كان ظهر يوم الجمعة بعد الصلاة مباشرة وخروج المصلّين من المساجد هزّ الأرجاء صوت إطلاق للرصاص، بدأ بشكل متفرّق ثمّ بعد مدّة زمنيّة اشتدّت وتيرته وطال وقته حتى أذان العصر فخفت حينها قليلا.. كان مقرر لها بطلب من جدّتها أن تذهب لإحضار البيض البلدي من الحيّ المجاور لحيّهم، لم يكن لديها الكثير من الوقت كي تنطلق من بيتهم القريب نوعما من جهة النزاعات التي استُخدمت فيها أنواع من الأسلحة.. فالعصر قد أذّن وقد مرّ عليه وقت والسّاعات تتسارع نحو جنوح الظلام وعليها أن تذهب لتأمين البيض من أجل والدها المريض الذي وصف له الطبيب تناول البيض نيئا مع الحليب كل صباح ومساء من أجل مرض أصابه في عاموده الفقري فألزمه الفراش .. لم يكن أمامهم سوى هي كي يرسلوها إلى الحيّ المجاور حيث يوجد من يبيع البيض البلدي هناك بحسب أحد المعارف، ولأنّ ذكور العائلة أصغر منها سنّا كانت هي الأنسب في هذه المَهمّة، وعلى الرغم من الخوف الشديد الذي يعتريها ممّا يحصل لكن ابنة ال 10 سنوات بتوجيهات من والدها الدائمة لها كانت تتماسك أمام الجميع وتبدو قويّة وجريئة جدا لذلك كانت تُوكل إليها أحيانا بعض المَهام الصعبة على من هو بمثل عمرها.. لم تجد مفرّا من الذهاب فحاولت أن تصطحب معها أحدا ليكون رفيقا لها في رحلتها لكن أحدا لم يقبل فكل صديقة خائفة على نفسها أو أن أبويها يخشون عليها في مثل هكذا ظرف، وهي مضطّرة لذلك لأنّها تضع والدها وما يعانيه من أوجاع نصب عينيها، فهي بفهمها المحدود تظن أنّ البيض سيشفيه لذا صمّمت على الذهاب رغم كل شيء وحاولت أن تتناسى صوت إطلاق النّار وما يحدث فانطلقت وحدها.. كانت تركض حينا، تتعثّر حينا آخرا وتمشي ملتصقة بالحائط أحيانا أخرى بحسب حدّة صوت الرصاص حتى وصلت إلى الحيّ المقصود فسألت الأطفال المتواجدين عن بيت أبو محمد بائع البيض البلدي هناك فدّلها أحدهم عليه، ذهبت لبيت أبو محمد مع مجموعة من أولاد وبنات الحيّ الفضوليّين، قرع أحدهم الباب وقال للرجل " هيدي البنت عم تسأل عنّك.."، قال لها أبو محمد " أنت بنت مين، وشو بدّك؟" ، أخبرته عن طلبها .. فقال لها " انطري شويّة.." دخل للبيت ثم عاد وهو يحمل في يده كرتونة صغيرة وضع فيها البيض .. سألته عن الثمن فأخبرها، ناولته المال وبقي في يدها مبلغا صغيرا.. طلب منها أن تعطيه بقيّة المال ليعطيها ما بقي من بيض.. لقد انتبه الرجل أنّه بقي معها ثمن ثلاث بيضات.. فسألته كم بيضة ستعطيني بالمبلغ الباقي أخبرها أنّه سيعطيها ثلاث.. فوافقت وأنفقت مصروفها اليومي الذي ادّخرته لتأخذ الثلاث بيضات ويصبح العدّد الكلّيّ 15 بيضة!.. ثم حملتهم بحرص كمن يحمل غنيمة ومشت بين الأطفال متباهية حتى بلغت الشارع بين الحيّين. الشمس شارفت على المغيب، صوت الرصاص عن ذلك الحيّ أخفّ من الصوت في حيّهم، والخوف ما زال يعتريها بل ازداد أكثر خاصّة وهي تحمل البيض بيديها وتخاف من أن تتعثر ويتكسّروا.. رحلة العودة كانت أصعب وأطول بالنسبة لها لأنّها لن تستطيع أن تركض كما كانت تركض وهي آتية فقد كانت فارغة اليدين، لذا كانت بطيئة جدا ومتأنّية في خطواتها وهي تحتضن البيض، كانت تحفّز نفسها بكلمات تزيدها عزما وقوّة، كلمات داعمة لطالما يصفها بها والدها فهي بالنسبة له الأقوى والأشجع بين قريناتها وحتى أقرانها من الذكور، هي برحلتها هذه المحفوفة بالخطر في ذلك الوقت كانت تريد أن تثبت لوالدها أنّها بالفعل كما يراها.. سارت وهي دامعة العينين تتمتم بدعوات كانت قد تعلّمتها في الدروس الدينيّة التي تتلقّاها أسبوعيّا مع صويحباتها اللواتي في سنّها.. بدأت تقترب من حيّهم، وبدأ صوت الرصاص يقترب من مسمعها لكن وتيرته أصبحت أخفّ قليلا من ذي قبل، دخلت الزقاق المؤدي إلى بيتهم والتصقت بالحائط وبدأت تسير بمحاذاته ارتفع صوت أذان المغرب.. خفَت صوت الرصاص قليلا من جديد .. تنفّست الصعداء فصوت الأذان مريح جدا للخائف.. البيت على بعد بضعة أمتار منها.. من بعيد رأت أحدا ما تبين لها فيما بعد أنّها أمّها تقف عند الباب، على ما يبدو هي بانتظارها.. الأمّ تصرخ " الحمد لله رجعت.. رجعت.." تأتي الجدّة وتسألها " جبتيهم .. بس إن شاء الله ما يكونوا مكسّرين..!" ترد عليها "لااااااااا.." فتأخذ الجدّة منها البيض وهي في الزقاق، تلج باب البيت بسرعة، تدخل بشموخ وكأنّها عائدة من معركة، ثم بإحساس طفلة ترتمي في حضن أمّها باكية!..