تشرق أمّي باكرا قبل طلوع الشمس... كنت كظلّها لا أفارقها حتّى وقت الغسق... صوت "البابور" يدوّي و القدر فوقه معلنا امتلاكه للمكان و المناسبة... تُنزل أمّي القِدر ثمّ تضعه بين يديها و رجليها تعالجه بقليل من الماء و كثير من الصّبر... تعلِك الثّريد عَلْكا فتُسمع له طرطقةٌ عن بُعد كصوت علكة "لوبان" في فم صبيّة محنّكة ... تضع القدر ثانية فوق البابور لاكزة إيّاه بلوحة خشبيّة قُدّت عند نجّار الحيّ... بين الطّلب و الطّلب تطلب أمّي منّي طلبا آخر فألبّي بكل حبّ... "شويّة ماء دافي اعيّش كبدي"..."الفولارة طاحت على عيوني بعداها لتالي يا بنيتي"... هي تثق بي مذ كنت صغيرة...تأتمنني على المُهمّات الصعبة كطبخ العصبان و رتق الملابس و علك الثريد ... بيدي الصّغيرتين أمسك باللّوحة الخشبيّة التي تفوقني طولا أشقّ بها الثّريد من الوريد إلى الوريد... بعد وقت غير طويل يأخذ مني الإجهاد مأخذا كبحّار فتّ في ساعده التّجذيف في يوم عاصف... تبتسم أمّي...تشجّعني بكلمات مصابيح... تلتقط منّي المثرد و تنقض على الثّريد تكوّمه قبل أن تهدمه من جديد... تختطف لقمة صغيرة ثم تُروّضها بأصابعها المُجهدة تارة و تنفخ فيها تارة اخرى.. حتى إذا اطمأنّت إلى برودتها ناولتني إيّاها مبتسمة..."يا بنيتي أريها طابتش"? أجيبها بكلّ ثقة في النفس و لقمة الثريد مازالت في فمي..."طابت يمّه" تضع نصيب أبي في صحنه الخاصّ...و بقيّة العائلة في "شقالة" فخّار كبيرة... توكل لي مهمّة حفر حفرة صغيرة وسط كومة الثّريد لوضع الزيت فيها .... أمّا السّكر و دقيق "البسيسة" فأضعه على حافّة الثريد... نجتمع حول "شقالة العصيدة" أنا و إخوتي ... كلّ منّا يلقم لقمة...يكوّرها...يضعها في الزّيت ...ثمّ السّكر و الدّقيق... كنّا نبتلع اللّقمة بلعا لطراوتها و لذّتها ... نحن الفقراء لم تكن عصائدنا من "الزقوقو" و المكسّرات الفاخرة... كانت عصائدنا من السّميد البخس و في أحسن الأحوال من دقيق الفارينة الأبيض... و بالرّغم عن ذلك كانت عصيدة الفقراء تلك من ألذّ ما أكلت في حياتي... أنظر إلى أمّي فأراها بين اللّقمة و اللّقمة تتمتم قائلة "اللّهم صلّ على سيّدنا محمّد"... أمّي لا تعرف الكثير عن تفاصيل المولد النّبوي الشّريف و دلالاته المعرفيّة و الحضاريّة...لكنّنا كنا نلمس عشقها لهذه المناسبة المباركة... كان المولد يمرُّ على بيتنا الصّغير كطيف فرح مسلول... كل مولد و أنتم بخير....