الصحبي عتيق "ليس الرجل بمأمون على نفسه إن أنت أجعته أو أخفته أو حبسته أن يقرّ على نفسه" عمر بن الخطاب. السجن بما هو سلب للحرية وتقييد لها عقوبة جعلت للردع والزجر،هذا بعد محاكمة تتوفر فيها شروط العدالة في مناخ من استقلال القضاء وبعد التحقق من التهم بعيدا عن كل ضروب الإكراه وانتزاع الاعترافات تحت التعذيب...غير أنّ رحلة العذاب لسجناء الرأي والخصوم السياسيين تبدأ من الاعتقال الذي لا يراعي الحرمات ثمّ التحقيق الذي تزول منه الجبال. ودون الخوض في هذه المرحلة الأليمة والعصيبة والملأى بأنواع الاعتداء و الامتهان للكرامة البشرية عبر كل أشكال التعذيب الذي أبدع فيها البوليس السياسي العربي فإنّ السجن يتحول إلى فضاء للتنكيل و التشفي وهذا ما حصل لآلاف من أبناء حركة النهضة و قياداتها.فعند التحول إلى السجن يخال المرء أنّ مرحلة المعاناة المستمرة و التي بلغت فيها القلوب الحناجر قد انتهت ليخلد إلى قليل من راحة البال و الجسد ولكن هيهات هيهات ...فالسجن ساحة أخرى من سياسة تجفيف المنابع يتجرع فيها السجين كؤوسا من الإذلال والإهانة كالتفتيش العاري والضرب والإهمال الصحي والإبعاد عن سكنى العائلة والتجويع والتجهيل والتنكيل العام . وسأقتصر في هذه الشهادة على العزلة وهي أنواع فهناك العزلة الفرديةالمشددة وهناك العزلة المضيقة ضمن مجموعة صغيرة بين الثلاثة والخمسة وهناك العزلة ولكن ضمن مساجين الحق العام بعد إخراج كل مساجين "الانتماء"وهناك عزل موغل في التنكيل وذلك عبر وضع الأخ النوعي والقيادي في الغرفة المخصصة للشواذ جنسيّا وهي من أعتى المحاولات للتدمير النفسي والإذلال وهي تجربة تستحق العناية والدراسة لأعماق هؤلاء الشواذ الذين تقمصوا أدوار نسائية تشبها وتكسرا في الكلام ومحاكاة لبعض الحركات الجسدية النسائية فكان أحدهم يقول "أنا ماشية .. وأنا خارجة للطبيب.." وعند حلول وقت الصلاة يقول لهم "الكبران" وهو منهم "هيّا .. يا لبنات خلوا عمكم الراجل يصلي" إنّ السجن مازال هو خيار السلطة في التعامل مع الخصوم السياسيين ومازال يمثل أحد أهمّ مكوّنات سياسة السلطة في التعامل مع بعض الأطراف والعزلة الفرديّة هي سجن داخل السجن وهي تمتاز عن غيرها بأنّها معزولة عن بقية السجن والزنزانات معزولة عن بعضها وعالم العزلة هو عالم المحاصرة والتّضييق والجمود واستهداف للبعد الاجتماعي وضرب للتّواصل الإنساني ومنع للتّواصل مع الخارج وهو تدمير للذاكرة والتّثاقف والوعي وتهميش للعناصر القياديّة لغياب الّفاعل مع الآخرين ولغياب التّحاور والنّقاش . والعزلة بما تمثله من ركود ورتابة قاتلة للإبداع والّتّأمّل الموضوعي والمعتدل تدفع بالضّرورة للغلوّ والمثاليّة في الفكر نتيجة البعد عن مواكبة شؤون النّاس ومعافسة الواقع ولو داخل الأسوار . أذكر أنّنا كنّا أربعة معزولين (الشيخ الحبيب اللوز والأخ عبد الحميد الجلاصي والأخ بوراوي مخلوف –فرّج اله كربه- ) كنّا نتبادل أخبار الجرائد من خلال كوّة صغيرة في الباب وكان لا يسمح لنا بتقديم الأكل ولا الجرائد ولا الهدايا ولم ترفع هذه العزلة إلا بعد إضرابات مريرة وتدخلات من منظّمات حقوقيّة أجنبية... وأذكر كيف كنا نخرج مع المساجين المحكومين بالإعدام وكان هؤلاء يعيشون في رعب مستمر ... وكانوا ممنوعين من الزّيارة والمراسلة والقفة وتتكرّم عليهم الإدارة بالسجائر والشّاي وبعض الغلال المأخوذة من أقفاف بقيّة المساجين وكان هؤلاء يتوجّسون كل ليلة في أنفسهم خيفة من تنفيذ حكم الإعدام الذي عادة ما ينفّذ في الهزيع الأخير من الليل ... إنّها معاناة مستمرة ومدمّرة للكيان الإنساني والروح المعنوية بصرف النّظر عن الجرائم المقترفة . إنّ العزلة الانفراديّة إلى جانب البعد التّنكيلي فيها فإنّها محاولة لتجفيف منابع القوّة المستمدة من الاجتماع والحوار والتّفاعل مع الآخرين وهي إهدار للطاقة الذاتية وتضييق للأفق ودفع للتّشنّج في التّعامل مع الأحداث ومع الآخرين ... إنّها محاولة لتحطيم الإرادة ولكن تبقى للمِِؤمن خلوة مع الله صفاء واستمدادا واستظلالا بالصلاة والقرآن الكريم بعيدا عن صخب الحياة داخل الغرف المكتظّة "الذين آمنوا وتطمئنّ قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئنّ القلوب "(سورة الرّعد) . عندما سجن الشاعر الحطيئة في عهد عمر ابن الخطاب بعث له قائلا : ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ زغب الحواصل لاماء ولا شجر ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة فاغفر عليك سلام الله يا عمر فما يقال لأطفال بكوا والآباء يساقون إلى السجن... وبكوا في الزيارة وهم يعودون إلى المنازل تاركين الآباء وراء الجدران والقضبان .. من نظراتهم الغضوب الغضبى ينبعث أمل إذا توفّر الصّبر والإحاطة ... أو مشاريع ضاقت ذرعا بالصّبر الجميل فصبّت جامّ غضبها على الدّنيا كل الدّنيا سلطة ومعارضة احتمت وساندت الاستبداد.