المحكمات العظمى آنفه الذكر. أما عندما يكون الذكر " أفيونا " بحق .. أي محضن من محاضن الغفلة بحق.. عندما يكون الذكر عاملا ضد مقصده .. عندها نكون ذكارين بألسنتنا غافلين عن المقصود من الذكر أي تعظيم الله سبحانه فلا يعبد سواه ولا يستغاث بسواه ولا يضحى إلا من أجله ولا يجاهد إلا في سبيله ولا نصرم مراتب أعمالنا بتعبير إبن القيم لنقلب سلم الطاعات والمعاصي رأسا على عقب فنهتم بما هو أدنى وهو موضوع للترغيب وليس للإيجاب وندع الأعلى المقدم من لدن القرآن الكريم نفسه ونتنكب طريق التجارة.
سل نفسك : ها نحن نذكر وندعو ونصلي ونصوم وإحص ما شئت مما نأتي .. فهل تقدمنا على الطريق الصحيح أم لا. لم تأخرنا؟ هل الذنب ذنب تلك العبادات أم ذنب من يأتيها غافلا عن المقصود منها؟ ستفيئ إلى هذا : نحن أهملنا العزائم والمحكمات مما ذكر أعلاه وإنكببنا على الرغائب والسنن والنوافل وهذه لا تنفع إلا عندما تكون حرسا يحرس القصر الذي تسكنه تلك المحكمات. نحن نعد الحرس والعدو داخل القصر المشيد.
إستثناء الحاج :
أشار الإمام القرضاوي مرة إلى شيء لم يشر إليه غيره والله أعلم أني أشعر بوطأته. أشار إلى أن الحديث النبوي الشريف لم يحظ بما يكفي ببيان مناسبات النزول إذ تعيين المناسبة للقرآن أو السنة مهم جدا في تعميق المعنى وتحري أدناه إلى الحق والصواب. ولذا رأيت أن الذين يعكفون طويلا على إستحباب الذكر بمعناه المعروف وإن كان التدبر ذروته للناس في هذه الأيام العشر إنما يقصدون الحجاج والحج كما جاء في الحديث ضعيف السند مشدود المتن بأدلة أخرى ( أفضل الحج العج والثج ). الثج لدماء الأنعام أضحيات وهديا وغيرها إطعاما للبائس الفقير وللقانع وللمعتر سواء بسواء والعج بضارع الدعاء والدعاء ذكر دون ريب. إذ عندما نقصر العمل الصالح بنسبية كبيرة وليس بإطلاق على أعمال الحج التي تدور في هذه الأيام العشر سيما ثامنها وتاسعها وعاشرها ويومين على الأقل تعجلا من الأيام المعدودات المعلومات الثلاثة .. عندما يقع منا ذلك فهو مفهوم ولكن غير المفهوم هو تحرير غير الحاج أي الأمة بأسرها تقريبا من العمل الصالح المتجدد مع تجدد كل شروق جديد وإبتلاء جديد إذ بدل أن نسرع من الوتيرة هنا نترخص متقاعدين.
وهناك سؤال آخر حري بالطرح : لم خصت هذه المدة بالأفضلية؟
أظن أن الجواب يسير على كل متدبر في تفاضل الزمان بعضه على بعض مثله مثل المكان والعمل وغير ذلك. الزمان هو الأشهر الحرم الثلاثة المتتالية وهي مدة ربع العمر كله إذ يكون العام وحدة زمنية قياسية. وفي وسطه ( ذي الحجة ) العبادة العظيمة التي لنا فيها سورة مدنية كاملة ( الحج ) وبين يدي الحج تعظيم للحرمات وللشعائر معا وما هو مثل ذلك بل أزلفه إليه سبحانه هو إستغلال الفرصة لإطعام الطعام أي كفالة المحتاجين لرص الصف الإسلامي بل الإنساني كله قدر الإمكان. كأن العبادات كلها تتكثف هنا زمانا ومكانا وعملا : الزمان محرم والمكان محرم والعبادة حج وتعظيم للشعائر والحرمات وثج لدماء الأنعام لأجل المحرومين وفي مؤتمر سنوي إسلامي أعظم ربما لا يشهده المسلم في الأغلب إلا مرة واحدة في عمره. مثل تلك الملابسات تجعل من تلك الأيام العشر الأول من ذي الحجة الحرام محضنا خصيبا لأفضل العمل أي العمل الصالح. زد على ذلك أن الأعمال بخواتيمها كما جاء في الحديث الصحيح وحتى تكون خاتمة العام أي خاتمة العمر حسنة تختم بمثل ذلك وما يكون ذلك أي تحريم الزمان وتحريم المكان وتحريم العمل نفسه وتعظيمه إلا لتحريم الإنسان الذي لأجله هو خلق الزمان وخلق المكان ويكون كل ذلك ليعبد الله وحده سبحانه في أرضه وملكه.
خلاصة المقصود :
1 أهلنا الربيع الثاني والأخير من هذا العام القمري فلنغتنمه.
2 العمل الصالح له ميزان وأصول وأركان وسلم وليس هو إختيار منك أنت لتبدأ بهذا وتدع ذاك ( فأستقم كما أمرت ). ومن موازينه : العمل المتعدي أولى من اللازم + التكافلي ( الكفائي بالتعبير القديم ) أولى من الخاص ( العيني ) عند حصول الضرر الأكبر في الأمة من مثل إحتلال الأرض وتفرق الصف وغياب التشاور والضعف في الحديد وإنتشار الجهل وغير ذلك + ملاحظة المقصودات أولى من الإنحباس على الهيئات إلا في العبادات لأن المقصودات مرادة والهيئات لا تكون مرادة إلا في العبادات + تقديم واجبات الوقت على غيرها بتعبير إبن القيم أي فقه الأولويات بالتعبير المعاصر + العمل الفردي الشخصي لا يكون أبدا مقصودا لذاته بل يكون أبدا مقصودا لغيره فلا ثواب عليه إلا بقدر تحقيقه لذلك + لا ثواب على عمل أبدا إلا بقدر صدوره عن علم صحيح لقوله عليه السلام ( فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم ) + أفضل العمل الصالح من بعد الإيمان الصحيح هو الجهاد في سبيل الله سبحانه أو من بعد الصلاة كما ورد في الحديثين الصحيحين والجهاد عملية تكافلية جماعية أو لا يكون وكل عمل يوحد صف الأمة هو جهاد بل أفضل جهاد وكل عمل يغذي الأمة بالعلم ويهديها بالتشاور ويعدلها بالميزان ويقويها بالحديد هو أفضل جهاد قطعا ولا ثواب إلا على جهاد يكون مقصده وأيلولته تحرير الإنسان وليس إكراه الإنسان ولو كان المكره عليه هو الحق الأبلج الذي ليس وراءه إلا الضلال الأعرج.
3 العمل الصالح مساحة شاسعة واسعة عريضة لا يحصيها حاص ولكن وجب الفقه الذي يرتب أولوياتها ويقدم كبيرها ويؤخر صغيرها وينظر في وقتها. لذا دعينا أن نكون تجارا لا متسكعين في الأسواق لنفرح بنافلة تقصر بنا عن فريضة أو نتأثم لإقتراف مكروه يدفعنا إلى إجتناب إثم.
4 ليس هناك معفو عنه هنا مهما كان ضعفه وجهله وأدنى فريضة عليه هو الحض والتحريض والحث أو طلب العلم لفقه مثل هذا فلا يدعين مدع أنه ليس من أهل السياسة أو الحكم أو القدرة والقوة أو الفقه والعلم فهو مستقيل. حتى القائم على ضعفة المجاهد في غيابه مجاهد مثله بنص الحديث الصحيح. والدال على الخير كفاعله بمنطوق الحديث كذلك. لم تجد إذن سورتي النحل والنمل؟ أليس لتكون مثل النحلة أو النملة في قومك وأهلك؟
الهادي بريك مدنين تونس


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.