إشكالية الرعية والمواطنة (7/1 ) بقلم: علي شرطاني- تونس
- في الوطن والمواطنة والراعي والرعية :
لا اعتبر الكتابة في هذا الموضوع الشائك المعقد، ولا التدقيق فيه بما يشفي الغليل، وبما تتضح به الصورة، وبما تكون به المقاربة، على ذلك القدر من الوضوح الذي لم يعد معه لبس في هذه المعاني ومدلولاتها، وفي الفرق بينها. فلهذا المبحث مقال آخر وله أهله ورجاله والعالمون فيه وبه من أهل الذكر وأصحاب الإختصاص، ولكن الذي دفعني إلى الكتابة في هذا الموضوع هو أني فقط أحب أن أفهم من الذين ظلوا يرددون على امتداد أكثر من عشرين سنة شعار ومقولة "مواطنون لا رعايا "في كتاباتهم وفي خطابهم، ماذا تعني عندهم المواطنة وماذا يعني عندهم المواطن، وماذا تعني عندهم الرعية وماذا يعني عندهم الراعي؟ وهم يقرنون كل مرة وكل ما أرادوا الحديث عن المواطنة لإثبات مواطنتهم وتأكيدها في وجه من يرفضها ويردها عليهم، ويعمل على انتزاعها منهم، المواطنة بالرعية والمواطن بالرعية. ويبدو في ذلك تأكيد على فهم للمواطنة لم يقدموه ولم يوضحوه لمن يكتبون ويقدمونه لهم، وهم مسرون على التمسك به ومستميتون في ذلك، وذلك حقهم وما يجب أن يكونوا عليه احتراما لذواتهم وتأكيدا لحقوقهم، وعلى فهم للرعية لم يقدموه كذلك ولم يوضحوه لمن يكتبون ولمن يخاطبون ولم يقدمونه لهم، وهم يبدون رفضا وردا وتبرؤا منه. ولم يتفضل أي طرف أو أي وأحد من أصحاب هذه الأقلام بالإفصاح عن الفرق بين معنى المواطن والمواطنة ومعنى الراعي والرعية، كمصطلحين أحدهما حديث مستفادة معانيه من ثقافة الغرب الحديثة، والآخر قديم مستفادة معانيه من الثقافات القديمة، ومن الثقافة العربية الإسلامية التي ينظر إليها البعض على أنها قديمة، وعلى أنها من القديم المختلف في كيفية التعامل معه والإستفادة منه، وفي الإبقاء عليه كليا أو جزئيا، أو هدمه كليا أو جزئيا.
- مواطنون لا رعايا :
لقد استرعى انتباهي تردد هذه العبارة من أكثر من شخصية علمانية ولائكية وطنية في ما يقولون وما يكتبون في فترات ومراحل مختلفة من حياة المجتمع المدني في تونس. فكان من بين من كتبوا مبكرا في ركن كلمة المستقبل بصحيفة "المستقبل" لسان حال حركة الديمقراطيين الإشتراكيين ليوم 20 جويلية 1981 بمناسبة حلول ذكرى عيد الجمهورية مقالا بعنوان "مواطنون لا رعايا" قال فيه :"..وقد أدركت الأجيال الجديدة أن الجمهورية جعلت منهم مواطنين وكان أجدادهم وآباءهم رعايا ومعنى ذلك أنهم يطمحون إلى أن يأخذوا بحقهم كاملا غير منقوص في تصريف شؤون المجتمع وأن يتحملوا مسؤولية تقرير مصيرهم". وكان قد استرعى انتباهي كذلك ما جاء في صحيفة " الموقف " لسان حال الحزب الديمقراطي التقدمي الصادرة بعد مؤتمره الأخير مباشرة، المؤتمر الرابع، الذي دارت أشغاله بنابل أيام 22 – 23 – و24 سبتمبر 2006 والتي جاء فيها، أن المؤتمر قد انعقد تحت شعار " مواطنون لا رعايا "، وهو نفس الشعار والعنوان الذي جعله لموقعه بشبكة المعلومات العالمية، وهو نفس العنوان الذي تحمله وترفعه صحيفة مواطنون، لسان حال حزب التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات. ولكم كان هذا الشعار متداولا على ألسنة النخبة العلمانية اللائكية خاصة، وحتى بعض الإسلاميين دون أن يلقوا إلى ذلك بالا، ودون أن يخضعوا ذلك للمراجعة لما عسى أن يكون مفيدا، والذي يعتبرون فيه، على حد ما جاء في ما كتبه أحمد المستيري من أن النظام الجمهوري هو الذي يصير فيه الناس مواطنون بعد أن كانوا في غيره رعايا. إلا أن النظام الجمهوري للدولة العلمانية الحديثة المغشوشة لم ترتق بالإنسان فيها إلى مستوى المواطنة، بل أبقت عليه في مستوى الرعية. ويستفاد مما كتبه السيد أحمد المستيري من أن المواطنة هي الأخذ بحق أو التمتع بحق تصريف شؤون المجتمع وتحمل المسؤولية في تقرير مصيره. وهو المعنى الذي يتفق مع ما ورد في كتاب " في العقد الإجتماعي" للكاتب الفرنسي جان جاك روسو، والتي تعني المساهمة في سلطة السيادة. وهو من المعاني التي لحقها الكثير من التطوير منذ ذلك التاريخ. كما يستفاد مما كتبه كذلك، أن الرعية، والتي هي العناصر البشرية والمكونات البشرية للمجتمع في غير النظام الجمهوري، أي في ظل نظام ما قبل الإحتلال الفرنسي لبلادنا. وهي تعني في ما تعنيه السمع والطاعة لولي الأمر في غير التمتع بحق تصريف شؤون المجتمع وتحمل المسؤولية في تقرير مصيرهم، وعدم المساهمة في سلطة السيادة، وذلك ما كان عليه آباءنا وأجدادنا على حد قول السيد أحمد المستيري، وهو المعنى الذي يتفق مع ما جاء في كتاب روسو السالف الذكر من حيث هم خاضعون لقوانين الدولة. وفعلا فقد جعلت عصور الإنحطاط والحقبة الإستعمارية ونظام الدولة العلمانية الحديثة من الإنسان العربي المسلم في تونس وفي كل أوطان شعوب أمة العرب والمسلمين، من أبناء تونس ومن أبناء كل شعوب الأمة رعايا.
وبهذا المعنى ومن هذا المنطلق يحق لهؤلاء الإستنكاف من أن يكونوا رعايا ويتمسكوا بحقهم في المواطنة. وإذا كانت المواطنة تعني صفة الإنتساب لوطن ليس للناس غيره، له عليهم واجبات ولهم عليه حقوق، ويمارس فيه الفرد الإجتماعي حق مزاولة السيادة من حيث المشاركة في القرار السياسي وممارسة السلطة بطريقة مباشرة أو مغير مباشرة، ويتمتع فيه بالحرية التي تنتهي حيث تبدأ حرية الآخرين، وهو الذي له الحق في المتابعة والمراقبة والمحاسبة، فإن مواطن كل وطن يتحول إلى رعية في وطن آخر. ولذلك كان يطلق على مواطني شعوب الأوطان الأخرى خارج أوطانهم رعايا، أي ليس لهم من حق إلا الخضوع لقوانين الدولة التي يكونوا قد التحقوا بها لسبب أو لآخر ولغرض أو لآخر... فهم مواطنون في أوطانهم ورعايا في أوطان الشعوب الأخرى. وبهذا المعنى كذلك يجوز فهم رفع مكونات الطائفة العلمانية اللائكية لهذا الشعار من حيث أنه لا حق لهم في المواطنة إلا في وطنهم الذي لا يجب أن لا يكون لهم فيه إلا الخضوع للقانون كما لرعايا الشعوب الأخرى في غير أوطانها. فمن حق هؤلاء أن يقولوا لا للرعية في ظل النظام الجمهوري أو العلماني عموما في أوطانهم، ومن حقهم كذلك أن لا ينظر إليهم ولا يساسوا ولا يتعاملوا معهم في أوطانهم كما يتعامل مع الرعايا الأجانب، وإن كانوا يعاملون في أوطاننا بأفضل مما يعامل به أبناء الشعب الذي من المفروض أنهم مواطنون في وطنهم لا رعايا في وطن آخر. (يتبع)