الدّور التركي: حقيقته وحدوده بقلم: عبد الفتاح كحولي مثّلت الجريمة الصهيونية البشعة على قافلة الحريّة مناسبة لتجديد الحديث عن الدور التركي. ويجد هذا الموضوع مسوّغات النظر المتجدّد فيه انطلاقا من التفاعلات التي تلت الحدث خاصّة من الجانب التركي ومن استمرار النظام العربي في تبني سياسات محافظة إزاء القضايا العربية ذات الثقل الكبير وبوجه خاص فلسطين والعراق. وإذا كان الثناء على الموقف التركي أمرا مفهوما وإذا كان التعاطف مع الكلمة التي ألقاها أردوغان في مؤتمر دافوس والتي جرّم فيها الإعتداء الصهيوني أمرا مفهوما وإذا كان التهليل للإجراءات التركية إزاء الكيان الصهيوني بعد جريمة قافلة الحرية أمرا مستساغا أيضا فإنه من غير المقبول التسرّع في قراءة الحدث بالنسبة إلى الفاعل السياسي لأن أي تسرّع سيقلّص مساحة الأمل أمام الجماهير قد تسفّهها الأحداث اللاحقة ولأن أي تقدير خاطئ لطبيعة الدور التركي ستنشأ عنه تشوّهات في مستوى تدبيرنا للإستراتيجيات التي نتعامل وفقها مع قضايانا وينتج هذا التسرّع عن أدلجة القراءة هذه الأدلجة التي تكشف عن نفسها في إسقاط أحلامنا ورغباتنا الخاصة على الواقع ولّي عنقه من أجل إجباره على التماهي مع طموحاتنا . ومن أجل كبح الإندفاع الحالم في رسم تداعيات الدور التركي وجب أولا البحث في حقيقة هذا الدور ومن ثمّ تفحّص حدوده ومعوّقاته . إنّ الطابع الشعبوي الذي يتجلّى من حين لآخر في خطاب قادة النظام التركي قد يدفع نحو الإستنتاج بأن الموقف الرسمي للنظام التركي موقف منحاز لقضايانا العربية وقد يكون هذا الإستنتاج علميّا إذا سلّمنا أن الدول تمارس سياساتها بالخطاب لا بالإستراتيجيات وهو أمر يمتنع التسليم به وليس من باب القدح بل من باب التوصيف العلمي أن نقول إن هذا الخطاب الشعبوي ليس سوى واجهة أمامية هدفها استمالة الرأي العام العربي أما الخلفية فاستراتيجيا دقيقة تتكئ على الحسابات والتوازنات فكأنما الأمر متعلق بواجهة حارّة وخلفية شديدة البرودة. إن السياسة التركية الجديدة في المنطقة تتحدّد بشكل واضح في ما نقلته صحيفة " الواشنطن بوست" ( 21 / 12 /2008 ) على لسان مهندس هذه السياسة وزير الخارجية أوغلو عندما أكد " أن تركيز الحكومة التركية على الأبعاد الإقليمية في سياستها الخارجية لا يمثل عودة أو انتكاسة إلى الحقبة العثمانية وإنما هي استجابة لمستجدّات وظروف اقليمية ودوليّة". لا شك أن هذا التصريح يقطع الحبل أمام الإندفاع في تصوير الدور التركي على أنه يستظل براية الدّين أو أنه يقف موقفا أخلاقويا إزاء قضايانا إلى حدّ الإيهام بأن تركيا قد عادت لتلعب دور الحامي لتركتها القديمة فهذا الدور إن هو إلا استجابة لمعطيات اقليمية ودولية من أجل خدمة مصالح تركيا التي يبقى من حقها ومن واجب قادتها خدمة مصالحها. فالمشكل ليس هنا ولكن في اندفاع القراءة نحو مسارات لا تأخذ بعين الإعتبار القوانين المتحكمة في العلاقات الدولية ومصالح الدول لترتمي في أحضان تأويل ايديولوجي مخادع . لقد كانت تركيا إلى عهد قريب تتبنّى سياسة تتكئ كليا على الغرب وعلى تحالف استراتيجي مع الكيان الصهيوني مهملة جوارها الإقليمي العربي والإسلامي لكن عوامل عديدة ساهمت في بلورة سياسة جديدة أهمّها: - المماطلة الأوروبية المستمرّة في قبول تركيا ضمن النادي الأوروبي - صعود حزب العدالة والتنمية المستفيد من خيبات نسخه السابقة أمام صلابة المؤسسة العسكرية الحامية للتقليد العلماني. فهذا الحزب وصل السلطة وهو يدرك حدود اللعبة ومنطقتها من أجل استمراره وقطع الطريق أمام خصومه فحاز بذلك رضا الغرب انطلاقا من "اعتداله" الذي هو مرتكز مقبوليته بالنظر إلى خطر "الإرهاب والتطرّف" الذي كان يعصف بالمنطقة فقد جاء هذا الحزب إلى السلطة وهو يحمل منذ البدء إمكان لعب دور ما . - الغزو الأمريكي للعراق وما تلاه من تداعيات أفقدت الولاياتالمتحدة المسك بأوراق اللعبة وبروز لاعب محوري جديد هو إيران الذي أحسن استثمار الورقة الطائفية من جهة وورقة المقاومة من جهة أخرى ليربك كل الحسابات الأميريكية في سياق تدعيمه لقوّته التفاوضية حول الملف النووي وملفات أخرى. - ما نشأ عن تخبّط السياسة الأمريكية في المنطقة من غطرسة صهيونية من جهة وتمدّد إيراني من جهة أخرى وهو ما ينذر بتحوّلهما إلى قوّتين محوريتين في مقابل تهميش الدول العربية وخاصة المركزية منها وكذلك تركيا. هذه هي أهم العوامل التي قادت تركيا إلى تبنّي سياسة جديدة تأخذ بعين الاعتبار هذه الحقائق وتبحث عن دور ما يحوّلها إلى قوّة اقليميّة يمكن التعويل عليها دوليّا . لقد استغلت تركيا " الورطة الأمريكية" من جهة والسياسة العربية المحافظة من جهة أخرى يضاف إليهما الصّلف الصهيوني الذي يربك أحيانا الحسابات الأمريكية والتمدّد الإيراني المرفوض من القوى العظمى الغربية لتقترح نفسها لاعبا محوريا. فالدور موجود موضوعيا ولكنه ينتظر لاعبا بمواصفات معيّنة وهذا اللاعب لا يمكن أن يكون غير تركيا التي لا تملك أي رصيد من العداء مع أي طرف اقليميا أو دوليا. لذلك قامت الإستراتيجية التركية على المرتكزات التالية: - تبني سياسة بسيطة تتمثل في الدفع باتجاه استراتيجيات اعتراضية بديلة تقوّض سياسة العنجهية الصهيونية من جهة والتمدد الإيراني من جهة أخرى حتى تستحق مكانة اللاعب الرئيس اقليميا . - تبني معادلة صعبة ولكنها منسجمة مع الدّور الذي تريد أن تلعبه تركيا هذه المعادلة تقوم على تجنّب الإنكشاف كقوّة مع طرف ضد آخر فهي ليست مع أحد كما أنها ليست ضدّ أحد وهو ما يجعل للمواقف التركية حدودا معلومة لا تتجاوزها حتى تتجنّب الإخفاق السياسي. - الظهور أمام العالم وخاصة أمريكا والإتحاد الأوروبي بوصفها القوة القادرة على المسك بملفات المنطقة دون المساس بمصالح هذه القوى الدولية وهو ما سيمكنها من امتياز منحها الضوء الأخضر وتمتيعها بهامش من المناورة يصل حدّ انتقاد بعض سياسات هذه القوى ذاتها وسياسات القوى الإقليمية وخاصّة الكيان الصهيوني من أجل أن تكون لها مصداقية وقدرة على المسك بالملفات وهو الهامش – تقريبا - الذي مُكّنت منه قطر في الخليج العربي هذه الدولة التي تحتضن قاعدة السيليّة العسكرية الأمريكية وتجرؤ في الآن نفسه على انتقاد سياسات الهيمنة والغطرسة. هذه المرتكزات ستجعل تركيا في صورة "القوة الناعمة" في المنطقة بإزاء الغطرسة الصهيونية والتمدّد الإيراني الذي يتكئ على مخطّط "توتير" الأجواء لذلك ستعمد تركيا على آليات تستجيب لطبيعة هذا الدّور وأهمها: - حنق بؤر التوتر وفضّ النزاعات في المنطقة، فقد عملت على أن تكون راعيا لمفاوضات غير مباشرة بين الكيان الصهيوني وسورية لإحداث اختراق ما في أصعب ملف نزاعي سيحسب بطبيعة الحال في رصيدها كما كانت فاعلا رئيسيا في إذابة الجليد بين سوريا ولبنان رغم ضخامة الملف وهو ما أكده الرئيس السوري بشار الأسد بعد تطبيع العلاقات بين البلدين يضاف إلى ذلك دورها في حصول التقارب السوري السعودي وتدخلها في ملف المصالحة الفلسطينية ومحاولاتها المتكرّرة في ملفات أخرى رغم صعوبتها مثل ملف الخلاف المصري – الإيراني. - تنشيط التبادل الإقتصادي وهو ما تجسد في تسريع وتائر هذا التبادل بين تركيا ولبنان وسوريا والأردن وهو ما جعل مهندس السياسة التركية أوغلو يعبّر عن أمله في أن تتحول العلاقات بين هذه الدول إلى ما يشبه" شينغن" "مصغّرة" تضم أيضا العراق كما تطوّرت العلاقات الإقتصادية بين تركيا وإيران رغم تعارض المصالح السياسية والإستراتيجيات المتبعة وتحركت تركيا أيضا في اتجاه الخليج العربي وخاصة مع السعودية إذ تطور حجم التجارة بين البلدين من 3،3 مليار دولار سنة 2006 إلى 5،6 مليار دولار سنة 2009 . إن هذين الآليتين تتناسبان فعلا مع مشروع تركيا الذي عبّر عنه أوغلو بقوله " إقامة منطقة مستقرّة ومزدهرة" وهو ما يقوّض إمكانية اندفاع تركيا نحو الإنخراط بوصفها طرفا في مجمل الصراعات لأن الفعل التركي مسيّج بسياج مساعي التحوّل إلى لاعب اقليمي وتحسين وضعه بإزاء القوى الدولية وخاصة أمريكا والإتحاد الأوروبي الذي ماطل طويلا في ضمّ تركيا تحت ذريعة المخاطر المترتبة عن انتمائها الديني وهو ما يحاول حزب العدالة والتنمية تسفيهه وتصوير تركيا على أنها قوة ازدهار وسلام. ولكن يبقى النجاح التركي معقودا على مدى قدرتها في حلّ بعض الملفات فالعوائق كثيرة خاصة في ما يتعلق بالملف النووي الإيراني وتصلّب الغرب إزاءه في مقابل الطموح الإيراني وبوجه أخص ملف النزاع العربي الصهيوني وهو نزاع محكوم بطبعه باستعصاء تاريخي لأنه لا يتعلق بنزاع عابر بل يتعلق بحق تقرير المصير وبحق شعب في سيادته على أرضه وبكيان عنصري لا حلّ إلاّ بتفكيكه. إن هذه العوائق تجعل الدّور التركي أمام عوائق حقيقية ولكنها لن تمنعه من أداء بعض الأدوار الجزئية التي يمكن أن تخدم مصلحته. إن هذه القراءة لا تتغيأ سلب تركيا حقها في خدمة مصالحها فذلك منطق الدّول ولكنها تتغيا توضيح الرؤية حتى لا نغرق أنفسنا في نبوءات خاطئة فللدور التركي حدوده وحتى لا نغمض أعيننا عن ضرورة إصلاح أوضاعنا حتى لا تبقى قضايانا رهينة مصالح هذه الأطراف ونصاب بداء الإنتظارية ونحن نترقّب من هذه الدّولة أو تلك أن تكون المنقذ من العجز. لا بأس أن نقيم علاقات تبادل مع دول العالم ولا بأس أن تقوم علاقات تضامن ولكن دون أن نتغافل عن دورنا المحوري في النهوض بمنطقتنا ولا يكون عجز النظام العربي حجّة حتى نصاب بداء اليأس ونحوّل بوصلتنا . فرغم الضّيق والعسر فإن مؤشرات كثيرة تدعم الأمل في تحقيق نهوض حقيقي شرط توفّر الوعي التاريخي . لا بدّ أن نلتفت إلى أوضاعنا من أجل إصلاحها واستثمار مصادر القوة وإزاحة مواطن الضعف ولا بدّ قبل هذا من المبادرة والمبادأة فمنطقة مثل المغرب العربي بما تحويه من ثروات طبيعية وكفاءات بشرية مع التقلص النسبي لهامش النزاع يمكن أن تمثل لبنة أولى ورافعة ممكنة في الشروط التاريخية الرّاهنة لاستعادة العرب لدورهم ومكانتهم.