رئيس الجمهورية قيس سعيّد.. المفسدون... إمّا يعيدون الأموال أو يحاسبهم القضاء    فاتورة استيراد الطاقة لا تطاق .. هل تعود تونس إلى مشروعها النووي؟    في علاقة بالجهاز السرّي واغتيال الشهيد بلعيد... تفاصيل سقوط أخطبوط النهضة    مذكّرات سياسي في «الشروق» (5) وزير الخارجية الأسبق الحبيب بن يحيى... يتكلّم الصادقية حاضنة المعرفة والعمل الوطني...!    أخبار المال والأعمال    تقديرات بانحسار عجز الميزانية الى 6.6 ٪ من الناتج المحلي    مع الشروق .. «طوفان الأقصى» أسقط كل الأقنعة.. كشف كل العورات    مع الشروق .. «طوفان الأقصى» أسقط كل الأقنعة.. كشف كل العورات    مزاد دولي يبيع ساعة أغنى راكب ابتلعه الأطلسي مع سفينة تايتنيك    الرابطة الثانية (ج 7 إيابا) قمة مثيرة بين «الجليزة» و«الستيدة»    مانشستر سيتي الانقليزي يهنّئ الترجي والأهلي    ترشح إلى «فينال» رابطة الأبطال وضَمن المونديال ...مبروك للترجي .. مبروك لتونس    فضاءات أغلقت أبوابها وأخرى هجرها روادها .. من يعيد الحياة الى المكتبات العمومية؟    تنديد بمحتوى ''سين وجيم الجنسانية''    ابتكرتها د. إيمان التركي المهري .. تقنية تونسية جديدة لعلاج الذقن المزدوجة    الكاف..جرحى في حادث مرور..    نبيل عمار يؤكد الحرص على مزيد الارتقاء بالتعاون بين تونس والكامرون    استشهاد خمسة فلسطينيين في قصف لطيران الاحتلال لمناطق وسط وجنوب غزة..#خبر_عاجل    القواعد الخمس التي اعتمدُها …فتحي الجموسي    ماذا في لقاء وزير الخارجية بنظيره الكاميروني؟    طقس الليلة    تسجيل مقدّمة ابن خلدون على لائحة 'ذاكرة العالم' لدى اليونسكو: آخر الاستعدادات    بطولة الرابطة 1 (مرحلة التتويج): حكام الجولة الخامسة    البطولة الافريقية للجيدو - ميدالية فضية لعلاء الدين شلبي في وزن -73 كلغ    توزر: المخيم الوطني التدريبي للشباب المبادر في مجال الاقتصاد الأخضر مناسبة لمزيد التثقيف حول أهمية المجال في سوق الشغل    نابل: الاحتفاظ بشخص محكوم بالسجن من أجل "الانتماء إلى تنظيم إرهابي" (الحرس الوطني)    أكثر من 20 ألف طالب تونسي يتابعون دراساتهم في الخارج    التوتر يشتد في الجامعات الأمريكية مع توسع حركة الطلاب المؤيدين للفلسطينيين    مواطن يرفع قضية بالصافي سعيد بعد دعوته لتحويل جربة لهونغ كونغ    مدير عام وكالة النهوض بالبحث العلمي: الزراعات المائية حلّ لمجابهة التغيرات المناخية    الجزائر تسجل حضورها ب 25 دار نشر وأكثر من 600 عنوان في معرض تونس الدولي للكتاب    المؤرخ الهادي التيمومي في ندوة بمعرض تونس الدولي للكتاب : هناك من يعطي دروسا في التاريخ وهو لم يدرسه مطلقا    كتيّب يروّج للمثلية الجنسية بمعرض تونس للكتاب؟    وزارة التجارة تتخذ اجراءات في قطاع الأعلاف منها التخفيض في أسعار فيتورة الصوجا المنتجة محليا    الرابطة 1 ( تفادي النزول - الجولة الثامنة): مواجهات صعبة للنادي البنزرتي واتحاد تطاوين    افتتاح المداولات 31 لطب الأسنان تحت شعار طب الأسنان المتقدم من البحث إلى التطبيق    تضم فتيات قاصرات: تفكيك شبكة دعارة تنشط بتونس الكبرى    يلاحق زوجته داخل محل حلاقة ويشوه وجهها    عاجل/ إصابة وزير الاحتلال بن غفير بجروح بعد انقلاب سيارته    القلعة الصغرى : الإحتفاظ بمروج مخدرات    تراجع إنتاج التبغ بنسبة 90 بالمائة    هام/ ترسيم هؤولاء الأعوان الوقتيين بهذه الولايات..    تقلص العجز التجاري الشهري    الشابّة: يُفارق الحياة وهو يحفر قبرا    السعودية على أبواب أول مشاركة في ملكة جمال الكون    عاجل/ تحذير من أمطار وفيضانات ستجتاح هذه الدولة..    أخصائي في أمراض الشيخوخة: النساء أكثر عُرضة للإصابة بالزهايمر    التشكيلة المنتظرة للترجي في مواجهة صن داونز    تُحذير من خطورة تفشي هذا المرض في تونس..    عاجل : القبض على منحرف خطير محل 8 مناشير تفتيش في أريانة    دورة مدريد : أنس جابر تنتصر على السلوفاكية أنا كارولينا شميدلوفا    أمين قارة: إنتظروني في هذا الموعد...سأكشف كلّ شيء    هرقلة: الحرس البحري يقدم النجدة والمساعدة لمركب صيد بحري على متنه 11 شخصا    وصفه العلماء بالثوري : أول اختبار لدواء يقاوم عدة أنواع من السرطان    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التأصيل المقاصدي لأصول الفقه عند الشاطبي


ملخص وتصميم
كما قدم الشاطبي نظرية متكاملة عن المقاصد الشرعية، وضمنها قسما خاصا للمرة الأولى في الدراسات الأصولية، وهو ما عبر عنه بكتاب المقاصد، فقد قدم نظرية متكاملة في أصول الفقه، أي أنه قدم أصول الفقه بثوب جديد. وفي الآونة الأخيرة اشترك الريسوني مع مجموعة من العلماء في كتابة كتاب هو التجديد الأصولي حاولوا أن يقرؤوا هذا العلم قراءة تجديدية مقاصدية[1]. وقد قدم الشاطبي هذه القراءة منذ زمن طويل وبأسلوب الشاطبي الخاص، وقام بأول تجديد حقيقي في أصول الفقه مكتملا وناجزا.
جدد الشاطبي في أصول الفقه، إن على مستوى التصميم والمادة والشكل والمظهر والجسم الخارجي، وإن على مستوى مضمون المادة ومحتواها. وقد حمل كتابه الأسطورة الموافقات انتقادات مبطنة لأصول الفقه، وذلك تارة بالرمز والإشارة، وتارة باللفظ والعبارة. فلا يذكر القياس بالمعنى المعروف ويذكره بإضافته إلى الأصول فيعبر عنه بالقياس الأصولي. ويقول عن صيغ العموم التي انشغل الأصوليون بها كثيرا وناقشوا فيها كثيرا «لا كلام في أن للعموم صيغا وضعية والنظر في هذا مخصوص بأهل العربية» فموقف الشاطبي من هذه الصيغ والتي يستنفذ فيها الجهد الكبير في الكتب الأصولية المستصفي للغزالي مثلا أن الأصولي لا يبحث في الصيغ بل يأخذ هذه الصيغ من اللغة العربية كمسلمات ويؤسس عليها، ويبني عليها، ولهذا قال الشاطبي أيضا وفي ما يشبه قاعدة بأن الأصولي إذا احتاج إلى مسألة نحوية: «فالذي كان من شأنه أن يأتي بها على أنها مفروغ منها، في علم النحو فيبنى عليها، فإذا أخذ يتكلم فيها وفي تصحيحها وضبطها والاستدلال عليها كما يفعله النحوي صار الإتيان بذلك فضلا زائدا غير محتاج إليه. وكذلك إذا افتقر إلى مسألة عددية فمن حقه أن يأخذها مسلمة ليفرع عليها في علمه، فإن أخذ يبسط القول فيها كما يفعله العددي في علم العدد كان فضلا[2]»
ولتأكيد هذه الدعوى العريضة والدفاع عنها، فقد قصدت في هذا البحيث البسيط والمتواضع، أن أتناول لأول مرة فيما أعلم أصول الفقه عند الشاطبي وقراءته المقاصدية لهذا العلم. تلك القراءة غير مبتورة ولكنها تتناول مجمل أو أكثر المواضيع الأصولية، إنما بقراءة متميزة وخلفية أبيستمائية متنورة. وذلك في المطالب التالية:
المطلب الأول التصميم الذي قدمه الشاطبي لهذا العلم بالمقارنة مع المستصفى نموذجا
المطلب الثاني الأصول الإجمالية
المطلب الثالث القواعد الأصولية
المطلب الرابع الأحكام الشرعية
المطلب الخامس الاجتهاد
المطلب السادس مميزات أصول الفقه عند الشاطبي والتوصيات

المطلب الأول التصميم الذي قدمه الشاطبي لهذا العلم بالمقارنة مع المستصفى نوذجا
على مستوى التصميم والغلاف نقارن على سبيل المثال بين المواضيع والتقسيمات الأصولية في الموافقات مع امثالها في المستصفى. فإن المستصفى للغزالي يمثل الصيغة المتطورة لأصول الفقه عبر عن ذلك سالم يفوت بقوله بأنه يمثل: «قمة الكمال كما يقدم نموذجا في التأليف وحسن الصياغة والعرض والتنظيم للقضايا والموضوعات تنظيما يحترم التسلسل المنطقي»[[3]]. وخطته على مستوى التصميم هي التي سار عليها الرازي في المحصول والآمدي في الإحكام وما هما إلا شرحا للمستصفى. فيتكون هذا التصميم أو العرض الشيق من أربعة موضوعات رئيسية سماها أقطابا فقال: «فإذا جملة الأصول تدور على أربعة أقطاب القطب الأول في الأحكام والبداءة بها أولى لأنها الثمرة المطلوبة القطب الثاني في الأدلة وهي الكتاب والسنة والإجماع وبها التثنية إذ بعد الفراغ من معرفة الثمرة لا أهم من معرفة المثمر القطب الثالث في طريق الاستثمار وهو وجوه دلالة الأدلة وهي أربعة دلالة بالمنظوم ودلالة بالمفهوم ودلالة بالضرورة والاقتضاء ودلالة بالمعنى المعقول القطب الرابع في المستثمر وهو المجتهد الذي يحكم بظنه ويقابله المقلد وقد أضاف إلى القطب الثاني أدلة سماها بالأصول الموهومة وهي أربعة أيضا قول الصحابي والاستحسان والاستصلاح وشرع من قبلنا»[4]
أما الشاطبي فقسم الكتاب حسب الآتي قال: «فصار كتابا منحصرا في خمسة اقسام
الاول في المقدمات العلمية المحتاج اليها في تمهيد المقصود، والثاني في الأحكام وما يتعلق بها من حيث تصورها والحكم بها أو عليها كانت من خطاب الوضع أو من خطاب التكليف والثالث في المقاصد الشرعية في الشريعة وما يتعلق بها من الأحكام والرابع في حصر الأدلة الشرعية وبيان ما ينضاف إلى ذلك فيها على الجملة وعلى التفصيل وذكر مآخذها وعلى أي وجه يحكم بها على أفعال المكلفين والخامس في أحكام الإجتهاد والتقليد والمتصفين بكل واحد منهما وما يتعلق بذلك من التعارض والترجيح والسؤال والجواب»[5]
ويحمل الاختلاف في التصميم اختلافا في الأوليات وبالتالي في المنهجية والرؤية فقد أضاف الشاطبي إلى الدراسة الأصولية قسمين أحدهما المقدمات العلمية في تمهيد المقصود. وهي مقدمات تضاهي المقدمة المنطقية في المستصفى إلا أن الفرق بينهما واضح، فهذه مقدمات علمية Sientifiques وتلك مقدمة منطقية، وشتان بين من يتحدث عن العلم ومن يتحدث عن الفلسفة والمنطق الصوري. فالغزالي اعتبر العقل حاكما على النقل وذلك عندما قال بأن المنطق هو سيد العلوم وخاضعة له ومن لايعرفه لا ثقة له في علمه، بينما نلاحظ أن الشاطبي يتحدث عن مقدمات علمية يقول فيها بالأولوية للنص على العقل فقال: «الأدلة العقلية إذا استعملت في هذا العلم فإنما تستعمل مركبة على الأدلة السمعية أو معينة في طريقها أو محققة لمناطها أو ما أشبه ذلك لا مستقلة بالدلالة لأن النظر فيها نظر في أمر شرعي والعقل ليس بشارع»[6] هناك فرق جوهري وإن كان يأتي في الشكل وهو قسم المقاصد فهذا لم يسبق أن خصص له موضوع مستقل في الكتابات الأصولية، رغم أن الغزالي اهتم في شفاء الغليل بالحديث عن المقاصد وتقسيماتها وعن المصالح وعن أنواعها. أما الفرق الشكلي الأخير فهو أنه في قسم الأدلة لم يتحدث إلا عن الكتاب والسنة ولم يتحدث عن القياس والإجماع و بالأحرى لم يتحدث عن الأصول الموهومة الأخرى. وأخيرا وليس آخرا نلاحظ فرقا جوهريا وإن كان ايضا في التصميم و البناء يتمثل في القواعد الأصولية. فهي عند الغزالي القطب الثالث وأثنى عليها بقوله: « اعلم أن هذا القطب هو عمدة علم الأصول، لأن ميدان سعي المجتهدين في اقتباس الأحكام من أصولها، واجتنائها من أغصانها، إذ نفس الأحكام ليست ترتبط باختيار المجتهدين ورفعها ووضعها، والأصول الأربعة من الكتاب والسنة والإجماع والعقل، لا مدخل لاختيار العباد في تأسيسها وتأصيلها، وإنما مجال اضطراب المجتهد واكتسابه، استعمال الفكر في استنباط الأحكام واقتباسها من مداركها. والمدارك هي الأدلة السمعية ومرجعها إلى الرسول إذ منه يسمع الكتاب أيضا، وبه يعرف الإجماع. والصادر منه من مدارك الأحكام ثلاثة إما لفظ وإما فعل وإما سكوت وتقرير ونرى أن نؤخر الكلام في الفعل والسكوت لأن الكلام فيهما أوجز واللفظ إما أن يدل على الحكم بصيغته ومنظومه أو بفحواه ومفهومه أو بمعناه ومعقوله وهو الاقتباس الذي يسمى قياسا فهذه ثلاثة فنون المنظوم والمفهوم والمعقول[7]». ويري الغزالي أن البحث في هذا القطب الحساس هو البحث في دلالة اللفظ بحسب منظومه وتصريحه. [8]
بينما ذكرها الشاطبي كمكمل للقسم الرابع وهو المتعلق بأدلة الأحكام من القرآن والسنة وذكرها بالإشارة لا بالإسم وسماها عند التعرض لها بعوارض الأدلة. إن ذلك يحمل نقدا مبطنا لهذه القواعد نظرا للطابع الجدلي فيها كما سيتبين في هذه الأثناء .
أما فيما يتعلق بمميزات وخصائص أصول الفقه عند الشاطبي على مستوى المضمون و المحتوى والجواهر، فنلمح معه أنه تناول الأصول والمواضيع الأصولية تناولا لا يمت إلى التناول الأصولي لها، إلا من جهة التسمية والعناوين أما المضامين فإن هذه الأصول أخذت صبغة مقاصدية عقلية ذات معنى وتجريبية تطبيقية، بينما هي عند الأصوليين شكلية فراغية. وذلك ما سأتناوله في المطالب التالية
المطلب الثاني الأصول الإجمالية
1 الأصل الأول القرآن الكريم: يتناول الأصوليون مسائل مثل تعريف القرآن ومسألة البسملة فيه هل هي آية من كل سورة أو هي من سورة النحل فقط وهل هي مع الآية تلوها آية واحدة ويتناولون هنا في هذا الموضوع تردد الشافعي ، وقطع القاضي أبي بكر[9] كما يتناولون الكلمات الأجنبية في القرآن وهذه أمثلة تكفي عن ما وراءها.
أما إذا ذهبنا إلى المخزون الاستراتيجي للمقاصد الشرعية عند الشاطبي، فإننا نلاحظ أن تعامل الشاطبي مع القرآن الكريم لم يحذ فيه حذو الأصوليين، بل تنكب عن مسائلهم ليتناول مسائل أكثر مقاصدية وأقرب إلى استلهام الأحكام منه. فتحدث عن مقاصد القرآن وطرق معرفة المقاصد فيه.
وهكذا نلاحظ للمرة الأولى أن موضوعات القرآن تجاوزت عدد موضوعات السنة في كتاب الموافقات، على خلاف مع ما جرت عليه العادة في أصول الفقه. فقد ذكر الشاطبي مسائل القرآن في أربعة عشر مسألة وذكر مسائل السنة في عشرة مسائل.
فالقرآن عند الشاطبي هو أكبر ملهم للمقاصد الشرعية فقال: « القرآن قد تقرر أنه كلية الشريعة و عمدة الملة، وينبوع الحكمة، وآية الرسالة ونور الأبصار والبصائر ... وإذا كان كذلك لزم ضرورة لمن رام الاطلاع على كليات الشريعة، وطمع في إدراك مقاصدها واللحاق بأهلها أن يتخذه سميره وأنيسه»[[10]]
أما المسألة الثانية فتتعلق بأسباب النزول مصيرا منه إلى أنه ضروري. لأن معرفة مقاصد الكلام تتطلب معرفة أحوال الخطاب وأبعاده وهي نفس الخطاب والمخاطب والمخاطب. يقول الشاطبي: « معرفة أسباب التنزيل لازمة لمن أراد علم القرآن. »[[11]]
وخلافا لما ذهب إليه الأصوليون من أن البيان في القرآن قليل لا كثير، وأنه احتوى على العمومات وهي ظنية في دلالتها، يذهب الشاطبي إلى أن في القرآن البيان لما جاء فيه. و ذلك في قوله: « وعلى هذا لا بد في كل مسألة يراد تحصيل علمها على أكمل الوجوه، أن يلتفت إلى أصلها في القرآن، فإن وجدت منصوصا على عينها أو ذكر نوعها أو جنسها فذلك. وإلا فمراتب النظر فيها متعددة لعلها تذكر بعد في موضعها إن شاء الله، وقد تقدم في القسم الأول من كتاب الأدلة قبل هذا أن كل دليل شرعي فإما مقطوع به أو راجع إلى مقطوع به، وأعلى المقطوع به القرآن الكريم فهو أول مرجوع إليه » [[12]]
أما المقاصد الشرعية في القرآن فلا شك ولا ريب أن القرآن هو المصدر الأول للمقاصد الشرعية. ذلك أن الضروريات والحاجيات والتحسينيات اشتمل عليها ونبه عليها و أقام الدليل عليها.
وقد تحدث الشاطبيي عن مقاصد القرآن. كما تحدث عن طرق استخراج الأحكام منه فقال: «إعمال الرأي في القرآن جاء ذمه. و جاء أيضا ما يقتضي إعماله ... و القول فيه أن الرأي ضربان. أحدهما: جار على موافقة كلام العرب، وموافقة الكتاب والسنة، فهذا لايمكن إهمال مثله لعالم بهما لأمور أحدها: أن الكتاب لا بد من القول فيه ببيان معنى واستنباط حكم وتفسير لفظ وفهم مراد، ولم يأت جميع ذلك عمن تقدم. فإما أن يتوقف دون ذلك، فتتعطل الأحكام كلها أو أكثرها، وذلك غير ممكن فلا بد من القول فيه بما يليق. و الثاني أنه لو كان كذلك للزم أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم مبينا ذلك كله بالتوقيف. فلا يكون لأحد فيه نظر ولا قول. والمعلوم أنه عليه الصلاة والسلام لم يفعل ذلك فدل على أنه لم يكلف به على ذلك الوجه، بل بين منه ما لا يوصل إلى علمه وترك كثيرا مما يدركه أرباب الاجتهاد باجتهادهم. فلم يلزم في جميع القرآن التوقف. والثالث أن الصحابة كانوا أولى بهذا الاحتياط من غيرهم، وقد علم أنهم فسروا القرآن على ما فهموا، و من جهتهم بلغنا تفسير معناه والتوقيف ينافي هذا فإطلاق القول بالتوقيف و المنع من الرأي لا يصح».[[13]]
2 الأصل الثاني السنة: والسنة في الأصول ليست أحسن حالا من القرآن من حيث دورانها على مواضيع من علم الحديث لا من علم الأصول قال الغزالي: :« اشتمل الكلام في هذا الأصل على مقدمة وقسمين: قسم في أخبار التواتر وقسم في أخبار الآحاد، ويشتمل كل قسم على أبواب[14]» والموضوعات المطروقة فيهما هي موضوعات في علوم الحديث مثل شروط العدالة وصفة الراوي، وطرق ثبوت الخبر المتواتر والآحاد وبعضها يتعلق ببحوث ليست لها نتائج عملية. مثل البحث فيما إذا كان الرسول مجتهدا فيما يصدر عنه من الأحاديث المتضمنة للأحكام؟ و مثل البحث فيما إذا كان متعبدا بشرع سابق؟.
و يظهر ذلك عندما نقارن ذلك بتناول الشاطبي للسنة. حيث نلحظ هناك الرجوع إلى المنهج الشافعي في البحث في ترتيب العلاقة بينها و بين القرآن من أجل المطالب العملية. ذلك أن تلك العلاقة هي التي تحدد ما سيؤول إليه البحث الشرعي في نهاية المطاف.
ففي كتاب الرسالة أبواب وفصول عن الدفاع عن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم و أنها هي البيان للقرآن الكريم وقدم أمثلة بيان السنة للقرآن حتى يكون البحث علميا . قال الشافعي: « وأي هذا كان فقد بين الله أنه فرض فيه طاعة رسوله، ولم يجعل لأحد من خلقه عذرا بخلاف أمر عرفه من أمر رسول الله، وأن قد جعل الله بالناس الحاجة إليه في دينهم، وأقام عليهم حجته بما دلهم عليه من سنن رسول الله، معاني ما أراد الله بفرائضه في كتابه، ليعلم من عرف هذا، ما وصفنا أن سنته صلى الله عليه وسلم إذا كانت سنة مبينة عن الله معنى ما أراد، من مفروضه فيما فيه كتاب يتلونه، وفيما ليس فيه نص كتاب، فهي كذلك إن كانت، لا يختلف حكم الله ثم حكم رسوله بل هو لازم بكل حال[15]».
وقد تناول الشاطبي بشيء من التفصيل هذه العلاقة البيانية محاولا أن يعيد ترتيب هذه العلاقة ليكون القرآن المصدر الأول لا في الجواز العقلي فقط، و إنما أيضا في الواقع الفعلي. يقول الشاطبي: « رتبة السنة التأخر عن الكتاب في الاعتبار». ويقول: «فالجواب أن قضاء السنة على الكتاب ليس بمعنى تقديمها عليه واطراح الكتاب، بل إن ذلك المعبر عنه هو المراد في الكتاب، فكأن السنة بمنزلة التفسير و الشرح لمعاني أحكام الكتاب. ودل على ذلك قوله: (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)[16] فإذا حصل بيان قوله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا)[17] بأن القطع من الكوع، وأن المسروق نصاب فأكثر من حرز مثله، فذلك هو المعنى المراد من الآية. لا أن نقول إن السنة أثبتت هذه الأحكام دون الكتاب، كما إذا بين لنا مالك أو غيره من المفسرين معنى آية أو حديث فعملنا بمقتضاه، فلا يصح لنا أن نقول إنا عملنا بقول المفسر الفلاني دون أن نقول عملنا بقول الله وقول رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهكذا سائر ما بينته السنة من كتاب الله تعالى، فمعنى كون السنة قاضية على الكتاب أنها مبينة له فلا يوقف مع إجماله واحتماله وقد بينت المقصود منه لا أنها مقدمة عليه[18]»
كما اعتنى في السنة بالكشف عن حضور المحافظة على المصالح فيها فقال: « ومنها أي وجوه بيان السنة للقرآن النظر إلى ما دل عليه الكتاب في الجملة، وأنه موجود في السنة على الكمال زيادة إلى ما فيها من البيان والشرح. وذلك أن القرآن الكريم أتى بالتعريف بمصالح الدارين جلبا لها، والتعريف بمفاسدها دفعا لها. وقد مر أن المصالح لا تعدو الثلاثة الأقسام. وهي الضروريات ويليها مكملاتها والحاجيات ويضاف إليها مكملاتها والتحسينيات ويليها مكملاتها. ولا زائد على هذه الثلاثة المقررة في كتاب المقاصد. وإذا نظرنا إلى السنة وجدناها لا تزيد على تقرير هذه الأمور. فالكتاب أتى بها أصولا يرجع إليها، والسنة أتت بها تفريعا على الكتاب وبيانا لما فيه منها فلا تجد في السنة إلا ما هو راجع إلى تلك الأقسام».
ويقول أيضا: « فالضروريات الخمس كما تأصلت في الكتاب، تفصلت في السنة فإن حفظ الدين حاصله في ثلاث معان، و هي: الإسلام والإيمان والإحسان، فأصلها في الكتاب وبيانها في السنة. ومكمله ثلاثة أشياء وهي الدعاء إليه بالترغيب والترهيب وجهاد من عانده او رام افساده وتلافي النقصان الطارئ في أصله. و أصل هذه في الكتاب وبيانها في السنة على الكمال».
المطلب الثالث القواعد الأصولية
1 الناسخ والمنسوخ لقد أقر علماء الشريعة بوجود النسخ في الشريعة. قال الغزالي: « اتفقت الأمة على إطلاق النسخ في الشرع».[[19]] وقال عبد الوهاب خلاف : « فقد اقتضت سنة التدرج بالتشريع و مسايرته المصالح، نسخ بعض الأحكام التي وردت فيهما يعنى القرآن والسنة ببعض نصوصهما نسخا كليا أو جزئيا »[20] وتتفاوت آراء العلماء في عدد الناسخ والمنسوخ من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية فهناك من يوسع النسخ ليجعل تخصيص العام وتقييد المطلق نسخا. وهناك من يختصره. وقد عرفه الغزالي بقوله : «الخطاب الدال المتقدم على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم، على وجه لولاه لكان ثابتا مع تراخيه عنه»[21]
أما الشاطبي فقال بأن الشريعة جاءت بالإيمان بالله واليوم الآخر وبمكارم الأخلاق كالعدل والإحسان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهذه أصول ومقاصد لا يمكن رفعها. وإذا كان ابن حزم قد قال: اعلم أن نزول المنسوخ بمكة كثير ونزول الناسخ بالمدينة قليل. فإن الشاطبي يخالفه ويقول بأن النزول المدني يكمل النزول المكي ولا يلغيه. كما أن الجزئيات تكمل كليلتها والكليات تحافظ على جزئياتها. ويتمحور موقف الشاطبي في هذا الموضوع برفض النسخ أو على الأقل التحديد منه إلى أقصى درجة فقال: « لما تقرر أن المنزل بمكة من أحكام الشريعة هو ما كان من الأحكام الكلية، والقواعد الأصولية في الدين على غالب الأمر اقتضى ذلك أن النسخ فيها قليل لا كثير: لأن النسخ لا يكون في الكليات وقوعا وإن أمكن عقلا ويدل على ذلك الاستقراء التام. وأن الشريعة مبنية على حفظ الضروريات و الحاجيات والتحسينيات، وجميع ذلك لم ينسخ منه شيء بل إنما أتى بالمدينة ما يقويها ويحكمها ويحصنها، و إذا كان كذلك لم يثبت نسخ لكلي البتة. ومن استقرى كتب الناسخ والمنسوخ تحقق هذا المعنى. فإنما يكون النسخ في الجزئيات منها و الجزئيات المكية قليلة، وإلى هذا فإن الاستقراء يبين أن الجزئيات الفرعية التي وقع فيها الناسخ والمنسوخ بالنسبة إلى ما بقي محكما قليلة» .
ويرى الشاطبي أن المقاصد الشرعية التي يجب حمل الأدلة عليها ليس فيها نسخا فقال: القواعد الكلية من الضروريات والحاجيات و التحسينيات لم يقع فيها نسخ وإنما وقع النسخ في أمور الجزئية بدليل الاستقراء. فإن كل ما يعود بالحفظ على الأمور الخمسة ثابت و أن فرض نسخ بعض جزئياتها فذلك لايكون إلا بوجه آخر من الحفظ . وإن فرض النسخ في بعضها إلى غير بدل فأصل الحفظ باق إذ لا يلزم من رفع بعض أنواع الجنس رفع الجنس.
هذا من جهة ومن جهة ثانية فإن هذه المقاصد جاءت المحافظة عليها في الملل الأخرى. و إذا حفظت في تلك الملل كان حفظها والمحافظة عليه في الشريعة أولى. يقول الشاطبي: « فإذا كانت تلك الشرائع قد اتفقت في الأصول مع وقوع النسخ فيها وثبتت ولم تنسخ فهي في الملة الواحدة الجامعة لمحاسن الملل أولى والله أعلم»[[22]]
2 الأوامر والنواهي: تمثل الأوامر والنواهي قاعدة لا تقل أهمية عن قاعدة العموم والخصوص. لأنها حسب الرازي هي النظر في الأدلة في ذاتها فقال عن النظر في الأدلة النقلية: « إما أن يكون النظر في ذاتها، وهي الأوامر والنواهي، وإما عوارضها وإما بحسب متعلقاتها من العموم والخصوص». ونرى الكثير من الأصوليين يقدمون هذه القاعدة كالسرخسي الذي قدمها لأنها حسب رأيه سبب الابتلاء. وقد تناول الأصوليون هذه القاعدة تناولا إشكاليا، ففصلوا بين الأمر والإرادة فأدى ذلك إلى أن الأوامر غير مرادة التحقق و النواهي غير مرادة الاجتناب. فقد يأمر الآمر بما لا يريد ويريد ما لا يأمر به ومن لم يقتنع بذلك فإن الغزالي يهدد باستخدام أسلحة الدمار الشامل لأنه حل للمسألة بغير ذلك. فقال: « قد يأمر السيد عبده بما لا يريد كالمعاتب من جهة السلطان على ضرب عبده، إذا مهد عنده عذره لمخالفة أوامره، فقال له بين يدي الملك: أسرج الدابة؟ وهو يريد أن لا يسرج إذ في إسراجه خطر وإهلاك للسيد فيعلم أنه لا يريد وهو أمر إذ لولاه لما كان العبد مخالفا، ولما تمهد عذره عند السلطان وكيف لا يكون آمرا وقد فهم العبد والسلطان والحاضرون منه الأمر، فدل أنه يأمر بما لا يريده هذا منتهي كلامهم ، وتحته غور لو كشفناه لم تحتمل الأصول التفصي عن عهدة ما يلزم منه ولتزلزلت به قواعد لا يمكن تداركها إلا بتفهيمها على وجه يخالف ما سبق إلى أوهام أكثر المتكلمين، والقول فيه يطول ويخرج عن خصوص مقصود الأصول»[23] .كما انشغل الأصوليون بالبحث عن صيغ الأوامر و النواهي وتحدثوا عن مسائل أخرى قليلة النيل طويلة الذيل كبحثهم فيما إذا كان الأمر للمرة الواحدة أو للكثرة وفيما إذا كان للفور أم للتراخي وقد تجاوز الشاطبي هذه المواضيع مصيرا منه إلى أنها خاصة بأهل اللغة فهم من يقرر الحقيقة فيها وما توصلوا إليه يأخذه الأصولي كمسلمات
لقد تناول الشاطبي هذه القاعدة تناولا مقاصديا. فقال بالتلازم بين الأمر والإرادة ليكتسب الأمر قيمة عملية وذلك بتمييزه بين نوعين من الإرادة وهما إرادة التكوين و إرادة التشريع.
قال الشاطبي: «الأمر والنهي يستلزم طلبا وارادة من الآمر. فالأمر يتضمن طلب المأمور به وارادة ايقاعه . والنهي يتضمن طلبا لترك المنهي عنه وارادة لعدم ايقاعه ومع هذا ففعل المأمور به، وترك المنهي عنه يتضمنان أو يستلزمان ارادة بها يقع الفعل أو الترك أولا يقع »
أما فيما يتعلق بالصيغ اللفظية فهي صالحة للتحديد ولكن في درجة ثانية فقال: « الأوامر و النواهى ضربان صريح وغير صريح. فأما الصريح فله نظران: احدهما من حيث مجرده لا يعتبر فيه علة مصلحية وهذا نظر من يجري مع مجرد الصيغة مجرى التعبد المحض من غير تعليل فلا فرق عند صاحب هذا النظر بين نهي ونهي، كقوله: أقيموا الصلاة مع قوله: اكلفوا من العمل مالكم به طاقة. وقوله: (فاسعوا الى ذكر الله) مع قوله: (وذروا البيع) وقوله: ولا تصوموا يوم النحر مثلا، مع قوله: لا تواصلوا. وما أشبه ذالك مما يفهم فيه التفرقة بين الأمرين. وهذا نحو ما في الصحيح انه عليه الصلاة والسلام خرج على ابي بن كعب وهو يصلي، فقال عليه الصلاة والسلام: يا أبي؟ فالتفت اليه ولم يجبه وصلى فخفف، ثم انصرف. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبي ما منعك ألا تجيبني إذ دعوتك؟ فقال: يارسول الله كنت أصلى، فقال أفلم تجد فيما أوحي إلي (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)[[24]] قال: بلى يا رسول الله و لا أعود ان شاء الله ... وكثير من الناس فسخوا البيع الواقع في وقت النداء لمجرد قوله تعالى: (وَذَرُوا الْبَيْعَ)[[25]] وهذا وجه من الاعتبار يمكن الانصراف إليه والقول به عاما وإن كان غيره أرجح منه وله مجال من النظر منفسح. ...
و الثاني من النظرين هو من حيث يفهم من الأوامر و النواهي قصد شرعي، بحسب الاستقراء وما يقترن به من القرائن الحالية أو المقالية الدالة على أعيان المصالح في المأمورات، و المفاسد في المنهيات. فإن المفهوم من قوله: (أقيموا الصلاة) المحافظة عليها والإدامة لها ومن قوله { اكلفوا من العمل ما لكم به طاقة } الرفق بالمكلف خوف العنت أو الانقطاع لا أن المقصود نفس التقليل من العبادة أو ترك الدوام للتوجه لله. وكذلك قوله: (فاسعوا إلى ذكر الله) مقصوده الحفظ على إقامة الجمعة وعدم التفريط فيها وليس الأمر بالسعي إليها فقط. و قوله: (وذروا البيع) جار مجرى التوكيد لذلك بالنهي عن ملابسة الشاغل عن السعي لا أن المقصود النهي عن البيع مطلقا في ذلك الوقت على حد النهي عن بيع الغرر أو بيع الربا أو نحوهما. وكذلك إذا قال لا تصوموا يوم النحر المفهوم منه مثلا قصد الشارع إلى ترك ايقاع الصوم فيه خصوصا .
وقد أعطى الأولوية لمقاصد الأدلة لأن ذلك هو شأن الخطاب العربي فإنما ركبوا الألفاظ للمحافظة على المعاني. وهذا هو مقتضى النظر المقاصدي. قال الشاطبي: « و أيضا فالأوامر و النواهي من جهة اللفظ على تساو في دلالة الاقتضاء والتفرقة بين ما هو منها أمر وجوب أو ندب وما هو نهي تحريم أو كراهة، لا تعلم من النصوص وإن علم منها بعض فالأكثر منها غير معلوم، وما حصل لنا الفرق بينها إلا باتباع المعاني و النظر إلى المصالح و في أي مرتبة تقع بالاستقراء المعنوي ولم نستنج فيه لمجرد الصيغة و إلا لزم في الأمر أن لايكون في الشريعة إلا على قسم واحد لا على أقسام متعددة. والنهي كذلك. بل نقول كلام العرب على الاطلاق لا بد فيه من اعتبار معنى المساق في دلالة الصيغ و إلا صار ضحكة وهزءة. ألا ترى إلى قولهم فلان أسد أو حمار أو جبان كالكلب وفلانة بعيدة مهوى القرط وما لا ينحصر من الأمثلة لو اعتبر اللفظ لمجرده لم يكن له معنى معقول فما ظنك بكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم»[[26]]
3 العموم و الخصوص وهو قاعدة عظيمة من بين القواعد الأصولية. و أرجع الطوفي مباحث علم أصول الفقه إلى العام و الخاص. كما أرجع مباحث أصول الدين إلى قاعدة القدر. فقال: « إذا عرفت ذلك فاعلم أن في أصول الدين قاعدة عظيمة عامة و هي قاعدة القدر، و قد كنت أفردت فيها تأليفا. و في أصول الفقه، قاعدة كذلك، وهي قاعدة العموم والخصوص، و قد كنت عزمت أن افردها بتأليف لكن رأيت إدراجها في هذا الإملاء»[27] و ألف القرافي كتابه العقد المنظوم في الخصوص و العموم. وأشار الجابري إلى أهمية هذا الموضوع فقال: « أبواب العموم و الخصوص، في دلالة الألفاظ وهو أكبر أبواب الأبحاث اللغوية الأصولية »[28]
ويتناول الأصولين هذه القاعدة تناولا نظريا ويبحثون إشكاليات شكلية يبدأ الكلام فيها بالاختلاف وينتهي بالاتفاق. و يتطرق الأصوليون في هذه القاعدة إلى مسائل منها سؤالهم هل العموم من عوارض الألفاظ أم من عوارض المعاني؟ وهل العرب وضعوا صيغا للعموم؟ وإذا كان الجواب نعم فما هي هذه الصيغ؟ وما عددها ثم ما هو مصير العموم إذا دخله التخصيص هل يبقى حقيقة في الباقي أم يصير مجازا ؟ وما هي المخصصات المتصلة والمنفصلة ؟ وهل يخصص خبر الواحد عموم القرآن وهل الخطاب العام موجه إلى النساء و العبيد؟ وما هو حكم من سمع العموم ولم يسمع التخصيص ؟ وما هو القدر الذي يتوقف عليه الباحث في طلب المخصصات ؟
وهذه كلها عناوين وموضوعات لم يرق للشاطبي البحث فيها. فانطلق بما يعارضها وهو أن العموم هو حقيقة وليس ظنا وأنه من عوارض المعاني لا من عوارض الألفاظ. فقال في البداية: « ولا بد من مقدمة تبين المقصود من العموم والخصوص ههنا والمراد العموم المعنوي كان له صيغة مخصوصة أولا، فإذا قلنا في وجوب الصلاة أو غيرها من الواجبات أو تحريم الظلم أو غيره إنه عام فإنما معنى ذلك أن ذلك ثابت على الإطلاق والعموم بدليل فيه صيغة عموم أولا. بناء على أن الأدلة المستقبلية هنا إنما هي الاستقرابية المحصلة بمجموعها القطع بالحكم»[29] وكما رفض أن تكون الأوامر ليست أوامر رفض أيضا أن تكون العمومات ليس عمومات فهي كما سيظهر عمومات وقواعد صادقة اليقين . وذلك على شرط أن نجريها حسب مقاصدها التي تتنوع تنوع الخطاب لا أن نجمد بها على ألفاظ جامدة ومتجمدة.
لقد تناول الأصوليون العمومات باعتبار أن معانيها تتحدد بحسب اللغة وما كل اللغة بل الدلالة الإفرادية للفظ، أما الشاطبي فقد تناول الدلالة التركيبية للفظ وهو ما سماه بالمقاصد و الاستعمال. وراح يدافع عن هذا الموقف مؤكدا أنه يحمل قراءة جديدة لهذا الموضوع تجعل التساؤل مطروحا فيما إذا كان علم اصول الفقه كله باطلا انتهى كلامه. لأن القاعدة التي بني عليها باطلة وما بني على باطل فهو باطل. في هذا الموضوع يرى الشاطبي أن وراء الدلالة اللغوية دلالة مقصدية هي التي يتفاوت الناس في إدراكها وهي التي تقررت في سور القرآن بحسب تقرير قواعد الشريعة وهذه الدلالة المقصدية حقيقية لا مجازية.
يرى الأصوليون أن قول الله: (يا أيها الناس) وقوله (الذين قال لهم الناس) كل ذلك يعنى العموم أي جميع الناس وأوردوا آيتين حملها العرب والصحابة على هذا المعنى للعموم وهما قوله تعالى: (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم) فقال ابن الزبعري أنا أخصم لكم محمدا فقال فقد عبدت الملائكة و المسيح وقوله تعالى: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) فقال الصحابة أينا لم يظلم نفسه فقرر القرآن هذا الفهم ثم جاء بالتخصيص لا حقا ويرى الشاطبي أن هذا ليس مبررا. أما اعتراض ابن الزبعري فهو لحداثة سنه وغلبة الهوى عليه لأن ما لما لا يعقل فكيف تشمل الملائكة و المسيح و الخطاب أيضا موجه للعرب ولم يكونوا يعبدون الملائكة و لا المسيح. أخا أعتراض الصحابة فذلك عند بداية نزول الإسلام قبل تقرير قواعد الشريعة و أيضا يوجد منهم الطارئ للإسلام يقول الشاطبي: «فلا مانع من توقف بعض الصحابة في بعض ما يشكل أمره ويغمض وجه القصد الشرعي فيه، حتى إذا تبحر في إدراك معاني الشريعة نظره واتسع في ميدانها باعه زال عنه ما وقف من الإشكال، واتضح له القصد الشرعي علي الكمال».[30]
العمومات ليست ظنية وإنما هي حقائق صادقة اليقين، أو قواعد صادقة العموم حسب تعبيره. مثلها في ذلك مثل العمومات اللغوية وهذه يعرفها علماء اللغة وتلك يعرفها علماء المقاصد. يقول عن المقصود الشرعي أنه محمول باللغة لكن لا يعنى معرفته التوقف على علم اللغة فقال: «وهذا الوضع وإن كان قد جيء به مضمنا في كلام العرب إلا أن له مقاصد تختص به يختص بها العارفون بمقاصد الشارع كم أن الأول أي الوضع و المقصود العربي يختص به العارفون بمقاصد العرب». انتهى من كلامه. وعلماء المقاصد الشرعية هدفهم هو: « بيان لعمومات تلك النصوص كيف وقعت في الشريعة، وأن ثم قصد آخر سوى القصد العربي لا بد من تحصيله وبه يحصل فهمها وعلى طريق يجري سائر العمومات»«[31]
وهذا يعنى أن تخصيص العموم لا يعني الإخراج بعد الدخول بل يعني الكشف عن حقيقة ذلك العموم، و أن ما تناوله أولا هو ما تناوله أخيرا لكن ذلك التناول هو عملية استكشافية و ليست معطى لغويا ناجزا.
لقد سبق للطوفي في الإشارات الإلهية أن كتب هذا الكتاب في العموم. و الغرض من ذلك هو قوله: « فنحن إن شاء الله عز وجل كلما مررنا بلفظ عام وجهنا عمومه إن احتاج إلى ذلك ثم بينا أنه باق على عمومه .. وفي ذلك فوائد جمة كل ذلك بحسب الإمكان إن شاء الله عز وجل وهو المستعان»[32] وهذا هو موقف الشاطبي من العموم فهو بيان لجهة العموم يقول الشاطبي بأن التخصيص هو: « بيان فقه الجزئيات من الكليات العامة لا أنه على حقيقة التخصيص عند الأصوليين»
المطلب الخامس الأحكام الشرعية
تأتي الأحكام في صدارة المباحث الأصولية، وقدمها الغزالي في المستصفى فقال: والبداءة بها أولى لأنها الثمرة المطلوبة، وقد تناول الأصوليون تناولا إشكاليا يبتعد عن الغايات و المعاني والمقاصد. أما الشاطبي فتناولها تناولا مقاصديا فقال: : « الأحكام الخمسة إنما تتعلق بالأفعال والتروك بالمقاصد، فإذا عريت عن المقاصد لم تتعلق بها والدليل على ذلك أمور:
أحدها: هو ما ثبت من أن الأعمال بالنيات، وهو أصل متفق عليه في الجملة. والأدلة عليه لا تقصر عن مبلغ القطع. ومعناه أن مجرد الأعمال من حيث هي محسوسة فقط غير معتبرة شرعا على حال، إلا ما قام الدليل على اعتباره في باب الوضع خاصة. أما في غير ذلك فالقاعدة مستمرة، و إذا لم تكن معتبرة حتى تقترن بها المقاصد كان مجردها في الشرع بمثابة حركات العجماوات والجمادات. و الأحكام الخمسة لا تتعلق بها عقلا ولا سمعا فكذلك ما كان مثلها.
و الثاني ما ثبت من عدم اعتبار الأفعال الصادرة من المجنون والصبي والمغمى عليه وأنها لا حكم لها في الشرع..
و الثالث الإجماع على أن تكليف ما لا يطاق غير واقع في الشريعة. وتكليف من لا قصد له تكليف ما لا يطاق»[[33]] هذه القاعدة تكر على الأحكام عند الأصوليين بالترشيد و التسديد حيث اختفلوا في مسائل أحكامية لا معنى للخلاف فيها إذا عرضت على المقاصد حيث سيظهر الحكم فيها لكل ذي عينين.
1 وقد تناول فيه الأصوليون مجموعة المسائل والتفريقات المتفرقة، مثل قولهم ينقسم الواجب إلى ضيق وواسع وقولهم ينقسم الواجب إلى معين ومبهم. ومثل بحثهم في الواجب المختلط مثل الصلاة في الدار المغصوبة، ويتناول الأصوليون في هذا الموضوع الأسبقية بين الكفائي والعيني. تناول الشاطبي هذا الموضوع بإدال الناحية المقاصدية فيه فكان من نائج ذلك تكثير الأمثلة وتنوعها. فأمثلة الواجب هي الصلاة و الزكاة والحج والصوم. ورغم أهميتها فقد اضاف الشاطبي واجبات أخرى لاتأتي في الكتب الأصولية إلا نادرا، مثل: العدل والإحسان والو فاء بالعهد وأخذ العفو من الأخلاق والإعراض عن الجاهل، والصبر والشكر، ومواساة ذي القربى والمساكين، والفقراء والاقتصاد في الإنفاق ، والإمساك ، والدفع بالتي هي أحسن، والخوف والرخاء، الانقطاع إلى الله، والتوفية في الكيل والميزان واتباع والصراط المستقيم، والذكر لله وعمل الصالحات ، والاستقامة والاستجابة لله، والخشية والصفح، و وخفض الجناح للمؤمنين، والدعاء إلى سبيل الله ، والدعاء للمؤمنين، والإخلاص والتفويض والإعراض عن اللغو، وحفظ الأمانة، وقيام الليل والدعاء ....[34]
وتفرد الشاطبي في هذا الموضوع بالحديث عن الواجب بالكل وواجب بالجزء، فقال: « العلماء إنما أطلقوا الواجب من حيث النظر الجزئي[35]» مثل وجوب صلاة الظهر، وصلاة الجمعة، أما الواجب الكلي فيعني تأثير العدد على الواجب، فإن القيام به مرة واحدة ليس كالمواظبة عليه، وتركه مرة واحدة، ليس كإهماله الزمن كله، ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: « من ترك الجمعة ثلاث مرات طبع الله على قلبه[36]»
كما تعرض الأصوليون إلى الواجب الكفائي و الواجب العيني ولكنهم أهملوا عاملا أساسيا هي جهة الفاعل أي أنهم جردوا النظر في البحث ولم ينزلوا إلى الإمكانات و الواقع فالواجب الكفائي يسقط في حالة قيام البعض لكن هذا البعض غير متعين وهو قصور واضح في النظر، قال الرازي: «إن البعض معين عند الله تعالى مبهم عندنا»[[37]].
يقول الشاطبي: « طلب الكفاية يقول العلماء بالأصول أنه متوجه إلى الجميع. لكن إذا قام به بعضهم سقط عن الباقين. وما قالوه صحيح من جهة كلي الطلب، وأما من جهة جزئيه ففيه تفصيل. وينقسم أقساما و ربما يتشعب تشعبا طويلا، وليكن الضابط للجملة من ذلك أن الطلب وارد على البعض ولا على البعض كيف كان، ولكن على من فيه أهلية القيام بذلك المطلوب لا على الجميع عموما».[[38]] وينتهي التحليل عند الشاطبي أن الواجب الكفائي غير. والدليل على ذلك قوله: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ)[39] الآية. فورد التخصيص على طائفة لا على الجميع. وقوله: ( وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ) [40] الآية إلى آخرها. وفي القرآن من هذا النحو أشياء كثيرة ورد الطلب فيها نصا على البعض لا على الجميع. و الثاني ما ثبت من القواعد الشرعية القطعية في هذا المعنى كالإمامة الكبرى أو الصغرى. فإنها إنما تتعين على من فيه أوصافها المرعية لا على كل الناس. و سائر الولايات بتلك المنزلة إنما يطلب بها شرعا باتفاق من كان أهلا للقيام بها و الغناء فيها. وكذلك الجهاد حيث يكون فرض كفاية إنما يتعين القيام به على من فيه نجدة وشجاعة، و ما أشبه ذلك من الخطط الشرعية إذ لا يصح أن يطلب بها من لايبدئ فيها و لا يعيد. فإنه من باب تكليف ما لا يطاق. و من باب العبث بالنسبة إلى المصلحة المجتلبة أو المفسدة المستدفعة و كلاهما باطل شرعا».
2 المباح من الغريب أن هذا الموضوع هو ما استفتح به الشاطبي كتاب الأحكام ولم يكن ذلك ضربة لازب بل كان يخفى وراءه مكانة هذا الباب في بناء الأحكام الشرعية وتوسيعها. ويمثل المباح عند ابن حزم ما يمثله القياس و الاستصلاح وكافة الأصول الأخرى عند غيره. يقول ابن حزم: « لما أنزل الله الشرائع فما أمر به فهو واجب، وما نهي عنه فهو حرام، وما لم يأمر به، ولا نهي عنه فهو مباح مطلق حلال كما كان[41]» ويتلخص موقف الشاطبي هنا بالدفاع عن المباح، وأنه أقرب إلى أن يكون مثابا على فعله على نحو موقف الكعبي. وذلك بعد أن عرض هذا الموضوع على الطريقة الجدلية وهي الأطروحة ويمثلها موقف الكعبي القائل بأن المباح مأمور به إذ في القيام به ترك للحرام، ونقيض الأطروحة ويمثله بعض الفقهاء، والمتصوفة الذين يرون في الانتهاء عنه بعدا عن المحرمات كحاجز، أما التركيب فهو توفيق بين الموقفين المعارضين.
3 السبب
لقد تناول الأصوليون هذا الموضوع تناولا جافا. وذكره الغزالي في أربعة فنون قصيرة جدا يطبعها الطابع الجدالي. ففي الفن الأول تناول الأسباب بالتعريف والأمثلة كقوله تعالى: (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ)[42] وقوله تعالى: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)[43] فهما سببين للصلاة والصوم. وأما قسم المعاملات فلحل الأموال والإبضاع وحرمتها أيضا أسباب ظاهرة من نكاح وبيع وطلاق وغيره. ورغم أهمية هذا الكلام لكن الغزالي كان مهموما بالنظر الكلامي. فغلب عليه ذلك الاتجاه على النظر المقاصدي لذلك نراه يقول بأن هذه المسائل ظاهرة أي بسيطة. ليصرف الاهتمام إلى البحث عن ارتباط الأسباب بالمسببات. فقال: « فإن السبب في الوضع عبارة عما يحصل الحكم عنده لا به ولكن هذا يحسن في العلل الشرعية، لأنها لا توجب الحكم لذاتها، بل بإيجاب الله تعالى ولنصبه هذه الأسباب علامات لإظهار الحكم. فالعلل الشرعية في معنى العلامات المظهرة فشابهت ما يحصل الحكم عنده. وأمثلة ذلك أن التردية ليست سببا للهلاك».
لكن الشاطبي رغم هذا يقدم نظريات جديدة في هذا الموضوع تتخلص في النقاط التالية:
تلازم الأسباب مع المسببات مما يؤكده العقل و النقل. فالسبب إذا لم يكن لغاية كان عبثا، والشارع لم يضع الأسباب إلا ويقصد منها مسبباتها التي هي جلب المصالح ودرأ المفاسد. قال الشاطبي: « وأدلته في الشرع كثيرة بالنسبة إلى الأسباب المشروعة والممنوعة. كقول الله تعالى: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ) إلى قوله (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا)[44] وفي الحديث { ما من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها } لأنه أول من سن القتل وفيه { من سنة حسنة كان له أجرها و أجر من عمل بها } وكذلك { من سن سنة سيئة} وفيه: { أن الولد لوالديه ستر من النار وأن من غرس غرسا كان ما أكل منه له صدقة وما سرق منه له صدقة وما أكل السبع فهو له صدقة وما أكلت الطير فهو له صدقة و لا يرزأه أحد إلا كان له صدقة} وكذلك الزرع».
أما الأدلة العقلية فإن الفصل بينهما يفقد العمل أو السبب هنا قيمته. فإن العلماء قاطعون بأن الأسباب لم تكن أسبابا لأنفسها من حيث هي موجودات فقط، بل من حيث ينشأ عنها أمور أخر، وإذا كان كذلك لزم من القصد إلى وضعها أسباب القصد إلى ما ينشا عنها من المسببات.
الدليل العقلي الثاني هو أن الأسباب في جانبها التكليفي مثل كون النكاح سببا في حصول التوارث بين الزوجين. وتحريم المصاهرة وحلية الاستمتاع والذكاة سببا لحلية الانتفاع بالأكل، و السفر سببا في إباحة القصر والفطر والقتل والجرح سببا للقصاص إنما شرعت لتحقيق المقاصد ودرإ المفاسد. يقول الشاطبي: « فمن المعلوم من الشريعة أنها شرعت لمصالح العباد فالتكليف كله إما لدرإ المفسدة و إما لجلب المصلحة أو لهما معا ». ويتساءل الشاطبي فيما إذا كان هذا التلازم في جميع الأحكام العادية و العبادية أم لا؟ فإن الذي يظهر لبادئ الرأي أن قصد المسببات لازم في العاديات لظهور وجوه المصالح فيها بخلاف العبادات فإنها مبنية على عدم معقولية المعنى. فهنالك يستتب عدم الالتفات إلى المسببات. لأن المعاني المعلل بها راجعة إلى جنس المصالح أو المفاسد وهي ظاهرة في العاديات وغير ظاهرة في العبادات وإذا كان كذلك فالالتفات إلى المسببات و القصد إليها معتبر في العاديات و لاسيما في المجتهد فإن المجتهد إنما يتسع مجال اجتهاده بإجراء العلل والالتفات إليها» [[45]]
المطلب السادس الاجتهاد
1 المجتهد وشروطه: وإذا كان هاجس الأصوليين هو الامتلاء بالنصوص حيث قال الغزالي في بداية كلامه عن الاجتهاد: « الركن الثاني المجتهد وله شرطان أحدهما أن يكون محيطا بمدارك الشرع متمكنا من استثارة الظن بالنظر فيها، وتقديم ما يجب تقديمه وتأخير ما يجب تأخيره، والشرط الثاني أن يكون عدلا مجتنبا للمعاصي القادحة في العدالة». فإن هاجس الشاطبي كان معرفة المقاصد فقال: « إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين أحدهما فهم مقاصد الشريعة على كماله. و الثاني التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها. أما الأول فقد مر في كتاب المقاصد أن الشريعة مبنية على اعتبار المصالح وأن المصالح إنما اعتبرت من حيث وضعها الشارع كذلك لا من حيث إدراك المكلف إذ المصالح تختلف عند ذلك بالنسب و الإضافات واستقر بالاستقراء التام أن المصالح على ثلاث مراتب ، فإذا بلغ الإنسان مبلغا فهم عن الشارع فيه قصده في كل مسألة من مسائل الشريعة، وفي كل باب من أبوابها، فقد حصل له وصف، هو السبب في تنزله منزلة الخليفة للنبي صلى الله عليه وسلم في التعليم والفتيا، والحكم بما أراه الله[46]» ، ولما كان موضوع البحث في النصوص هو المقاصد والمعاني فلا يلزم في الاجتهاد: «العلم بالعربية وإنما يلزم العلم بمقاصد الشرع من الشريعة جملة وتفصيلا خاصة» فالمعاني مجردة لا تختص بلغة دون لغة، ويمكن أن تفهم عن طريق الترجمة من اللسان العربي إلى اللسان الأعجمي، ويصح الاجتهاد فيها « ولذلك يوقع المجتهدون الأحكام الشرعية على الوقائع القولية التي ليست بعربية .. وأيضا فإن الاجتهاد القياسي غير محتاج إلى مقتضيات الألفاظ إلا في ما يتعلق بالمقيس عليه وهو الأصل[47]»
2 نفس الاجتهاد ومجاله أما عن نفس الاجتهاد فلم يتحدث عن القياس بالمفهوم الأصولي والاختلاف بين المؤيدين و الرافضين ولم يتحدث عن قياس العلة وقياس الدلالة وقياس الشبه وغير ذلك من أشكال القياس والمواضيع التي يحتار فيها العقل وينقلب فيها النظر خاسئا وهو حسير. فقد قال الغزالي في شفاء الغليل بأن قياس الشبه: « يمثل المغاصة الكبرى، والغمرة العظمى، فقد عز على بسيط الأرض من يعرف معني الشبه المعتبر، ويحسن تمييزه عن المخيل والطرد، على نهج لا يمتزج بأحد الفنين»[48] وحكى الإمام الشوكاني عن الأبيارى أنه قال: « قال لست أرى في مسائل الأصولي مسألة أغمض منه » وقال إمام الحرمين الجويني: «لا يمكن تحديده».[49] وسيقول الغزالي بأن قياس الشبه هذا يمثل أكثر مظاهر القياس وأن جل أقيسة الفقه تنتمي إليه.
أما الشاطبي فهو إنما تحدث عن الاجتهاد بمعنى تحقيق المناط وهو في معنى قياس العلة حيث هي منصوص عليها، وإنما المطلوب هو تنزيلها على آحاد الصور. قال الغزالي في تعريفه: أما الاجتهاد في تحقيق مناط الحكم فلا نعرف خلافا بين الأمة في جوازه مثاله الاجتهاد في تعيين الإمام بالاجتهاد مع قدرة الشارع في الإمام الأول على النص وكذا تعيين الولاة والقضاة وكذلك في تقدير المقدرات وتقدير الكفايات في نفقة القرابات وإيجاب المثل في قيم المتلفات وأروش الجنايات وطلب المثل في جزاء الصيد فإن مناط الحكم في نفقة القريب الكفاية وذلك معلوم النص أما أن الرطل كفاية لهذا الشخص أم لا فيدرك بالاجتهاد والتخمين وقد قسمه ‘لى نوعين أحدهما تحقيق المناط والثاني تحقيق المناط فيما تحقق مناطه.
وعرفه الشاطبي بقوله: « فإذا شرع المكلف في تناول الخمر مثلا، قيل له أهذا خمر أم لا ؟ فلا بد من النظر في كونه خمر أو غير خمر، وهو معني تحقيق المناط، فإذا وجد فيه أمارة الخمر أو حقيقتها بنظر معتبر قال: نعم هذا خمر، فيقال له: كل خمر حرام الاستعمال فيجتنبه »[50]
ويمثل هذا القياس امتدادا للنص فقبله منكرو القياس. قال الغزالي « اعلم أنا سبرنا النظر الفقهي في المسائل القياسية التي يظن أنها مستندة على إلحاق فرع في أصل جامع فوجدناه منحصرا في فنين: أحدهما تنقيح المناط والثاني تحقيق مناط الحكم[51]» وقال الشاطبي بأنه محل إجماع المجتهدين وإليه ينتهي طلقهم حسب عبارته. ويتميز هذا الاجتهاد بأنه لا يخص المجتهدين بل يخص كل فرد مما يعني تحديدا جديدا للاجتهاد ينزل به على أرض الواقع يقول الشاطبي:« فإن العامي إذا سمع في الفقه أن الزيادة الفعلية في الصلاة سهوا من غير جنس الصلاة أو من جنسها، إن كانت يسيرة فمغتفرة وإن كانت كثيرة فلا، فوقعت له في صلاته زيادة فلا بد له من النظر فيها حتى يردها إلى أحد القسمين، ولا يكون ذلك إلا باجتهاد ونظر فإذا تعين له قسمها تحقق له مناط الحكم فأجراه عليه »[52]. و الشاطابي يتناول القياس في إطار الاجتهاد الذي يهتم بالواقع وتنزيل الأحكام حسب المعطيات الواقعية . ذلك أن التنصيص على الحكم يتطلب نظرا في الوقع لمعرفة إمكانية تطبيقه أو لا. فليس كل منصوص عليه قابلا للتنفيذ مباشرة، بل ذلك يختلف بحسب حال الشخص وظروفه وإكراهات المكان والزمان.
المطلب السابع مميزات أصول الفقه عند الشاطبي والتوصيات
أول ما نلاحظ هو خلو كتاب الموافقات من حدود وتعريفات الأصول و القواعد فهو يدخل في الموضوع مباشرة دون أن يقدم له تعريفا لا في اللغة ولا في الاصطلاح فلا يعرف القرآن و لا السنة و لا الاجتهاد ولا أي من القواعد الأصولية ولعله في ذلك يستجيب لمبدئه القائل هناك مسائل في الأصول يجب أن تتحرر تعاريفها في علومها الأصلية ويأخذها الأصولي منهم كمسلمات فتعريف القرآن يجب أن يكون من اهتمام المفسرين وتعريف السنة يجب أن يكون هدف علم الحديث وهلم جرا.
ثانيا أن عرضه لأصول يتوخى المسائل الإجماعية وتندر فيها الخلافات والنقاشات البيزنطية التي تمتلئ بهام تب أصول الفقه وما كتاب المستصفى ببعيد.
ثالثا يمثل كتاب الموافقات أو نقد جذري لأصول الفقه وبالتالي أول محاولة لتجديد هذا العلم بربطة بميكانيزم المقاصد الشرعية بدل ربطه بالدلالات اللغوية والقراءة النصية للأدلة.
لقد أشبع الناس المقاصد الشرعية عند الشاطبي من خلال الموافقات درسا ومقاربة، ولكن نفس هذا الإشباع لم تحظ به مشاركته الأصولية، التي مثلت الجزأ الأكبر من كتاب الموافقات. فالمقاصد عند الشاطبي لا تخص المقاصد فقط بل تخص أيضا وربما بدرجة أقوى أصول الفقه. ولعلنا هنا أمام نظريتين للمقاصد. إحداهما نظرية الشاطبي عن المقاصد، والثاني نظريته عن المقاصد في أصول الفقه. و السؤال المطروح هو إلى أيهما يجب أن يكون الاعتماد و المحور؟ وأيهما hكثر مردودية على الدراسة الشرعية. و يظهر أن المهم هو نظريته في علم الأصول لأنها الأكثر ارتباطا بالأدلة و بالتالي الأكثر جدوائية وانعكاسا على البحث الشرعي. ذلك أن هذا البحث هو نتيجة لما تقرر في اصول الفقه فكان التجديد يجب أن يكون داخل المعرفة الأصولية لا خارجها، وبهذا الاختيار نكون قد جمعنا بين أصول الفقه وبين المقاصد الشرعية. أما الاعتماد على نظرية المقاصد من أجل المقاصد فهو بحث ارتدادي يجعل السبب هو نفس المسبب أي يجعل المقاصد سبب لذاتها في حين أن السبب يجب أن يغاير المسبب. فالمقاصد تكون حيوية عند ما تتناول موضوعا معينا وتنصب عليه . وعندما تفتح أضابير المقاصد على أصول الفقه وعلى الأدلة فإنها تكون عملية منتجة ورائعة لا مروعة.
المراجع:
[1] الريسوني التجديد الأصولي نحو صياغة تجديدية لعلم أصول الفقه إعداد جماعي بإشراف الدكتور أحمد ابن عبد السلام الريسوني المعهد العالمي للفكر الإسلامي ط الأولى 1435 ه 2014 م
الآمدي الإحكام في أصول الأحكام تعليق عبد الرزاق عفيفي دار الصميعي للنشر و التوزيع الطبعة الاولى 1424 ه 2003 م السعودية
عبد الوهاب خلاف علم اصول الفقه مكتبة الدعوة الإسلامية شباب الأزهر الطبعة الثامنة
الشوكاني محمد بن علي إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول تحقيق أبو حفص سامي بن العربي الاشتري و قدم له الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن السعد و د. سعد بن ناصر المشتري الطبعة الأولى 1424 ه 2000م دار الفضيلة للنشر و التوزيع الرياض المملكة العربية السعودية
الشافعي محمد بن إدريس الرسالة تحقيق أحمد شاكر دار الكتب العلمية
الجابري ، بنية العقل العربي مركز دراسات الوحدة العربية ،الطبعة التاسعة ، بيروت، لبنان ،2009/م
الغزالي أبو حامد محمد بن محمد بن محمد، شفاء الغليل في بيان الشبه و المخيل و مسالك التعليل تحقيق حمد الكبيسي 1390 ه 1971 م مطبعة الارشاد بغداد
ابن حزم، الإحكام في أصول الأحكام، تحقيق أحمد شاكر، مطبعة العاصمة ، القاهرة مصر
سيف الدين أبو الحسين علي ابن أبي علي الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام: دار الكتب العلمية، بيروت لبنان
أبو إسحاق ابراهيم بن موسي الشاطبي، الموافقات في أصول الأحكام: دار الفكر للطباعة والنشر
العلوي، سيد عبد الله ولد إبراهيم، نشر البنود على مراقي السعود تحقيق محمد الأمين ولد محمد حبيب الطبعة الأولى المصححة 1426 ه 2005 م
نجم الدين أبو الربيع سليمان بن عبد القوي بن عبد الكريم الطوفي الإشارات الإلهية إلى المباحث الأصولية أعداد أبو عاصم حسن بن عباس بن قطب الفاروق الحديثة للطباعة و النشر الطبعة الأولى 1423 ه 2002 م
الريسوني و الأستاذ محمد جمال باروت الاجتهاد النص ،الواقع ، المصلحة دار الفكر المعاصر الطبعة الأولى 1420 ه 2000م دمشق
سالم يفوت: حفريات المعرفة العربية الإسلامية، التعليل الفقهي، دار الطليعة، 1990م
[1] الريسوني التجديد الأصولي نحو صياغة تجديدية لعلم أصول الفقه إعداد جماعي بإشراف الدكتور أحمد ابن عبد السلام الريسوني المعهد العالمي للفكر الإسلامي ط الأولى 1435 ه 2014 م

[2] الشاطبي، الموافقات ص: 86
[3] - سالم يفوت، حفريات المعرفة، ص: 210
[4] الغزالي، المستصفى، ص:434/2
[5] الشاطبي الموافقات ص: 9 و 10
[6] الشاطبي، الموافقات، ص: 27/1
[7] الغزالي، المستصفى، ص: 316
1 ويقول ابن رشد متابعا الغزالي في هذا الموقف: فأما أجزاء هذه الصناعة بحسب ما قسمت إليه في هذا الكتاب فأربعة أجزاء: فالجزء الأول يتضمن النظر في الأحكام, والثاني في أصول الأحكام والثالث في الأدلة المستعملة في استنباط حكم حكم عن أصل أصل, وكيف استعمالها. و الرابع يتضمن النظر في شروط المجتهد وهو الفقيه. وأنت تعلم مما تقدم من قولنا في غرض هذه الصناعة, وفي أي جنس من أجناس العلوم هي داخلة, أن النظر الخاص بها إنما هو في الجزء الثالث من هذا الكتاب, لأن الأجزاء الأخرى من جنس المعرفة التي غايتها العمل, ولذلك لقّبوا هذه الصناعة باسم بعض ما جعلوه جزءا منها, فدعوها بأصول الفقه. والنظر الصناعي يقتضي أن يفرد القول في هذا الجزء الثالث إذ هو مباين بالجنس لتلك الأجزاء الأخرى. ابن رشد الضروري في أصول الفقه، ص 36
[9] الغزالي، المستصفي، ص: 2/103
[10] الشاطبي، الموافقات، ص: 3/ 200
[11] المرجع السابق، ص: 201
[12] الشاطبي، الموافقات، ص: 3/ 221 وما قبلها
[13] الشاطبي، الموافقات، ص: 3/ 255
[14] الغزالي، المستصفي، ص: 105
[15] الشافعي : الرسالة ص 105
[16] النحل 44
[17] المائدة 38
[18] المائدة 38
[19] الغزالي المستصفى ص 2/49 51
[20] خلاف علم أصول الفقه ص222
[21] المستصفي للغزالي ص 107 والإحكام للآمدي ص 2/98
[22] الشاطبي ااموافقات ص 3/ 63 إلى 71
[23] المستصفي للغزالي ص 416
[24] الأنفال 24
[25] الجمعة 9
[26] الشاطبي الموافقات ص 3/ 91 وما قبلها
[27] الطوفي الإشارات الإلاهية ص 214 .
[28] الجابري بنية العقل العربي ص56
[29] الشاطبي الموافقات ص3/260
[30] الشاطبي الموافقات ص3/275
[31] الشاطبي الموافقات ص3/279
[32] الطوفي الإشارات الإلهية ص 231/232
[33] الشاطبي الموافقات ص 1/ 97 و 98
[34] الشاطبي، الموافقات ص2/80
[35] الشاطبي ، المواففات، ص: 87
[36] الشاطبي، الموافقات ص 87
[37] العلوي نشر البنود ص 194
[38] الشاطبي الموافقات 1/ 119
[39] التوبة 122
[40] النساء 102
[41] ابن حزم ، الإحكام ، ص: 2/515.
[42] الإسراء 78
[43] ابقرة 185
[44] المائدة 32
[45] الشاطبي الموافقات ص 1/ 138
[46] الشاطبي، الموافقات ص2/56
[47] الشاطبي، الموافقات ص:2/91
[48] الغزالي شفاء الغليل ص 144
[49] الشوكاني إرشاد الفحول ص 909
[50] الشاطبي الموافقات، ص: 43
[51] الغزالي : أساس القياس ص 31
[52] الشاطبي، الموافقات ص: 2/48-49


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.