مع عودة التحكيم الأجنبي.. تعيينات حكام الجولة 5 "بلاي أوف" الرابطة الاولى    استقالة متحدثة من الخارجية الأميركية احتجاجا على حرب غزة    الرابطة الأولى.. تعيينات حكام مباريات الجولة الأولى إياب لمرحلة "بلاي آوت"    ماذا في لقاء سعيد برئيسة اللجنة الوطنية الصلح الجزائي..؟    أخبار المال والأعمال    سليانة .. رئس الاتحاد الجهوي للفلاحة ...الثروة الغابية تقضي على البطالة وتجلب العملة الصعبة    وزير السّياحة: تشجيع الاستثمار و دفع نسق إحداث المشاريع الكبرى في المجال السّياحي    «الشروق» ترصد فاجعة قُبالة سواحل المنستير والمهدية انتشال 5 جُثث، إنقاذ 5 بحّارة والبحث عن مفقود    تنزانيا.. مقتل 155 شخصا في فيضانات ناتجة عن ظاهرة "إل نينيو"    زيتونة.. لهذه الاسباب تم التحري مع الممثل القانوني لإذاعة ومقدمة برنامج    لدى لقائه فتحي النوري.. سعيد يؤكد ان معاملاتنا مع المؤسسات المالية العالمية لابد ان يتنزل في اختياراتنا الوطنية    اليابان تُجْهِزُ على حلم قطر في بلوغ أولمبياد باريس    سوسة.. دعوة المتضررين من عمليات "براكاجات" الى التوجه لإقليم الأمن للتعرّف على المعتدين    إثر الضجة التي أثارها توزيع كتيّب «سين وجيم الجنسانية» .. المنظمات الدولية همّها المثلية الجنسية لا القضايا الإنسانية    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    حركة النهضة تصدر بيان هام..    بالثقافة والفن والرياضة والجامعة...التطبيع... استعمار ناعم    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    تراجع الاستثمارات المصرح بها في القطاع الصناعي    جندوبة.. المجلس الجهوي للسياحة يقر جملة من الإجراءات    منوبة.. الإطاحة بمجرم خطير حَوّلَ وجهة انثى بالقوة    برنامج الجولة الأولى إياب لبطولة الرابطة الاولى لمحموعة التتويج    اقتحام منزل وإطلاق النار على سكّانه في زرمدين: القبض على الفاعل الرئيسي    قبلي: السيطرة على حريق نشب بمقر مؤسسة لتكييف وتعليب التمور    الفنان رشيد الرحموني ضيف الملتقى الثاني للكاريكاتير بالقلعة الكبرى    من بينهم أجنبي: تفكيك شبكتين لترويج المخدرات وايقاف 11 شخص في هذه الجهة    البطلة التونسية أميمة البديوي تحرز الذهب في مصر    مارث: افتتاح ملتقى مارث الدولي للفنون التشكيلية    تحذير من هذه المادة الخطيرة التي تستخدم في صناعة المشروبات الغازية    وزيرة التربية : يجب وضع إستراتيجية ناجعة لتأمين الامتحانات الوطنية    وزارة التعليم العالي: تونس تحتل المرتبة الثانية عربيًّا من حيث عدد الباحثين    سليانة: أسعار الأضاحي بين 800 دينار إلى 1100 دينار    الرئيس الفرنسي : '' أوروبا اليوم فانية و قد تموت ''    تتويج السينما التونسية في 3 مناسبات في مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة    جريمة شنيعة: يختطف طفلة ال10 أشهر ويغتصبها ثم يقتلها..تفاصيل صادمة!!    قبلي : اختتام الدورة الأولى لمهرجان المسرحي الصغير    باجة: تهاطل الامطار وانخفاض درجات الحرارة سيحسن وضع 30 بالمائة من مساحات الحبوب    وزير الشباب والرياضة يستقبل اعضاء فريق مولدية بوسالم    الڨصرين: حجز كمية من المخدرات والإحتفاظ ب 4 أشخاص    قيس سعيّد يتسلّم أوراق اعتماد عبد العزيز محمد عبد الله العيد، سفير البحرين    الحمامات: وفاة شخص في اصطدام سيّارة بدرّاجة ناريّة    التونسي يُبذّر يوميا 12بالمئة من ميزانية غذائه..خبير يوضح    أبرز اهتمامات الصحف التونسية ليوم الخميس 25 أفريل 2024    سفينة حربية يونانية تعترض سبيل طائرتين مسيرتين للحوثيين في البحر الأحمر..#خبر_عاجل    بطولة مدريد للماسترز: اليابانية أوساكا تحقق فوزها الأول على الملاعب الترابية منذ 2022    كاس رابطة ابطال افريقيا (اياب نصف النهائي- صان داونز -الترجي الرياضي) : الترجي على مرمى 90 دقيقة من النهائي    هام/ بشرى سارة للمواطنين..    لا ترميه ... فوائد مدهشة ''لقشور'' البيض    أكثر من نصف سكان العالم معرضون لأمراض ينقلها البعوض    الجزائر: هزة أرضية في تيزي وزو    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    تونس: نحو إدراج تلاقيح جديدة    هوليوود للفيلم العربي : ظافر العابدين يتحصل على جائزتيْن عن فيلمه '' إلى ابني''    في أول مقابلة لها بعد تشخيص إصابتها به: سيلين ديون تتحدث عن مرضها    دراسة تكشف عن خطر يسمم مدينة بيروت    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كراس حول الهجرة النبوية أو بعثة الأمة الهادية 4 و5
نشر في الحوار نت يوم 10 - 10 - 2015


المحور الرابع
متفرقات أخرى مهمة من حادث الهجرة :
المرأة والهجرة والمرأة والبيعة.
كانت المرأة مشمولة بالإسلام كله بل شرفها الإسلام بأنها كانت أول مؤمن وليس مؤمنة على وجه الأرض في الرسالة الخالدة الجديدة الخاتمة وذلك بإيمان الأم العظيمة خديجة بنت خويلد عليها الرضوان. لم يكن الناس ينظرون إلى الإختلافات البيولوجية على أنها مثار نقص أو مهانة أو مدعاة للميز العنصري أو الجنسي. إذ هاجرت المرأة كما يفعل الرجل بالتمام والكمال سواء إلى الحبشة عندما كانت الأوضاع مدلهمة فقطعت البحر مع القاطعين وإغتربت وأكتوت بنار البعد بل وضعت روحها فوق راحتها قبل ذلك بمثل ما فعلت أول شهيد وليس شهيدة في الإسلام أي سمية إذ فهمت فهما أقرها عليه عليه السلام مفاده أنها مشمولة بتعاليم الإسلام كلها بما فيها التحمل والصبر والتضحية والعلم والمجاهدة بالثبات على الدين يومها في شعاب مكة حتى قضت نحبها شهيدة ولها زوج وذرية وتحب الذهب والحلي والفضة وشؤون المطبخ ككل إمرأة قطعا. فعلت كل ذلك وهي لم تسمع من القرآن الكريم سوى ما لا يتعدى عدد أصابع اليدين من السور القصيرة ولم تسمع غير حديث واحد كان عمدتها حتى لقيت ربها ( صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة ).
وكانت المرأة كغيرها من الرجال محل حبس طويل ومضن في شعاب أبي طالب لمدة ثلاث سنوات كاملات طويلات عجفاوات. فكانت إذن مشمولة بالإيمان فآمنت وكانت مشمولة بالهجرة فهاجرت وكانت مشمولة بالجهاد فجاهدت حتى كانت من بين إثني عشر رجلا فحسب ممن ثبت معه عليه السلام في بعض الواقعات الحربية الشرسة.
وفهمت أنها مشمولة بالعلم فتعلمت وفقهت وروت الحديث وكانت شيخة بل شيخات للبخاري وأخريات أكثر للعسقلاني الذي " إنفرد " بشرح صحيحه حتى قيل عنه لا فتح بعد الفتح قياسا على لا هجرة بعد الفتح
هاجرت المرأة وحدها سرا من مكة إلى المدينة قاطعة المفاوز ومتحدية المخاطر ونزل فيها القرآن الكريم في سورة الممتحنة وأمر عليه السلام ببعتها كما يبايع الرجال سواء بسواء. البيعة عند العقلاء لسانا عربيا ودلالة سياسية هي التعبير من لدن المبايع بالرضى السياسي عن الإدارة الحاكمة فهي التزكية والإنتخاب بلساننا المعاصر. تلك هي البيعة ولكن الحمقى يعترضون على شكلها فإن كانت المرأة قد صوفحت مبايعة بيدها فبها ونعمت وإن كانت قد بايعت بأي صورة أخرى فهي مبايعة بيعة سياسية واردة في الكتاب العزيز الهادي.
لمَ نصاب بالحول والعور دوما عندما تكون أمامنا صورة فيها جوهر وعرض. جوهر البيعة هو نفسه للرجال وللنساء ولكن صورتها أو عرضها وشكلها إن تغير عند من يريد تغييره فلا حرج فيه. هل نقول عن الأقطع أنه لم يبايع لأنه لم يكن صاحب أيد يبايع بها. وهل نقول عن الأعمى أنه ليس صحابيا لأنه لم يره عليه السلام ولو مرة واحدة. وهل نكفر الأصم لأنه لم يسمع حرفا واحدا من الوحي. مالكم كيف تحكمون؟
قل للذين يريدون ليّ النصوص قبحا لتأخير المرأة عن الرجل في المساواة مع ربها سبحانه : من أول من آمن.؟ من أول من بذل حياته رخيصة في سبيل الإسلام؟ هل تضمن أنت أن سيد سمية لم يكشف عن عورتها مرات ومرات لما كان يعذبها؟ ماذا تعد بنات ونساء الشيشان والبلقان ممن عاشوا تحت الشيوعية الحمراء الكافرة عقودا طويلة. ماذا تقول عن كل إمرأة إغتصبت جرما من لدن السفاحين؟ لم تثمنون المرأة بجهازها التناسلي وليس بعقلها وفكرها؟ قل لهم : من إختار الصحابة إجماعا للإستحفاظ على أول نسخة مكتوبة من القرآن الكريم في الدنيا؟
هن ثلاث نساء تزعمن التاريخ الإسلامي وبقيت بصماتهن راسخة فمت بغيظك.
لماذا إلى المدينة ؟
ظل يبحث عليه السلام عن موضع آمن لنفسه يبلغ فيه دعوة ربه التي كلف بها ولأصحابه أن يحيوا وفق عقيدتهم الجديدة سيما أنها عقيدة تقتضي منهم الجهاد لأجلها تحريرا للإنسان وفكا له من الطواغيت التي تحول دونه ودون سماع كلمة ربه إليه. فهاجر أصحابه مرتين إلى الحبشة البعيدة وكانت تلك الهجرة هجرة وقائية إضطرارية تأمينا للحياة والدين ولم يكن مرقوبا أن تكون الحبشة على عدل ملكها النجاشي عليه الرحمة والرضوان أرضا للدعوة الإسلامية. ثم هاجر هو نفسه عليه السلام إلى الطائف لعلها تكون أرض مقام للدعوة فهي على تخوم أم القرى مكة ولكن تبين أن زعماء ثقيف أغلظ من زعماء قريش ألف مرة ومرة إذ أغروا به صبيانهم يقذفونه بالحجارة حتى أدميت قدماه الشريفتين عليه السلام ولم يستطع دخول مكة عائدا إليها إلا بإجارة من مشرك أمين وقوي فيها.
عندها كان التفكير جادا في الحضور إلى سوق عكاظ يعرض نفسه على القبائل العربية لعله يظفر بمن يؤمنه حتى يبلغ رسالة ربه إلى الناس فظفر عامين قبل الهجرة إلى المدينة بثلة من الشباب من أوس وخزرج فأودعهم رسالتهم وبايعوه وأرسل معهم سفيره مصعبا إبن عمير فما لبث أن جاء الفوج الأول بفوج أكبر يعد عشرات المؤمنين الجدد فعقد بهم العقبة الثانية وأصبح يتجهز للهجرة إلى المدينة وسبق أصحابه سرا إليها.
لماذا إلى المدينة إذن؟
1 أهل المدينة وإلى يوم الناس هذا أرفق من أهل مكة خلقا وألين عريكة وهذا أمر يلحظه كل حاج إلى بيت الله الحرام ويخبر به الناس بعضهم بعضا فهو أمر تواتر. هي حقيقة صحيحة ولكنها نسبية فليس كل مكي هو مكي فعلا وليس كل مدني هو ألين عريكة من كل مكي. ولكن العبرة بالأعم الأغلب.
2 كما يتراءى لي كذلك أن مكة بحرمها العظيم المهيب أرفع من أن تستقبل حروبا وتحتضن معارك يمكن أن يدنس فيها الكافر أو المحارب شيئا منها ولذا صرفتها أقداره سبحانه عن مثل هذا إذ حتى فتحها كان فتحا سلميا عجيبا.
3 الجغرافية المدينية بتضاريسها المنبسطة أنسب للدعوة ولقاء الناس وبناء العمران بل حتى لإستقبال الناس من بعد ذلك فمن الناس من لم ير مثل جبال مكة في حياته فيستوحشها وهي التي ستكون أي المدينة عاصمة الخلافة الراشدة المهدية الأولى لزهاء ربع قرن.
4 الهجرة إلى المدينة تناسب الإختلاط والتعرف ثم الإصطدام مع اليهود بمختلف قبائلهم المستوطنة ليثرب وتخومها والكتاب الكريم مليء بالحديث عنهم وعن المنافقين الذين هم منهم بنسبة تكاد تصل حدود المائة بالمائة في بادرة لتوزيع الأدوار. الإحتكاك بمثل هؤلاء الذين سيظلون يلازمون الإسلام وأمته حتى يوم القيامة تدبيرا بالنفاق أو تمترسا وراء الكتابية السماوية أنضج تجربة من الإحتكاك بأهل ثقيف المشركين ولا بأهل مكة ولا بغيرهم. الشرك أمر خبره المسلمون وأمره ليس معقدا بمثل الحالة الإسرائيلية. هناك ستكون جولات وصولات وصراعات وتدافعات وخيانات وتجارب حية ثرية ناهيك أن الكتاب يزخر بالحديث عنهم زخرا عجيبا.
5 المدينة لا هي قريبة بمثل الطائف بحيث تكون الهجرة إليها شيئا ميسورا ولا هي بعيدة مثل الحبشة بحيث ينقطع الإنسان عن مهده الأول إنقطاعا شبه كلي. هي وسط بين الأمرين بل هي وسط بين جبهة الشرك في وسط شبه الجزيرة العربية وجنوبها وبين جبهة الروم الشمالية وهي الجبهة التي سيتفرغ لها الإسلام من بعد الفتح مباشرة. هما جبهتان ستظلان تنازعان الإسلام ومن مصلحة الإسلام أن يكون في وسط الطريق ووسط الطريق هذا كان سببا في نشوب بدر الكبرى عزما على قطع رحلة الشام لقريش.
6 في المدينة كان هناك قبيلتان عربيتان ( الأوس والخزرج ) ترزحان تحت قبضتين : قبضة اليهود بأموالهم الربوية وقبضة الخصام الداخلي المتصاعد والإسلام رحمة الله لعباده وهو رسالة تحريرية بالأساس الأول فكان مناسبا أن يتحرر أولئك من القبضتين معا. ثم يكونوا لحمة الدعوة الجديدة وسداها مع المهاجرين الوافدين. إنتخب الإسلام خيرة قريش وما جاورها على إمتداد عقد واحد تقريبا ثم ضم إليهم خيرة من في المدينة فكانت النخبة التأسيسية الأولى لأمة البعثة. أمة بعثتها الهجرة.
7 وتسير أقداره سبحانه ليكون للناس معلم محرمي مع الحرم المكي هو الحرم المدني حيث يرقد عليه السلام فلهذا طعمه ولذاك طعمه ولهذا أجره ولذاك أجره ولهذا زواره ولذاك زواره. بل هي ثلاث. والثالث في قبضة اليهود أنفسهم الذين إحتلوا من كتابنا نحن زهاء ثلثه كاملا. المدينة التي يهاجر إليها عليه السلام ومنها ينبعث النور الإلهي مناسبة لأن تحتضن معلما محرميا ولم يكن ذلك متاحا لا في الطائف ولا في مكة الغنية بمعلمها المحرمي المعروف. المدينة التي يهاجر إليها باكيا تكون مقره ومرقده.
الهجرة تؤسس لتاريخ الأمة.
لما أراد الفاروق وهو يحكم دولة الإسلام أن يجترح لهذه الأمة تأريخا كما للأمم من حوله تأريخ إستشار الصحابة كعادته في فتوحاته ومبادراته فأشار بعضهم إلى ميلاده عليه السلام وأشار آخرون إلى مبعثه عليه السلام بل أشار آخرون إلى وفاته عليه السلام. ولكن العقل الفاروقي العظيم لم ترق له كل تلك المقترحات فأشار عليهم بالهجرة أن تكون تأريخا للأمة فأستحسنوا الرأي وعملوا به.
العبرة هنا هي أن الصحابة بزعامة الفاروق عليهم الرضوان جميعا رأوا أنه لا وجود لديانة محمدية ولا لدين محمدي بل هناك دين إلهي إسمه الإسلام ومحمد عليه السلام هو حامله وناقله إلى الناس أجمعين. لذلك لا علاقة عندهم بين مكانته عليه السلام عندهم فهو نصف الشهادة التوحيدية العظمى التي هي مفتاح سعادة الدنيا والآخرة معا ( أشهد أن محمدا عبد الله ورسوله ) وبين نسبة الإسلام إلى أكبر شيء في تاريخه كان فيه مبعثه فلم يظفروا بغير الهجرة حدثا عظيما نقل الإسلام من القلة إلى الكثرة ومن الضعف إلى القوة ومن الإستخفاء إلى الإستعلان ومن السجن إلى الحرية ومن التمزق والفردية إلى الجماعة والصف الواحد المرصوص ومن بطش قريش إلى الإندياح في وجه الأرض هاديا مهديا.
لذلك إختاروا الهجرة لتكون مبعث الأمة وليرتبط بها تاريخها إذ لكل أمة تاريخ ومن لا تاريخ له لا ذاكرة له ومن لا ذاكرة له فمحطات الإستشفاء العقلية أحق به وأولى.
لم يكن ميلاده عليه السلام سوى حدث عادي جدا إذ ولد كما يولد أي واحد منا دعك من أوهام الدجالين ممن لا يبتعدون كثيرا عن الذين يؤلهون عيسى عليه السلام بسبب غرابة ولادته وعجابتها.
وكذا بعثته ظلت سرية محفوفة بالمخاطر حتى إستعلن بدعوته فتضاعف القهر ضده وضد أصحابه وإضطروا للهجرة بعيدا وغير ذلك مما أصاب الدعوة وأهلها في تلك الأيام العجفاوات الكالحات.
وكذا موته عليه السلام كان موتا عاديا طبيعيا كما يموت أي واحد منا وهل يفرح عاقل بموت نبيه فيجلعه عيدا أو يؤرخ به لذاكرته؟
وما عدا ذلك هي أحداث على قيمتها لا تصل قيمة الهجرة التي بعثت الأمة حقا. الهجرة التي هي أم المعارك وأم الإنتصارات وأم الفتوحات ويدين لها كل مؤمن على وجه البسيطة حتى يوم القيامة. تلك الهجرة التي نقلت الإسلام وأهله ودعوته من طور إلى طور ومن مرحلة إلى أخرى .. تلك الهجرة التي لولاها لما كانت بدر ولا أحد ولا الخندق ولا بنوالنضير ولا بنو قريظة ولا بنو قينقاع ولا خيبر ولا الفتح ولا النصر ولا مؤتة ولا تبوك ولا ثقيف ولا أي شيء .. ولا الصيام ولا الزكاة ولا الحج ولا إندياح الإسلام شرقا وغربا ولا أي شيء .. تلك هي الرحلة العظيمة التي غيرت وجه الأرض ..
تلك هي التي إختارها الفاروق وأصحابه إجماعا لتكون بدء تأريخ الأمة وقد أحسنوا الفقه وأحسنوا الإختيار وأحسنوا الصنع.
كان لهذه الأمة أن تختار تأريخا يحفظ ذاكرتها وماضيها والتأريخ ضرب من ضروب الكتابة والتوثيق اللذين بهما أمرنا لحفظ الحقوق والعبادات ..
أمة إقرأ وأمة القلم وأمة القوة وأمة الصف وأمة الميزان وأمة الشهادة وأمة الخيرية المطلقة وأمة الهداية .,. لا بد لها أن تكون صاحبة ماض وذكريات وتأريخ يحفظ لها كل ذلك ..
الأمم من حولها تؤرخ بأمجادها وأمجاد زعمائها ..
لم يكن قمينا ولا لائقا بهذه الأمة العظيمة إلا أن تكون صاحبة تأريخ ولم يكن هناك تأريخ يصلح لها ماضيا وحاضرا وقابلا سوى التأريخ بالحدث العظيم الذي حولها من شتات مفرق تسام الخسف على أيدي المشركين قهرا وظلما إلى صف مرصوص.
للمسيحيين تأريخهم الخاص بهم وحق لهم ذاك. ومن مظاهر الشعور الثقيل بالغلبة الحضارية الثقافية هو تخلصنا من التأريخ الفاروقي الإسلامي الأول تاريخ الهجرة وإستخدامنا التأريخ المسيحي. هي الغلبة الحضارية وهي الهزيمة الثقافية.
الإنفتاح شيئ والأصالة شيء آخر. لا يكون الإنفتاح مجديا إلا من لدن جذر مؤصل أما الجذر الذي تلفحه الرياح السموم فتقتلعه فلا قرار له وليس هو منفتح بل هو إمعة.
لهذه الأمة مما يميزها عن غيرها شيئ كثير وكبير ولكن من يردها إلى ذلك.
التأريخ بالهجرة يذكرك دوما بمعاناة المهاجرين وبكرم الأنصار. يذكرك بالطبقة الإسلامية الأولى التي تركت الوطن لأجل الإسلام. كل ذلك يغرس فيك شعورا متجددا بالثناء عليهم والترضي.
من يثرب إلى المدينة.
الإسلام هو الذي بدل إسم يثرب من يثرب إلى المدينة.
والإسلام هو الذي بدل أسماء لا تناسبه من مثل صخر وحرب. عندما يتساوق المبنى مع المعنى تكون لذة اللسان العربي. لا أظن أن من يقدم لك عسلا مصفى في قحف كلب قد أصابه شيء من الذوق العالي الرفيع. البعد الذوقي بعد من أبعاد الشخصية الإسلامية.
ذكر القرآن الكريم يثرب في سورة الأحزاب ( يا أهل يثرب لا مقام لكم). وهو دعاء بعض المنافقين في واقعة الخندق إلى الناس أن مقام الخندق حفرا ومن بعد ذلك قتالا ليس مقاما حسنا. أي يصدون عنه عليه السلام ويحرضون على تركه وحيدا لمواجهة الموت في لقائه أكبر إئتلاف عسكري عربي.
وما عدا ذلك فإن القرآن يتحدث عن يثرب بإسم المدينة. الله هو الذي سماها كذلك.
ما المعنى المقصود؟
لم يكن الأمر إعتباطا حاشا لله سبحانه. كل شيء عنده بقدر مقدر. إنما هناك قيمة عظيمة يريد سبحانه زرعها فينا قوامها أن إسم المدينة أليق بالمكان وبالزمان وبالناس. المدينة لسانا عربيا من التحضر والترقي والإحسان والإتقان في عوائد الأكل والشرب والقيام والجلوس والحياة بصفة عامة. قال إبن خلدون : الإنسان مدني بطبعه. أي حريص على الحياة وفق أسلوب حضاري راق كلما وجد لذلك سبيلا ومن ناحية أخرى هو مدني بمعنى أن ذلك عادة ما لا يتحقق له إلا بمجاورة أهل ذلك النمط من الحياة. المدنية هي ضد التعرب من جهة وهي ضد الجلافة والغلظة والجفاء والفردية من جهة أخرى.
المدينة هي موضع الحضر في مقابل مواضع البداوة.
ذلك من حيث الإبتداء اللغوي والمعاني المحيطة به.
ولكن من حيث الدلالة الأعظم فإن نقل المكان من إسم يثرب إلى إسم المدينة يوحي بأنه سبحانه يطلب من الناس أن يكون أهل تمدن وتحضر ورقي وإحسان وإتقان أي أهل صف واحد ورعاية للجيرة والشعور بالإنتماء وليسوا أجلافا غلاظا عتاة حفاة عراة. هي نقلة كانت تبدو عسيرة في تلك الأيام إذ العرب أهل تعرب في العادة بسبب التضاريس الأرضية ومعافسة الحيوان وغير ذلك. صنعتهم الجغرافيا بصورة ولكن أعاد الإسلام صنعهم بصورة أخرى. قيم الإسلام التي جاء بها كلها تقريبا يعسر جدا أن تكون منفذة في حال التعرب والبعد والتهجر والبداوة. لذلك سماها مدينة وسمى أهلها أهل المدينة وبعث منها النور وجعلها مهجره عليه السلام ومهجرهم جميعا لعل الإسم ينغرس فيهم بمعناه الإيجابي فينقلوا الإسلام إلى الناس المتمدنين قبلهم من أهل الفرس والروم وغيرهم نقلا أمينا فلا ينقلوا لهم العروبة ولا أي شيء سوى الإسلام الذي رضي أن يكون مدنيا أي حضاريا راقيا يليق بالإنسان المدني بطبعه.
وفعلا فهم الرسالة عليه السلام فكانت كل أعماله في المدينة سيما التاسيسية الأولى منها مدنية بإمتياز شديد إذ أن تأسيس المسجد ( قباء ) إشارة إلى التمدن وصلاة الجماعة تمدن والصلاة المنفردة بداوة بل ربما تكون توحشا عندما لا يكون لها أي داع والإجتماع في المسجد ( الصلاة جامعة) للحوار حول أي مشكلة أو معالجة أي طارئ هو سلوك مدني وكذا عقد التكافل بالتآخي هو سلوك مدني يوازن فيه المرء بين فرديته وبين بعده الجماعي وكذا دستور المدينة التوافقي ليعيش الناس كلهم بمختلف عقائدهم وأديانهم وأعراقهم وألسنتهم تحت سقف المدنية وفوق أديم الإنسانية وليس متوحشين مثل ما كانوا قبل مجيء الإسلام المدني.
كل ذلك وأكثر منه مما ينقدح في ذهنك في هذا الإتجاه تحتمله كلمة ( المدينة ).
كلمة يثرب لم تكن كلمة توحي بشيء لا ينسجم مع الإسلام حتى يتخلص منه ولكن جاءت داعيات أخرى جعلته يختار الإسم الأوفق بالإسلام والأدنى إلى تعاليمه فكان التغيير.
يثرب لو بقي إسمها توحي بالحروب الطاحنة الظالمة الجاهلية التي كانت تخنق الأوس والخزرج بعضهم مع بعض أو بعضهم ضد بعض. هي كلمة توحي بالماضي الأليم فكان لا بد من إبدالها. ولليهود مثل ذلك.
هي معالجة قريبة من المعالجة الأخرى التي عالج بها عليه السلام حديث الإفك أو بداياته الأولى إذ ظل يرتحل بالناس دون هوادة حتى أخذهم التعب الشديد فناموا فلم يجدوا فرصة تذكرهم بالماضي أي بدايات الإفك.
هي معالجة في الإتجاه نفسه. القطع مع الماضي الأليم حتى في الإسم.
ذلك الإسلام المدني هو نفسه الذي إمتد وإنداح حتى تعلم منه الأروبيون فنون المدنية والطهارة والنظافة والرقي والإحسان والإتقان لما إختلطوا بالمسلمين في حروب الفرنجة أو لما سقطت غرناطة الأندلسية كما تسرد ذلك المستشرقة الألمانية ( سغريد هونكة ) في كتابها القيم ( شمس العرب تسطع على الغرب ) وكتابات أخرى وكتاب آخرون.
الهجرة صنعت أفضل طبقة إسلامية
نطق الكتاب مرات ومرات بأفضلية مطلقة للمهاجرين ثم للإنصار ثم للذين إتبعوهم بإحسان حتى إنك لاف أن الموضع الوحيد وهو في سورة التوبة وهي من آخر ما نزل الذي تكون الجنات تجري تحتها الأنهار ( وليس من تحتها ) هو هذا الموضع الذي ينطق بتلك الأفضلية.
أفضل آدمي هو محمد عليه السلام ثم الأربعة من أولي العزم والله وحده أعلم بترتيبهم هنا
( نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ) ثم الرسل ( زهاء 325 ) ثم الأنبياء ( زهاء 124 ألف) ثم المهاجرون ثم الأنصار ثم أهل القرنين ( القرن هو الجيل وليس المعنى المتداول اليوم ) التاليين له عليه السلام ثم الصالحون عامة إذ ربما تكون أغلبية من أولئك إما من الصديقين أو من الشهداء ومن بقي منهم فهو من الصالحين.
كل ذلك بالتنسيب اللائق به وبتفويض إليه وحده سبحانه فهو أعلم بمن إتقى.
المهم هنا هو أن الهجرة هي التي صنعت لأصحابها ذلك الفضل فلم؟
لأن المهاجرين تركوا نساءهم وأموالهم وأولادهم ومهد طفولتهم وذكرياتهم لأجل غاية واحدة قصوى هي فداء هذا الدين. من يفعل ذلك مختارا لأجل دينه إيثارا للآخرة بإطلاق وركلا للدنيا بما فيها .. من يفعل ذلك مؤمنا مهاجرا ثم مجاهدا .. من يفعل ذلك فقد رقى أعلى المناصب فهو أحد أعضاء الطبقة الإسلامية المفضلة.
بدر أقل من الهجرة. وبدر شفعت لأحد رجالها حاطب إبن أبي بلتعة فعلمنا بذاك أن شفاعة الهجرة أكبر وأعظم.
بل كان كما مر بنا يقدم في القبر المهاجر على غيره والأسبق هجرة على غيره.
أن يترك إمرئ ثروته وأهله ووطنه لأجل دينه ثم يغدو على مكان بعيد ليظل هناك غريبا فقيرا .. أن يدع أحدنا حياة ألفها وفيها ما يسره ويقر عينه لأجل دينه فحسب .. أن يأتي أحدنا مثل ذلك ليس هينا ولذلك حق له أن يتبوأ مقاما عليا.
الناس تؤلمهم الغربة التي يجنون منها الأرباح المالية .. فما بالك بمن يتألم لأجل دينه. الألم هو الألم ولكن الأجر أعلى وأثمن.
الأنصاري الذي أعطى نصف ماله بل ربما نصف عياله يكون في المقام الثاني بسبب أنه يأتي الذي يأتي وهو في بيته أي في داره ووطنه وليس غريبا يتألم حرقة على مكة.
أرأيت الفرق؟ التهجير عن الوطن قسرا يثمر ألما لا أريد الحديث عنه لأن مجرد الحديث عنه يؤلمني والله إذ كنت أبكي والله كلما ذكرت تونس خاليا حتى إني أصرف ذكري عنها عنوة لئلا أبكي. هذا شعور لا يحكى ولا يقال ولكن يعاش ويحيى.
الهجرة سبب ولاء وميراث.
لتعظيم قيمة الهجرة عند الصحابة الكرام أقر التشريع الإسلامي أمرين عظيمين سجلهما في كتابه العزيز أولهما هو أن المهاجرين كانوا يتوارثون بينهم المال أي يقتمسمون تركات الهالك منهم على أساس القرابة الإيمانية وليس على أساس القرابة الدموية وذلك قبل أن يعدل ذلك الميزان في المدينة وتحديدا بعيد واقعة بدر العظمى كما ورد ذلك في آخر آيات الأنفال التي كان الأصحاب لفرط فقههم يسمونها سورة بدر.
كما كانت الهجرة سبب ولاء كما ورد كذلك في السورة نفسها وذلك بمعنى أن المهاجرين لا ينتصرون وهم بالمدينة لأي مؤمن مسلم يعرفونه ويعرفهم ظل في مكة فلم يهاجر وهو يقدر على الهجرة إذا كان المنتصر منه حليفا سياسيا لدولة المدينة.أي أن الهجرة كانت سبب ولاء بين المؤمنين على أساس قصر الولاء الإسلامي على أساسها وليس على أساس الإيمان. وظل الحكم كذلك حتى فتح الله سبحانه مكة بنبيه عليه السلام وعندها صفح الله سبحانه عن الكل وأعيدت اللحمة الولائية على أساس الإيمان سواء من هاجر ومن لم يهاجر ولكن يظل فضل الهجرة محفوظا لأهله بمثل ما ظل فضل الجهاد والإنفاق قبل الفتح محفوظا لأهله.
ذلك يعني أن الهجرة هي أكبر حدث في الإسلام. ذلك يعني أن الهجرة تصرفت في أمرين تشريعيين كبيرين هما : الميراث والولاء. الولاء هو الولاء السياسي العام وأي كرب على المهاجرين وعلى غير المهاجرين من القادرين على الهجرة أن يرى المؤمن أخاه المؤمن في مكة يسام الخسف من لدن المشركين فلا ينصره لأنه ممنوع من نصره شرعا؟ وثانيهما الميراث والمعنى من ذلك هو أن المهاجر أحق بالمهاجر وليس المهاجر أحق بكل مؤمن حتى لو لم يهاجر وهو قادر على الهجرة.
نحن اليوم لا نعرف ذلك ولا نشعر بآثاره بل ربما إستهجنه بعض الذين لا يوقنون منا. ولكن من يلتقط حكمته ومقصده الأسنى يدرك قيمة الهجرة فهي عدل الإيمان وصنو الجهاد ضمن مثلث إسلامي إن إنخرم منه ضلع إنخرم المثلث كله : الإيمان والهجرة والجهاد.
كيف يكون ذلك هو فضل الهجرة وكيف يكون ذاك دورها وتلك منزلتها فلا نحتفي بها اليوم لبيان مثل هذه التعاليم ومقاصدها أو لا نقدر أهلها حق القدر. عجب عجاب ورب الكعبة.
لم لا نحتفل ببعثة أمتنا.
الرأي عندي ثلاثة أمور :
1 الإحتفاء بالذكريات والأعياد وما في حكمها مطلوب طلبا جبليا غريزيا إذ أن أقوى الغرائز المعنوية هي غريزة حب التقدير. التقدير الجماعي كالتقدير الفردي فالأمة التي تقدر نفسها أي تحترم نفسها وتريد أن تورث ذلك ناشئتها عليها أن تحتفي بماضيها وأمجادها وأعيادها. مثل هذه الأعمال هي للناشئة الحديثة وفيها رسائل للشاهد من كل صوب وحدب حتى لو لم نجد نحن فيها متعة. ومن أحكم الحكم ( التاريخ ذاكرة الشعوب ومن فقد تاريخه فقد فقد ذاكرته ) ومن فقد ذاكرته من الأفراد معروف مأواه ومن الشعوب كذلك وليست علامة الحياة الأكل والشرب.
2 الهجرة هي بعثة الأمة أي بعثة الإسلام من حيث أنه أمة ذات صف واحد مرصوص. أمة نجحت في إمتحان الإيمان فآمنت ثم نجحت في إمتحان الهجرة فهاجرت ثم إجتازت إمتحان الجهاد فجاهدت. الهجرة هي التي جمعت الأمة لأول مرة. الهجرة هي أم كل إنتصارات الأمة وإندياحات دينها وهدايتها للناس شرقا وغربا. الهجرة هي أم الإسلام بحق. هي التي حققت عالمية الإسلام إذ أهدت للمهاجرين والأنصار الحرية ومن قنص الحرية قنص مفتاح النهضة والسؤدد. نحن لا نرى الأمر كذلك لأننا نحتفظ بقالة تراثية إنحطاطية مفادها أنه عليه السلام فر بدينه فنجا. أي بؤس وأي شقاء وأي تعاسة في مثل هذا التفكير الأعوج. وفعلا لكم صدق الأولون في قالتهم ( الحكم على الشيء فرع عن تصوره). لم نتصور منزلة الهجرة فإزدريناها. إحتفلنا ببناتها ( إضحى وفطر وغيرهما ) وتجاهلنا الأم.
الأصحاب الذين فقهوا الهجرة جعلوها مبعث التأريخ ومبتدأ الذاكرة. حتى العطاء المادي كان في عهد الفاروق وفق الأسبقية والأقدمية والهجرة وغير ذلك أي عطاء وفق العطاء. الهجرة هي التي صنعت لتاريخنا عاصمة ظلت محط الأنظار ردحا من الزمن. الهجرة هي التي صنعت المدينة بدل يثرب. عجب عجاب كيف نتجاهل الهجرة فنضن عليها بل نضن على أنفسنا حتى بالإحتفال بها.
3 الإحتفالات والإحتفاءات وغير ذلك ليس ميزانه الحلال والحرام لمن يفقه موازين الشريعة المختلفة فيضع لكل حقل ميزانه المناسب. هذا الحقل الإجتماعي ميزانه المصلحة والمفسدة فإن كانت مصالح الإحتفاء بالهجرة أو بغيرها أكثر من المفاسد إحتفلنا وإن كان العكس أحجمنا. حتى في الخمر والميسر ينفذ الميزان ذاته. علاقتك مع غيرك مبناها العدل والجور وليس الحلال والحرام وهكذا لكل حقل ميزانه. فإن نفذت ميزان حقل في حقل آخر ضللت وأضللت. مثل ذلك الإحتفال بمولده عليه السلام. ولا أظن أن عاقلا يحجم عن الإحتفال بالهجرة لنعلم ما فيها من دروس وما هي مناخاتها وما هو فضل المهاجرين والأنصار وكيف تغير مسار الإسلام والدعوة من بعدها وغير ذلك. سيما في أيامنا حيث يأتي الناس إلى خطبة الجمعة ليناموا أو ليسمعوا كلاما لا علاقة له بشأنهم وذاكرتهم. ناشئتنا بحاجة إلى معرفة أمجادها وأي مجد لنا أعلى من الهجرة؟
ما هو حكم الهجرة اليوم؟
الهجرة من مكان لآخر إختيارا أو تهجيرا أمر يخضع للملابسات والظروف ولذلك يمكن ان يحتضن من الأحكام العملية الشرعية الخمسة كلها ( الحرمة والكراهة والإباحة والإستحباب والوجوب ). كل فعل أصله الإباحة عادة ما يخضع لمثل هذا. المحرمات معروفات مذكورات إما في الكتاب أو في السنة. والواجبات صنفان : صنف كبير من مثل العبادات وهذا لا خلاف عليه وصنف يتغير بحسب الحال والعرف والزمان والمكان والمكلف وغير ذلك فضلا عن الواجبات الفردية والجماعية. ولكن أوسع دائرة هي دائرة المباح. وكل مباح مقيد بالضرورة أن يفضي إلى محرم أو إلى إيجاب شيء على الناس لم يوجبه عليهم رب الناس سبحانه.
الأمور المتغيرة يكاد يكون حكمها دوما هو الدوران مع علتها. فمتى وجدت علة الشيء وجب أو إستحب أو كره أو حرم. ومتى غابت العلة بقي على حاله أي حاله الإباحة الأصلية المطلقة.
الهجرة هي من ذلك الضرب فإذا حضرت علتها وهي طلب ما لا بد منه للإنسان سيما ضروراته أولا ( الدين والنفس والمال والعقل والعرض أو النسب ) وجبت أو إستحبت على الأقل وذلك بحسب الضرورة إليها من شخص لآخر ومن إمكان لآخر.
فمن ضاق عليه دينه فلا يقدر على إظهار الحد الأدنى المطلوب فيه من مثل الصلاة كانت الهجرة في حقه واجبا إن إستطاع إلى ذلك سبيلا وكان تقديره مفضيا إلى أنه يغير منكرا بهجرته دون أن يقع في منكر أشد منه أو مثله.
وكذا من ضاقت عليه ضروراته الأخرى من مثل النكاح أو العلم أو طلبا للأمن أو للعيش أو لأي حاجة متنزلة منزلة الضرورة .. كانت الهجرة في حقه مترددة بين الوجوب وبين الإستحباب ما إستطاع إلى ذلك سبيلا.
أما قوله عليه السلام ( لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا إستنفرتم فأنفروا ) فمعناه أنه لا هجرة بعد فتح مكة من مكة إلى المدينة وليس كل هجرة. وكل هجرة من بعد ذلك تكون في محلها وزمانها ومكانها وملبية لعلتها هي من باب ( ولكن جهاد ونية ) أو من باب
( وإذا إستنفرتم فانفروا ). لذلك هاجر الأصحاب في أغلبيتهم العظمى من مكة والمدينة من بعد موته عليه السلام فماتوا دعاة أو تجارا أو مجاهدين أو غير ذلك خدمة للإسلام ودعوته وهم في حالة هجرة أي خارج مواطنهم.
وإنما تقيد الهجرة دوما بقيد النية كما جاء في أصح حديث أي حديث النيات. وعادة لا يهاجر أي إنسان تاركا موطنه وأهله لمجرد الهوى فلا يهاجر إلا من أصابه ضيم وقهر في أي حقل من حقول حياته. لذلك يكون مطلب الهجرة مطلبا جبليا أكثر منه شرعيا.
وإنما كانت الهجرة فريضة عين على كل صحابي في مكة بسبب أن الإسلام يومها لا يقوم إلا بالهجرة الجماعية لتأسيس أمة ودولة وحضارة. وكانت الفتنة يومها عصية وقوية على المؤمنين في مكة. وكانت بقيادته هو نفسه عليه السلام. فلا تقاس على تلك الهجرة أي هجرة في الحكم الشرعي ولكن تظل كل هجرة من بعد ذلك محكومة بالقاعدة الأصولية الشهيرة ( يدور الحكم مع علته وجودا وعدما ). لأن الهجرة عمل معقول مفهوم خاضع للتعليل والتقصيد والإستصلاح.
المحور الخامس
المقصد الأسنى من الهجرة الأولى
1 المقصد الأكبر كان هو نشدان مساحة من الحرية كفيلة بتنفيذ التعليم الإلهي ويكون ذلك له هو عليه السلام بإبلاغ الرسالة في مناخ هادئ لا يتعرض فيه الناس للفتنة والإكراه ويكون ذلك بالنسبة للصحابة في المرحلة الأولى أي تنفيذ دينهم في المناخات ذاتها إذ تعذر ذلك في مكة بصورة تكاد تكون كلية.
2 ولكن الحرية ليست مقصودة لنفسها بل هي مقصودة في الحالة الإسلامية بصورة خاصة لإهتبال عطاياها لأجل بناء كيان سياسي للأمة تكون فيه عزيزة منيعة حصينة وقادرة على تنفيذ التلعيم الإلهي وهو هنا : نشدان الخيرية بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأداء الشهادة على الناس بالهداية وإكتساب القوة إنتصارا لقيم الحق لها ولغيرها من المقهورين وإقامة الحق والعدل والقسط بين الناس وبث التعارف ورص الصف الواحد وضمان التنوع المطلوب حتى دينيا وعقديا فضلا عن المذهبي والفكري والسياسي وبناء الميزان الفكري لحسن فهم الكتاب وحسن تنفيذه وتنظيم الشورى والتوافق تكريما للإنسان وحسما للخلاف بصورة حضارية تؤمن الوحدة الإعتصامية ولا تخرق الصف الواحد المرصوص وإمتلاك الحديد الذي به تهاب الأمة ويحدث ما يسمى اليوم في الإستراتيجية العسكرية الدولية : توازن الرعب أي توازن الإرهاب.
ويظل الحديث التافه عن هجرة نبي فار بدينه حديثا فارغا يتلسى به الفارغون الذين لم يدركوا من رسالة هذا الدين شيئا. كما يظل الحديث عن العنكبوت التي نسجت خيوطها حول الغار الذي فيه يختبئ عليه السلام. وتظل مرويات أخرى واهية منخولة تنال من هذا الدين ومن نبيه دون شعور ربما من أهل ذلك الأفن المأفون.
ومن أراد الإلتحاق بطائفة الطبقة الإسلامية الأولى المقدمة ( المهاجرين والأنصار ) فما عليه سوى الترضي على أولئك الرهط الأوّل الذين حملوا الإسلام إليه صافيا نقيا يسيرا مفهوما معقولا إذ ترضى عليهم سبحانه بنفسه. حملوه بالدماء والمعاناة وترك الأوطان والدموع والجهاد و الشهادة. حملوه بالصف الواحد المرصوص الذي يحتضن الخلاف مادام تحت سقف الإسلام ومحكماته وفوق أديم التآخي والتراحم. حملوه بالميزان الذي آمنوا به مع الكتاب المنزل جنبا إلى جنب وبالتشاور والتراضي والتوافق وبإعداد القوة والحديد.
من أراد ذلك فعليه أن يكون مهاجرا في وطنه وبين أهله ( المهاجر من هاجر ما نهى الله عنه). لا تقل : حرمنا من فضل الهجرة. بل قل : الهجرة فريضة كتبت على أولئك بصورة وكتبت علينا نحن اليوم بصورة أخرى. هي صورة إجتناب ما يغضبه سبحانه سيما من الكبائر التي لنا فيها وعد صحيح صريح ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ).
ومن كتبت عليه الهجرة بالصورة القديمة فإن في المهاجر اليوم عطاءات إسلامية نابتة بل إشتد عودها وأينع ثمرها فليكن هناك من العاملين للإسلام ودعوته بعلم وبصيرة وبخلق حسن طيب كريم وبأدوات اللسان ( لسان القوم ) وفهم الأرض الجديدة والزمن الجديد والتعاون مع إخوانه هناك وأخواته. مهاجر تبشر بكل خير فهي واعدة توشك أن تضع حملها. مهاجر إسلامية كادت أن تعصف بها كارثة سبتمبر 2001 ولكن ربك سبحانه سلم.
وكاتب هذه السطور حيي هناك أزيد من عقدين كاملين إماما علمه الله سبحانه الذي علمه من فن التعامل مع غير المسلمين ومع المعتنقين الجدد للإسلام وهو يحن دوما إلى الأرض التي أجارته فأحسنت الوفادة وأكرمت الوسادة ولست من الذين يبخسون الناس أشياءهم.
كلمة الختام
الحمد لله أولا وأخيرا أنه يسر لي الوصول إلى نهاية هذا الكراس المرتجل حول الهجرة التي ألهبت قلبي حبا في الحقل الواسع الثري لسيرة محمد عليه السلام. أسأله سبحانه مجددا أن يجعل هذا خالصا لوجهه الكريم وأن يكون فيه سدادي أكثر من خطئي وأن يقيض له من يفيد منه علما وفكرا ومن يصحح خطأه وكذا من ينشره لعل فيه نفعا أو ينشئ حوارا.
الهادي بريك مدنين تونس
20 ذي الحجة الحرام 1436


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.