قراءة في كتاب : " آراء المستشرقين الفرنسيين حول القرآن الكريم دراسة نقدية " للدكتور أحمد نصري أستاذ الإستشراق والدراسات القرآنية بالمغرب فؤاد بلمودن باحث في الثراث الحضاري الإسلامي / المغرب
صدر ضمن منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالمحمدية كتاب لفضيلة الدكتور أحمد نصري موسوم ب: " آراء المستشرقين الفرنسيين حول القرآن الكريم دراسة نقدية " ونظرا لأهمية هذه الدراسة ولقيمتها العلمية ، ارتأيت بعد مطالعتي للكتاب أن ألفت القراء إلى أهميته عبر هذه القراءة السريعة .
1* الاشكالية العامة المثارة في الكتاب : وتتمثل في مواقف وآراء المتشرقين حول القرآن وما تثيره من شبهات تمس مصداقية القرآن وتسعى للنيل من مكانته باعتباره وحي إلهي . وهذه الإشكالية تبدو من عنوان الكتاب ومقدمته حيث ورد في الصفحة 2و3على التوالي: "وهكذا حارب المستشرقون القرآن الكريم حربا جربوا فيها كل أنواع التهم والشبهات والمطاعن فتارة يطعنون في نسبته إلى الله تعالى . والزعم بأن محمدا صلى الله عليه وسلم قد افتراه . وتارة بالتشكيك في تعاليمه . والخروج على آدابه . وتارة بعدم صلاحيته للحياة وقصره على العبادات من صلاة وزكاة . وتارة يتهمونه بالتناقض وتارة باللحن وتارة بفساد النظم وأخرى بإنكار الإعجاز إلى ما شاء الهوى من من ألوان التهم ". 2* الأفكار الأساسية التي ميزت مقاربة الكاتب يمكن إجمالها في الامور الآتية : - الانطلاق من مبدء أصيل يتفق حوله العقلاء والألباء مفاده أن القرآن كلام الله ووحيه وأنه بما يتضمنه من حكم وقيم وإعجاز هو فوق طاقة البشر وحدود معرفتهم بما يحيل أن يكون مجرد إبداع بشري أنجزته العبقرية البشرية كما يزعم أكثر المستشرقين تفاؤلا . - إيمان الكاتب العميق والمتجدر بتهافت آراء المستشرقين ودعاويهم حول القرآن وتقته ببطلانها . مما جعله يسوقها من مضانها موفورة دون بتر مخل أو إطناب ممل مع عزوها لمصادرها الأصلية وترجمتها بدقة وأمانة . ثم مناقشتها بكل جرأة ونزاهة علمية ليكشف عوارها وتهاويها أمام الحقيقة القرآنية الناصعة ، ولذلك كان كثيرا ما يرد شبهات المستشرقين حول القرآن بالقرآن نفسه فهو في هذا الجهد العلمي كأنه يذود عن القرآن بالقرآن ، وبما جادت به قريحته الوقادة من وسائل الحجاج النقلية والعقلية وقد يرد آراء المستشرقين بعضهم بآراء بعض ، فيرد بذلك كيدهم في نحورهم . - تحديد موقف المستشرقين من الوحي حيث يعتبرونه مجرد أحداث تاريخية أو مجموعة من الوقائع الاجتماعية مما انعكس على تصورهم للقرآن ، فهم يعتبرونه عمل بشري محض، يسري عليه كل ما يسري على أي عمل بشري من خضوع للنقد والإستدراك ، ومقارنته بسواه من الأدبيات التي كانت سائدة في عصره ، ولذلك نجذهم يميلون نحو التفسير المادي للوحي ، مما جعلهم غير قادرين على الوصول لأي نتيجة علمية يعول عليها سوى التخمينات والأوهام رغم ادعاءهم الموضوعية والحياد . - تركيز المستشرقين على القصص القرآني لدعم الفكرة القائلة إن القرآن هو استنساخ لما ورد في الكتب السماوية السابقة وأن الرسول صلى الله عليه وسلم استعار ما كان يعتمل في الجزيرة العربية من من أفكار دينية يهودية ومسيحية وبعض التقاليد التي حاول الرسول أن يهذبها ويضفي عليها الصبغة الدينية ، فاستطاع أن يكون من هذا الخليط دينا سماه الإسلام . كما أنهم اعتمدوا على نصوص ساقطة ومتهافثة لاتصلح لتنبني عليها أحكام علمية متناسين أن القرآن يمثل الحقيقة المطلقة التي لا يمكن أن تخضع لأي حكم نسبي كما يقرر ذلك علم المنطق . - تحديد المشكلة الأساسية للدراسات الإستشراقية وتتجلى في كونها تنطلق من مسبقات فكرية وقوالب جاهزة ومحاولة الاستدلال عليها بكل ما يخدم النتيجة المحددة سلفا ، فجاءت آراؤهم مجافية لروح القرآن ومصادمة لأبسط البديهيات الإسلامية التي تقرر أن القرآن له امتياز خاص يجعله يعلو على الزمان والمكان . 3* المنهج المستخدم هو المنهج التحليلي ، والمنهج التحليلي يقوم على دراسة الإشكالات العلمية المختلفة تفكيكا وتفسيرا أونقد وتقويما أو تركيبا واستنباطا ، وقد جمع الكاتب في اعتماد هذا المنهج بين طريقتي التفسير والنقد ، فهو يعرض آراء المستشرقين الفرنسيين شرحا وتعليلا ، ثم ينقدها على سبيل التزامن أو على سبيل التراخي ، فكان في الغالب يأتي العمل النقدي لاحقا للعمل التفسيري التفكيكي. وقد جاء هذا المنهج مناسبا لطبيعة البحث لأنه يساعد على استخلاص نتائج علمية جديدة وطيبة ، بدل الانسياق وراء الاسلوب العاطفي الانفعالي الذي لا يؤسس لأي حقيقة علمية ولا يوصل لنتائج محترمة ، بل يهدف لشحن الطاقات الإنفعالية ويسد في العقول منافذ التفكير السليم ، وقد صرح الكاتب - حفظه الله - بمنهجه المعتمد ودواعي استخدامه في مقدمة الكتاب حيث يقول: " وقد غلب على منهج البحث الجانب النقدي مما ناسب طبيعة البحث وساعدني على استخلاص مجموعة طيبة من النتائج يمكن أن تكون إضافة جديدة ..." ص 8 4* تعتبر هذه الدراسة استجابة لدافع موضوعي في تناول موضوع بكر لاتكاد تجد دراسة وافية له ، فأغلب الدراسات في هذا المجال تناولت موضوع الاستشراق عموما أو آراء المستشرقين حول قضايا إسلامية عامة وفي الغالب ماتنصب الدراسات على آراء المستشرقين الألمان أوالإنجليز أو من صنفوا كتبهم باللغة الانجليزية مثل ما أورده الدكتور محمد البهي في كتابه الفكر الإسلامي الحديث حيث ساق بحثا حول المستشرقين الناطقين بالإنجليزية . وبذلك تعتبر دراسة المستشرقين الفرنسيين حول القرآن بمثل هذه الدقة والإحكام أمر غير مسبوق ، وتكمن أهميته من كون المستشرقين الفرنسيين هم الأظهر تأثيرا والأكثر نفيرا في مجال الدراسات الإستشراقية المعاصرة ، بل إن بضاعتهم نافقة بالسوق الغربية ولهم سلطان على كثير من المثقفين المغاربة بالنظر لحالة التبعية الثقافية التي فرضها الاستعمار، ولهذا نجد بعض المثقفين الاكادميين بالغرب الإسلامي أمثال أركون والجابري هم رجع الصدى لهذه الآراء والمواقف . وقد كان الكاتب موفقا في هذه الدراسة من حيث التناول العميق لهذه الآراء وإبطالها بالحجج الدامغة والبراهين القاطعة ، هذا من حيث المضمون ، أما من حيث المنهج فإن أغلب الدراسات الإسلامية لآراء المستشرقين يغلب عليها الطابع العاطفي الإنفعالي ، وهو أمر مطلوب شرط أن لا يغيب مستلزمات الدراسة العلمية الموضوعية التي تروم الاقناع عبر سوق الحجج والأدلة ، وهذا ما تتميزبه هذه الدراسة التي بين أيدينا حيث تسلح الكاتب - حفظ الله– بمنهج علمي نقدي رصين يناسب طبيعة هذه الدراسة ويساعد على كشف الحقيقة وذلك وفق خطة علمية محكمة أبان عنها المؤلف في ديباجة الكتاب مما جعل منه بحق إضافة علمية جديدة في حقل الدراسات الإسلامية الإستشراقية ومرجعا لا مندوحة لأي باحث عن الرجوع إليه في هذا الباب . 5* الجانب اللغوي والمفاهيمي للبحث : اعتمد البحث جهازا مفاهيميا يتسم بقدر كبير من الدقة والأصالة والوضوح فهو يبتعد عن المصطلحات الهجينة أو المترجمة أو ذات الحمولة الإيديولوجية ، ويوظف المصطلحات الفصيحة والقرآنية ككلمة نصرانية بدل مسيحية ، وبذلك ينأى بنفسه عن الكثير من الظواهر اللغوية الدخيلة والمفاهيم المستحدثة ، والتي يكثر تدولها في هذا الحقل من الدراسات على وجه التحديد ، وهذا الأمر ينعكس على مجمل النواحي اللغوية والأسلوبية للكتاب ، حيث جاء بحثا سليما من حيث لغته متين من حيث أسلوبه وشائق في موضوعه ، الشيء الذي يشد القارئ إليه شدا من أوله إلى منتهاه ، ولعل ذلك عائد إلى الملكات الأدبية والأصالة الفكرية للمؤلف - حفظه الله - وجزى عنه الإسلام والمسلمين كل خير . 6* من أهم المميزات الكبرى لهذا البحث هي كثافة عملية التوثيق ، حيث يورد النصوص والآراء موثقة بشكل علمي سواء باللغة العربية أو مترجمة ، فكان ينسب الآراء لأصحابها ويعزو النصوص لمضانها ، وقد اعتمد الكاتب قدرا هائلا من المراجع والمصادر والتي تفوق 120 كما ستأتي الإشارة لذلك . 7* أما فيما يتعلق بمصادر الكاتب ومراجعه فهي كثيرة وشاملة تفوق 122مرجعا منها 95مرجعا باللغة العربية أو مترجما إليها و27 مرجعا باللغة الفرنسية والانجليزية أو مترجما من اللغة الرومانية والألمانية إلى الفرنسية ، وهي مراجع كافية وشافية للإحاطة بموضوع البحث وتتبع أطرافه والإلمام بجوانبه قياسا إلى أطروحة الكاتب في مجال الدرس القرآني من وجهة نظر المستشرقين الفرنسيين ، ولا يتعلق الأمر هنا بالتنويه فقط بالكم الهائل من المصادر والمراجع بل حتى بنوعيتها ويكفي أن يعتمد البحث كتابات وآراء أمثال ألبير كازيمرسكي و مونتيه إدوارد و هنري ماسيه و ريجي بلاشير و مكسيم رودنسون وهم الأكثر أهمية والأظهر أثرا في حقل الاستشراق وفي مجال الدراسات القرآنية بالتحديد. 8* كيفية تعامل الكاتب مع النصوص والآراء المخالفة : يورد الكاتب النصوص بلغتها الأصلية ثم يورد ترجمتها ، فكانت الترجمة تتسم بالدقة والموضوعية والأمانة ، كما أن إيراد النصوص بهذا الشكل مزدوجة اللغة يدفع أي لبس أو ارتياب بشأن مضامينها . سيما ونحن ندرك حجم المخاطر التي تنطوي عليها الكثير من الترجمات في مثل هذه المواضيع الشديدة الحساسية وما يمكن أن تنبني عليها من أحكام ومواقف ، كما أن الكاتب يورد النصوص التي تعبر عن آراء المستشرقين الفرنسيين بشكل وافر ودقيق دون بتر مخل أو إطناب ممل ، ثم يعزوها لمضانها الأصلية ، وينصب عليها بالدراسة والتحليل والنقد مبينا مواضع القوة ومكامن الخلل ، وكثيرا ما يرد على المستشرقين بآراء بعضهم على بعض ، وبذلك كان تعامله مع النصوص تعاملا علميا موضوعيا إلى حد كبير ، وطريقة معالجته للآراء اتسمت بقدر كبير من النزاهة والدقة . * وختاما يعتبر كتاب آراء المستشرقين الفرنسيين حول القرآن الكريم , دراسة علمة نقدية تتسم بقدر كبير من الجدة والموضوعية ، فهي دراسة جاءت لتسد فراغا ملحوظا في هذا المجال كما أن المنهج المستخدم أسعف ا لكاتب في تحقيق أهداف ومامي هذه الدراسة ، حيث تسلح المؤلف – حفظه الله – بمنهج قرآني أصيل ولغة فصيحة ومتينة مستخدما أساليب متنوعة في الحجاج ورد الشبهات ، وقد ساعده في ذلك اطلاعه على أمهات كتب الاستشراق ، وخبرته العلمية في هذا الباب جعلته قادرا على كشف مواطن القوة ومكامن الضعف في خطاب المستشرقين ، فضلا عن إدراكه المسبق لأصولهم الفكرية ومنطلقاتهم الإيديولوجية وخلفياتهم اللاهوتية التي تصدر عنها تلك الآراء المتهافتة ، والتي تهدف للنيل من الوحي الرباني والطعن في صدقيته والتقليل من قيمته والتوهين من شأنه عند المسلمين حتى يتمكنوا من تنفيد مخططاتهم الصليبية الصهيونية المتمثلة أساسا في إبعاد الناس عن القرآن، حتى قال المبشر باكلي : " يجب أن نستخدم القرآن وهو أمضى سلاح في الإسلام ضد الإسلام نفسه ، حتى نقضي عليه تماما ، يجب أن نبين للمسلمين أن الصحيح في القرآن ليس جديدا و أن الجديد فيه ليس صحيحا " الصفحة 2 من مقدمة الكتاب . * فؤاد بلمودن * باحث في الثراث الحضاري الإسلامي