انخفاض في جرحى حوادث المرور    مناقشة مقترح النظام الاساسي للصحة    مصطفى عبد الكبير: "معلومات شبه مؤكدة بوجود المفقودين في مركب هجرة غير نظامية غادر سواحل صفاقس الاثنين الماضي، في التراب الليبي"    بوعرقوب: انطلاق موسم الهندي الأملس    مصر تعلن تَأَثّرها بالهجوم السيبراني على مطارات أوروبا    رابطة الأبطال ...الترجي بخبرة الكِبار والمنستير لاسعاد الأنصار    كاس الكنفدرالية: الملعب التونسي يفوز على الجمعية الثقافية نواذيبو الموريتانية 2-صفر    تونس تشارك في بطولة العالم لألعاب القوى لحاملي الاعاقة بالهند من 26 سبتمبر الى 5 اكتوبر ب11 متسابقا    منوبة : انتشال جثتى شقيقين حاولا انقاذ كلبة من الغرق    أولا وأخيرا... سعادتنا على ظهور الأمّهات    تونس ضيف شرف مهرجان بورسعيد السينمائي الدولي: درة زروق تهدي تكريمها إلى فلسطين    في تظاهرة غذائية بسوسة ...«الكسكسي» الطبق الذي وحّد دول المغرب العربي    عاجل: إيقاف اكثر من 20 ''هبّاط'' في تونس    وزير خارجية ألماني أسبق: أوروبا مجبرة على التفاوض مع تونس بشأن ملف الهجرة    عاجل: إنهيار سقف اسطبل يتسبب في وفاة شاب وإصابة آخر    عاجل: الأمطار تعمّ أغلب مناطق تونس خلال الفترة القادمة    العائلة والمجتمع: ضغوط تجعل الشباب التونسي يرفض الزواج    الكاف.. معرض لمنتوجات المجامع الفلاحية    شبهات فساد تُطيح بموظّفين في بنك الدم بالقصرين: تفاصيل    عاجل: شيرين عبد الوهاب أمام القضاء    جمال المدّاني: لا أعيش في القصور ونطلع في النقل الجماعي    كل نصف ساعة يُصاب تونسي بجلطة دماغية...نصائح لإنقاذ حياتك!    التيار الشعبي يدعو الى المشاركة في اضراب عالمي عن الطعام دعما لغزة    التنس: تأهل معز الشرقي الى نهائي بطولة سان تروبيه للتحدي    كرة اليد: منتخب الصغريات يتأهل إلى نهائي بطولة افريقيا    بنزرت: تنفيذ اكثر من 80 عملية رقابية بجميع مداخل ومفترقات مدينة بنزرت وتوجيه وإعادة ضخ 22,6 طنا من الخضر والغلال    مسرحية "على وجه الخطأ تحرز ثلاث جوائز في مهرجان صيف الزرقاء المسرحي العربي    "أمامكم 24 ساعة فقط".. كبرى الشركات الأمريكية توجه تحذيرا لموظفيها الأجانب    تحذير هام: تناول الباراسيتامول باستمرار يعرّضك لهذه الأمراض القاتلة    عاجل: وفاة عامل بمحطة تحلية المياه تابعة للصوناد في حادث مرور أليم    هذا ما تقرّر ضد فتاة أوهمت شبّانا بتأشيرات سفر إلى الخارج.. #خبر_عاجل    معاناة صامتة : نصف معيني مرضى الزهايمر في تونس يعانون من هذه الامراض    زغوان: غلق مصنع المنسوجات التقنية "سيون" بالجهة وإحالة 250 عاملا وعاملة على البطالة    سليانة: وضع 8 ألاف و400 قنطار من البذور منذ بداية شهر سبتمبر    رابطة الأبطال الافريقية: الترجي الرياضي والاتحاد المنستيري من أجل قطع خطوة هامة نحو الدور الثاني    كتائب القسام تنشر "صورة وداعية" للأسرى الإسرائيليين إبان بدء العملية في غزة    غدا الأحد: هذه المناطق من العالم على موعد مع كسوف جزئي للشمس    الاحتلال الإسرائيلي يغتال عائلة مدير مجمع الشفاء في غزة    عاجل/ بشائر الأمطار بداية من هذا الموعد..    بنزرت: حجز أطنان من اللحوم والمواد الغذائية المخزّنة في ظروف غير صحية    تكريم درة زروق في مهرجان بورسعيد السينمائي    عاجل/ ترامب يُمهل السوريين 60 يوما لمغادرة أمريكا    لكلّ من فهم بالغالط: المغرب فرضت ''الفيزا'' على هؤلاء التوانسة فقط    صرف الدفعة الأولى من المساعدات المالية بمناسبة العودة المدرسية في هذا الموعد    الكاف: قافلة صحية تحت شعار "صحتك في قلبك"    أكثر من 100 ألف تونسي مصاب بالزهايمر ومئات الآلاف من العائلات تعاني    لماذا يضعف الدينار رغم نموّ 3.2 بالمائة؟ قراءة معمّقة في تحليل العربي بن بوهالي    "يوتيوب" يحظر حساب مادورو    عاجل/ عقوبة سجنية ضد الشاب الذي صوّب سلاحا مزيّفا تجاه أعوان أمن    بعد موجة من الانتقادات.. إيناس الدغيدي تلغي حفل زفافها وتكتفي بالاحتفال العائلي    اليوم: استقرار حراري وأمطار محدودة بهذه المناطق    القيروان.. 7 مصابين في حادث مرور    استراحة «الويكاند»    عاجل/ البنك التونسي للتضامن: إجراءات جديدة لفائدة هؤلاء..    ما تفوتهاش: فضائل قراءة سورة الكهف يوم الجمعة!    الرابطة المحترفة الاولى : حكام مباريات الجولة السابعة    وخالق الناس بخلق حسن    يا توانسة: آخر أيام الصيف قُربت.. تعرف على الموعد بالضبط!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



النهضة وسؤال الهويّة بين الصحوة الأولى والصحوة الثانية
نشر في الحوار نت يوم 27 - 07 - 2010

لاحظت خلال مقابلاتي لبعض العناصر القيادية من حركة النهضة بمن فيهم زعيمها الشيخ راشد تحسّرا شديدا على وضع الصحوة الإسلامية المباركة التي عمّت بلادنا في هذه العشرية، لا إشفاقا عليها مما تواجهه من تضييق أمني ومحاصرة مقيتة، ولا خوفا عليها من محاولات الاستغلال والتمييع من قبل نظام فاسد معربد.. بل تحسّرا على انعدام الإطار الحركي القادر على تنظيمها وتوجيهها في ظل غياب النهضة عن الفعل في البلاد.


كنت كلما سمعت تحسرا من أحدهم ارتعدتْ فرائصي خوفا من المستقبل. فمن الطبيعي أن نخاف على هذه الصحوة من مكر النظام الفاسد ومؤامراته ونشفق عليها من تنكيله واضطهاده، لكن هل من الطبيعي أن نخاف على هذه الصحوة الثانية من النهضة نفسها وهي الإطار الحركي الذي سبق أن استقطب الصحوة الأولى منذ أواسط السبعينيات ووجّهها الوجهة التي نعلمها جميعا؟

لا شك أن الصحوة الأولى ما جاءت إلا لداعي حماية الهويّة في بلد من بلدان التخوم المطلّة على ضفاف الغرب مصدر التحديات الكبرى.. وردا على الإحباط الذي آلت إليه أمّتنا بعد فشل المشاريع الرعناء اليسارية والقومية التي ما جلبت إلا النكبات لهذه الأمة. ولا شك أيضا في حسن نوايا الاتجاه الإسلامي من مسعى التأطير والتوجيه آنئذ، فالأمر ليس موضوع نوايا ومقاصد، ولكن الأمر يتعلق بالنتائج الملموسة في الواقع. فما كان روّاد الاتجاه يخشونه آنذاك من ركوب نظام علماني متطرف لموجة الصحوة قصد توظيفها، قد وقعت في ما هو أسوأ منه بإشعار ذلك النظام أن الصحوة ما جاءت إلا لتستهدفه. حيث انقلب وقتها نظام المقبور (بورقيبة) من مستبشر بظهور صحوة ستساعده في مواجهة اليسار بشتى واجهاته الثورية، إلى خائف يترقب من موجة شبابية عارمة راسخة الأصول تستهدفه وتسعى إلى هز أركان نظامه.

وحتى لا نتجنّى على الحركة؛ لا يمكن هنا أن نتجاهل عاملَ سمة الشمول في الدعوة الإسلامية -التي قامت على أساسها الصحوة- وهو عامل لا يسمح بالفصل بين الجانب الدعوي (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) والجانب السياسي المؤثر بقوة في الواقع الاجتماعي، وهي سمة من شأنها أن تؤول بالضرورة إلى التصادم وإن عاجلا في ظل توجه علماني مغال. فالداعي إلى الخير الآمر بالمعروف لمّا يتوجه بخطابه إلى العامة منكرا ظاهرة انتشار الخمور على الملأ، أو مظاهر الانحلال الأخلاقي المتفشية في قطاع السياحة مثلا، فإنه من الطبيعي أن يُفهم منه أنه ينتقد سياسة الدولة التي أتاحت تلك المظاهر وشرّعت لها بدل أن تعمل على محاربتها في بلد إسلامي. حيث يظهر ما أراده الداعي نقدًا اجتماعيا في مظهر النقد السياسي.
لذلك فإن التصادم قدَر لم يكن منه مفرّ وإنما هي مسألة زمن. ولكن ذلك لا يدرأ عنا أيضا حقيقةً جليةً؛ مفادها أنه لا حكمة في أي تصرّف بدون مراعاة عامل الزمن، فما بالك إذا كان هذا التصرف يتعلق بمصير بلاد ومستقبل أجياله.

لا يسعنا إلا الاعتراف بأن غياب الحكمة وسوء التقدير قد جعلنا نتسرع في حرق المراحل، فغلّبنا الكم على الكيف، وحثثنا الخطى في اتجاه خوض غمار العمل السياسي، متجاهلين أن ذلك من شأنه استفزاز نظام فردي لا عهد له بالمشاركة، وفي وضع غياب المؤسسات المحصِّنة للمجتمع من سطوة السلطة، والأخطر من كل ذلك تجاهلُنا لطبيعتنا الدعوية التي تقتضي منا في الأساس بناء التربية الروحية والسلوكية الفردية ثم الاجتماعية قبل الانشغال بأي شيء آخر.

فالإقدام على غوائل العمل السياسي –وخصوصا في وضع بلادنا حيث لا حصون روحية تحمي الهوية ولا حصون مؤسساتية تحمي المجتمع- وفي واقع لم يتأسس فيه الفرد ليكون أهلا للمواجهة ومستعدا للتضحية الجسيمة، كان مغامرة مهلكة لا تؤدي إلا إلى ارتكاس المسيرة برمتها وعودتها عقودا إلى الوراء بعد الدمار الجسيم الحاصل فيها على جميع المستويات.

وليس هذا بالأمر الخافي عن قيادة الحركة، فقد كان يُتناقل (منذ بداية التسعينيات) ما صدعت به القيادة من القول بأن "سبب هزيمتنا في مواجهة نظام يفتقر للشرعية والشعبية هو أن صراعنا معه كان صراعا ماديا غاب عنه الوازع الإيماني من كلا الطرفين"[1]، وهذا لا يُفهم إلا على أنه اعتراف بالفراغ التربوي الإيماني الذي دُفعت الحركة في ظله إلى خوض غمار المواجهة التي كانت بدورها نتيجة لإقدامها على ولوج العمل السياسي[2].

ولا أدَل على حقيقة ما أشرنا إليه -من غياب التربية الروحية والتكوين الفكري معا- من مسارعة الكثيرين من أبناء الحركة -بل ومن أعلى المستويات التنظيمية (الأعضاء خصوصا)- إلى الالتحاق بالتنظيمات السلفية والشيعية، حيث واجهت الحركة خلال عشرية التسعينيات موجة من المولّين وجههم شطر التسلّف والتشيّع، ولا يخفى على أحد أن عامة هؤلاء كانوا يعانون فراغا تربويًّا وأكثر منه فكريًّا، وأنهم لا يصلحون لا لدعوة ولا نضال وفي أي واجهة كانت.. مع أنهم كانوا في أعالي السُّلّم التنظيمي.
أليس الدخول في أي عمل لحماية المجتمع وصوْن هويّته -فضلا عن أن يكون مواجهة للسلطة- بأمثال هؤلاء هو أشبه بانتحار من يقتحم حربا بلا سلاح!

ليس المراد بهذا إثارة المواجع والنخر في جسد منهك، ولا جلدا للذات، ولا محاسبة أحد على ما فات، ولا حتى مجرد النقد المشروع من داخل الحظيرة. وإنما هو الخوف من المستقبل، فطول المحنة لا ينفي أننا عائدون لا محالة إلى بلادنا يوما، فجثوم الجاثم إلى زوال، وقضيتنا مبدئية تتعلق بهوية شعبنا ومصير أجياله القادمة.. لا ريب في كل ذلك ولا جدال، ولكن السؤال الذي يظل قائما هو: أين الصحوة منا وأين نحن منها؟ وماذا قدّمنا للصحوة الأولى لنقدّم للصحوة الثانية؟

أحسب أننا سنغالط أنفُسنا ونجني على الصحوة الثانية التي تملأ مساجد تونس اليوم وشوارعَها لو قدّمنا أنفسَنا على أننا الحكيم الذي لا غنى لها عن حكمته. فكوْنُها صحوة عفوية غير مأمونة العواقب في ظل ما تواجهه من مخاطر هو أمر لا شك فيه، ولكن هل نستطيع أن نقدّم لها نحن مستقبلا أفضل مما قدمنا للصحوة الأولى سابقا دون أن نوقعها في شتى المخاطر؟
لا أتردد في أن أجيب بالنفي المطلق، والتأكيد على أننا إنما نهيّئ أنفسنا لتكرار الخطأ، فليس عيبا أننا أخطانا بقدر ما هو عيب أن نكرر نفس الخطأ ولا نتعظ من خطئنا السابق في أمر على هذا القدر من الخطورة، إنه مصير هوية بلادنا ومستقبل أجيالها.

قد يبدو الأمر لمن ينظر إليه نظرة سطحية أنه لا يعدو كونه موقف متشائم منفي بين البلدان تمخض عن معاناة عقدين من الزمن، ولكن الحقيقة أنها تجربة عقد كامل مرّ علينا ولم نر فيه ما يدل على أننا حركة مبدئية تناضل من أجل الهوية.
فإذا طرحنا جانبا عقدا كاملا من الزمن (التسعينيات) كنا نقول فيه: إننا ملاحقون مضطهدون في الداخل ومشرّدون مشتّتون في الخارج، فلم نستطع أن ننجز شيئا بسبب شراسة الجاثم وأزلامه.. فماذا نقول في عقد كامل تلاه -وهو يوشك الآن على الانتهاء- لم نفعلْ فيه شيئا غير الانتظار؟ وانتظار ماذا؟ انتظار تغيّر المعطيات الدولية التي جاءتنا بالجاثم ليجثم على صدورنا وصدور شعبنا، أو هو انتظار الأقدار التي ستتكفل يوما بقبر الجاثم ونقله إلى رحاب الله، لنعود نحن بعدها إلى شعبنا المكبوت فيستقبلنا بالتهليل ويأخذنا بالأحضان، غافلين عن أن صحوة اليوم ليست هي ذاتها صحوة السبعينيات، فهي لن تكون مهيّأة لتتحول من صحوة إلى حركة مستقبلا، إلا بعد تحقق شروط وضمانات لن تكون بأيدينا. بل إن هذه الصحوة لا تكاد تعرف عنا شيئا بفعل ما قام به النظام من ترهيب وتعتيم على جميع الواجهات وحتى الافتراضي منها، ولا نشك في أنه نجح في ذلك أيّما نجاح مستفيدا من كل المعطيات... وما استمرار تنامي الصحوة في ظل هذه الأوضاع الخطرة، وفي اتجاه مخالف لما تتمناه السلطة إلا تعبير عفوي عن صدى الفطرة المتغلغلة في أعماق شعبنا، ظهر بشكل تلقائي ليحمي الهوية رغم غياب الإطار التنظيمي الذي عرفه الناس قبل عقدين من الزمن متبنيًّا لتلك الهوية. وهنا يُثار السؤال: مَن المؤهّل لحماية الهوّية، الحركة المنظّمة، أم الصحوة العفوية؟

أعود مجددا لأتساءل -ونحن نصرّ على القول أننا مازلنا بعد كل ما فعله بنا الجاثم نمثل تنظيما قائم الذات اسمه حركة النهضة ذائعة الصيت التي لا يجهلها حتى الجهلة- أليس من طبيعة أي تنظيم أن يكون له هيكل يربط أفراده ببعضهم البعض، وله نشاط إعلامي يبلغ جميع أبنائه، ليشعروا أن تنظيمهم حيٌّ، وليشعر كل واحد منهم أنه فرد في منظومة مازالت تنبض؟

لست أتحدث عن مؤسسات الحركة التنظيمية (الهيكلية) ولا عن نشاطها في داخل البلاد، فهذا وضْعه مفهوم. بل -باعتباري أحد الأفراد المهجّرين في هذا التنظيم- أسأل عن وجود الحركة خارج البلاد في المهاجر، فكوْن الحركة موجودة يعني أنها حية يدب فيها النشاط، وحياتها تعني بالضرورة وجود علاقات قائمة ونفَس يسري بين أبنائها، وإلا فما معنى الحركة والتنظيم!

ما أراه شخصيا منذ سنوات طويلة هو الفوضى ولا شيء غير الفوضى،
فوضى في طبيعة القضايا المثارة بين أفراد الحركة، بدون مراجعة ولا ترشيد من أحد،
فوضى في المقالات والمساجلات المتشنجة من أبناء الحركة من مختلف الصفوف، دون تدخل ولا تهدئة من كبار الحي،
فوضى في نشوز الكثيرين بمن فيهم بعض الرؤوس عن خط التنظيم دون تبيّن للحقائق ولا طرح للمبررات،
فوضى في الاستقالات الصامتة التي لا يسمع بها أحد، بسبب الارتباك والإحباط، لا بسبب التخلي ونكران المبادئ،
فوضى في تنوية الإخوان المخالفين، والجرأة على التجريح والتخوين والطعن في الذمم دون خوف من الله ولا ردع من إخوة في مقام الآباء،
فوضى ولا شيء غير الفوضى، والفوضى تتنافى مع التنظيم.
فهل أصبحت النهضة حركة بلا حركة غير حركة الفوضى في كل مجال وأظهرها الإعلام!
العجيب أن بعض القيادات مازال يتباهي بهذه الفوضى الإعلامية، مبررا ذلك بأنه ظاهرة صحية، ودليل على انفتاح الحركة وتسامحها. والبعض الآخر يُعزّي بها نفسَه وإخوانَه باعتبارها دليلا على أن الحركة مازالت حية، لأنه الصوت الوحيد الذي يخترق الصمتَ المطبق.. غافلين جميعا عن أنها شاهد صارخ على غياب المستوى التربوي الذي يؤهل صاحبه لمشروع هداية مجتمعه إلى سواء السبيل.

أذكر جيدا أن قيادة الحركة كانت قد وعدت في 2005 بأن تهتم مستقبلا بما يُثار من قضايا بين أبناء الحركة على صفحات الأنترنيت، لتوضح غوامض الأمور، وتشارك فيها بما يُسهم في درء أسباب السّبَاب والتباغض الذي وصل حدًّا لا يليق حتى بين المؤمن والكافر[3].
ولكننا لم نر شيئا جديدا، بل إن قيادة الحركة ظلت غائبة تماما عن المشهد، وكأن الأمر لا يعنيها البتة، فغير المقالات المناسباتية المحتشمة من الشيخ راشد من حين لآخر -والمتعلقة غالبا بأحداث عارضة بعيدة عن بلادنا- لم نر شيئا من قيادة الحركة، وكأنه لا شيء يستحق الحديث عنه بخصوص وضع الحركة نفسها، أو كأن قيادات هذه الحركة ليسوا من المثقفين أصلا ليُدلوا برأيهم في قضايا انشغلت بها قواعدهم وحتى غير قواعدهم من سائر المثقفين التونسيين.

بل الأغرب أن تلك القواعد التي هي في حاجة إلى التذكير والترشيد وحسن التوجيه، هي التي تتقدم مسيرة إثارة القضايا والجوْس خلالها والإسهام في بيان مواقفها منها[4]، بهدوء ولين من البعض، وبتشنج وتوتر من البعض الآخر، بأسماء بعضها حقيقية مجهولة، وبعضها الآخر مستعارة هي أكثر جهلا.
بخلاف القيادات الشهيرة التي تعلو أسماؤها النارَ على العلم، فلا نسمع لها صوتا في المنابر الإعلامية، ولا نرى موقفا لها في أي قضية.
فهل هو الجهل وانعدام الكفاءة، أم هو الإحباط والإعراض من كبار الحيّ!
في كلا الحالتين الأمر لا يبشّر بخير، لأنه لا تنظيم بدون رجال يسهرون على سلامته وحسن توجيهه، فأين رجال التنظيم إذن؟ ومن لؤلئك المساكين الذين نصِفهم بأنهم لم يتلقوا التربية الإسلامية الكافية ليتحاوروا بينهم بأدب، بسبب غلبة التسييس على التربية في خط الحركة منذ عقود، أين تلك القيادات لتصحّح ما تيسر من أخطاء الماضي ولا تترك الحبل على الغارب، أم أن القيادات نفسها ينطبق عليها وصفُ غياب تلك التربية لتربّيَ غيرها، وفاقد الشيء لا يعطيه.

أحسب أن الأمرَ في غاية الخطورة، إلى درجة أنه من حقي وحق الكثيرين غيري أن نخشى على بلادنا منّا نحن أنفسنا في المستقبل. ففي ظل ما نراه من شراسة أبناء الحركة وشدة بأسهم بينهم، وعدم تسامحهم البتة، وسرعة إثارتهم وانطباعيّتهم، واندفاعهم نحو التشكيك والتخوين...
- كيف لنا أن نتجاوز أخطاءنا -التي دفع فيها كثيرون ثمنا باهظا جدا لا يمكن جبْره- ونغفرها لبعضنا بعد رجوعنا إلى بلادنا، ونحن على هذه الحال من التنطع والتشنج؟
- وبالأحرى أنّا لنا ذلك الحِلم المطلوب لتجاوز محن الماضي والنظر إلى مستقبل بلادنا في تعاملنا مع من اضطهدنا وهم كثر جدا لا يمكن تعقبّهم ومعاقبتهم إلا إذا حللنا محلهم في اضطهاد شريحة واسعة من التونسيين، باسم مبدأ العدل الذي سيتشبث به كثيرون حتى يختلط عليهم بنعرة الانتقام، وفي وقت سيصرّ فيه البعض على المحاسبة قبل استئناف المسيرة من جديد؟

- ثم ماذا أعددنا لتلك اللحظة التي ننتظرها جميعا بعد الرجوع إلى بلادنا؟
- ماذا أنجزتْ الحركة لمواكبة واقع أبنائها في الخارج؟ لا أسأل ماذا أنجزت لهم، فقد أنجزوا لأنفسهم الكثير، بالحصول على الشهادات العليا في شتى الاختصاصات، ونجاح بعضهم في اقتحام مجالات مهمة كثيرة منها المال والإعلام وغيرها. لكن ماذا فعلت الحركة لتنظيم صفوفهم وتعريفهم ببعضهم ومساعدتهم على بناء الأطر التي يصْبون إليها (وستكون هي في حاجة إليها مستقبلا) ولا يمنعهم غير التعارف كمقدمة لابد منها للتنظم؟
- هل فكّرت الحركة في أنها ستحتاج إلى هؤلاء في المستقبل، عندما نعود إلى بلادنا، ويُقال لنا هيّا أرونا ما تستطيعون فعله لخدمة بلادكم،
- أين كوادركم في مجال بناء المؤسسات الإعلامية؟
- أين خبراؤكم في مجال البنوك الإسلامية وسائر المؤسسات المالية؟
- ماذا ستفعلون لإصلاح نظام التعليم على أساس الهوية التي ناضلتم من أجلها؟
- ماذا في جعبتكم لتصحّحوا مسار المؤسسات المالية والإعلامية والتعليمية والتربوية والثقافية على أساس الهوية؟
- كيف ستبنون لنا مؤسسات المجتمع المدني التي ناديتم بها منذ الثمانينيات؟
- أرونا ماذا استفدتم من خبرة عقديْن قضيتموهما في ربوع الحرية بين أحضان خمسين دولة كثيرُ منها هي من أعظم دول العالم وأكثرها تقدما في جميع المجالات...


إن قيادات الحركة مشغولة عن كل هذا، ومشغولة عن أبنائها هؤلاء، بدليل أنها لم تلتفت إليهم حتى عندما يطلبون منها ذلك[5]، وكل المناشدات والمحاولات لم تلق آذانا صاغية[6]. ولكن بمَ هي مشغولة، هذا ما يحيّرني ويحيّر الكثيرين مثلي، لم نر غير الصمت المطبق، إنه الموت، فهلا حرّكتهم هذا الجسد الخامد لبعث الحياة فيه رحمكم الله، فإن هذه أمانة؟
لا نطلب منكم تغيير القيادات ولا إعادة هيكلة الحركة ولا حل مشاكلنا في المهاجر، ولا إعادتنا إلى بلادنا، ولا ولا..
ولكننا نريد فقط أن نرى تنظيما يُسمّى حركة النهضة، بالتواصل عبر المقالات السياسية والفكرية على صفحات الأنترنيت على الأقل، تواصلا يُشعرنا أن هناك وعيا ومتابعة للمستجدات مما يخصّلنا ويخص شعبنا.

أُؤكّد مجدّدا أنني كنت ومازلت وسأظل فردا في حركة جاءت لتناضل من أجل هوية بلادي وكرامة شعبها، أعرض رأيي من داخل حظيرتها، وليس هذا مقدمة للفراق كما فعل البعض، ولا هو من باب خالف تُعرف كما فعل آخرون ممن عُرفوا بفضل خروجهم عن السرب، ولكنه دافع الخوف من قادم المستقبل المجهول من خلال ملامح الحاضر المعتّم.
وعسى أن تكون هذه المبادرة بادرة خير لنقاش جاد رصين ومثمر بين إخوة الدرب الواحد، بحكمة وهدوء، بعيدا عن التجريح والتخوين.
وإن أريد إلا الإصلاح ولا شيء غير الإصلاح.
والله أعلم وأحكم.

محمد بشير بوعلي
جامعي تونسي مهجّر
------------------------------------------------------------------------
[1] سمعت هذا الإقرار منسوبا للشيخ راشد من قبل أحد القيادات الوسطى في المنفى في أواخر 1992.
[2]مما يؤكد هذا قولُ الشيخ راشد قبل بضعة أسابيع على شاشة فضائية الحوار: "إن النظام هالََه ما رأى من إعراض الشعب عنه في انتخابات 1989".
[3] يقول تعالى: "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن" (العنكبوت، 46).
[4] وما المبادرات المتعددة الصادرة عن القواعد خلال السنوات الفارطة ولعل آخرها "مبادرة حق العودة" إلا تعبير من تلك القواعد عن عدم الرضا بالركود الذي انتاب حركتهم فسعوا لإحداث حركة بعيدا عن قيادة الحركة وفي ظل غيابها عن الفعل.
[5]أنا شخصيا أثرت هذا الموضوع مع قيادة الحركة في بداية هذه العشرية ولم ألق غير الإعراض، وأثرته معهم مجددا قبل أيام، ولم أتلق حتى ردا فارغا.
[6]لاحظ مثلا الصمت الطويل خلال مساجلات موضوع المصالحة في 2005 الذي لم يتمخض عنه إلا تصريح نحيل لا يكاد يُستفاد منه شيء للقيادي عامر العريض بعد شهور من تخبّط أبناء الحركة ومساجلاتهم الساخنة على صفحات تونس نيوز.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.