رئيس الجمهورية يأذن بعرض مشروع نتقيح الفصل 411 من المجلة التجارية على مجلس الوزراء بداية الأسبوع المقبل    عضو هيئة الانتخابات: حسب الاجال الدستورية لا يمكن تجاوز يوم 23 أكتوبر 2024 كموعد أقصى لإجراء الانتخابات الرّئاسية    تونس حريصة على دعم مجالات التعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ( أحمد الحشاني )    مسؤول باتحاد الفلاحين: أضاحي العيد متوفرة والأسعار رغم ارتفاعها تبقى "معقولة" إزاء كلفة الإنتاج    تونس تشارك في الدورة 3 للمنتدى الدولي نحو الجنوب بسورينتو الايطالية يومي 17 و18 ماي 2024    المنستير: إحداث اول شركة أهلية محلية لتنمية الصناعات التقليدية بالجهة في الساحلين    العثور على سلاح "كلاشنيكوف" وذخيرة بغابة زياتين بجرجيس مخبأة منذ مدة (مصدر قضائي)    الترجي الرياضي يكتفي بالتعادل السلبي في رادس وحسم اللقب يتاجل الى لقاء الاياب في القاهرة    كاس تونس - النجم الساحلي يفوز على الاهلي الصفاقسي 1-صفر ويصعد الى ربع النهائي    الحرس الوطني: البحث عن 23 مفقودا في البحر شاركوا في عمليات إبحار خلسة من سواحل قربة    طقس... نزول بعض الأمطار بالشمال والمناطق الغربية    المنستير : انطلاق الاستشارة لتنفيذ الجزء الثالث من تهيئة متحف لمطة في ظرف أسبوع    اليوم العالمي لأطباء الطب العام والطب العائلي : طبيب الخط الأول يُعالج 80 بالمائة من مشاكل الصحة    قبل أسبوعين من مواجهة ريال مدريد.. ظهور صادم لمدافع دورتموند    بوسالم.. وفاة شاب غرقا في خزان مائي    مهرجان «بريك المهدية» في نسخته الأولى: احتفاء بالتّراث الغذائي المحلّي    عمر الغول.. الولايات المتحدة تريد قتل دور مصر بالميناء العائم في غزة    ملتقى وطني للتكوين المهني    المجلس المحلي بسكرة يحتجّ    منال عمارة: أمارس الفنّ من أجل المال    عاجل/ صفاقس: انقاذ 52 شخصا شاركوا في 'حرقة' وإنتشال 4 جثث    عاجل/ ضبط 6 عناصر تكفيرية مفتّش عنهم في 4 ولايات    النجم الساحلي يمرّ بصعوبة الى الدور ربع النهائي    كأس تونس : النجم الساحلي يلتحق بركب المتأهلين للدور ربع النهائي    تمدد "إنتفاضة" إفريقيا ضد فرنسا..السينغال تُلّوح بإغلاق قواعد باريس العسكرية    القصرين: القبض على شخص صادرة في حقه 10 مناشير تفتيش    الإنتخابات الرئاسية: إلزامية البطاقة عدد 3 للترشح..هيئة الإنتخابات تحسم الجدل    آمر المركز الأول للتدريب بجيش الطيران صفاقس: قريبا استقبال أول دورة للجنود المتطوّعين    قريبا.. الحلويات الشعبية بأسعار اقل    لتعديل الأخطاء الشائعة في اللغة العربية على لسان العامة    قراءة في أعمال ومحامل تشكيلية على هامش معرض «عوالم فنون» بصالون الرواق .. لوحات من ارهاصات الروح وفنطازيا الأنامل الساخنة    شبهات فساد: الاحتفاظ بمعتمد وموظف سابق بالستاغ وإطار بنكي في الكاف    بقلم مرشد السماوي: كفى إهدارا للمال العام بالعملة الصعبة على مغنيين عرب صنعهم إعلامنا ومهرجاناتنا!    المهرجان الدولي للمشمش بحاجب العيون في دورته الثانية ...مسابقات وندوات وعروض فروسية وفنون شعبية    ليبيا: اشتباكات مسلّحة في الزاوية ونداءات لإخلاء السكان    القيمة التسويقية للترجي و الأهلي قبل موقعة رادس    تضم منظمات وجمعيات: نحو تأسيس 'جبهة للدفاع عن الديمقراطية' في تونس    وزيرة الصناعة: مشروع الربط الكهربائي بين تونس وإيطاليا فريد من نوعه    هذه القنوات التي ستبث مباراة الترجي الرياضي التونسي و الأهلي المصري    أبو عبيدة: استهدفنا 100 آلية عسكرية للاحتلال في 10 أيام    ألمانيا: إجلاء المئات في الجنوب الغربي بسبب الفيضانات (فيديو)    5 أعشاب تعمل على تنشيط الدورة الدموية وتجنّب تجلّط الدم    وزير الصحة يؤكد على ضرورة تشجيع اللجوء الى الادوية الجنيسة لتمكين المرضى من النفاذ الى الادوية المبتكرة    السبت..ارتفاع ملحوظ في درجات الحرارة    ابرام اتفاق شراكة بين كونكت والجمعية التونسيّة لخرّيجي المدارس العليا الفرنسيّة    دار الثقافة بمعتمدية الرقاب تحتفي بشهرث الثراث    بينهم طفلان..مقتل 5 أشخاص نتيجة قصف إسرائيلي على لبنان    داء الكلب في تونس بالأرقام    حلوى مجهولة المصدر تتسبب في تسمم 11 تلميذا بالجديدة    كمال الفقي يستقبل رئيس منظمة الدفاع عن المستهلك    نحو 20 % من المصابين بارتفاع ضغط الدم يمكن علاجهم دون أدوية    جندوبة : يوم إعلامي حول تأثير التغيرات المناخية على غراسات القوارص    حفل تكريم على شرف الملعب الإفريقي لمنزل بورقيبة بعد صعوده رسميا إلى الرّابطة الثانية    الصادرات نحو ليبيا تبلغ 2.6 مليار دينار : مساع لدعم المبادلات البينية    ملف الأسبوع...المثقفون في الإسلام.. عفوا يا حضرة المثقف... !    منبر الجمعة .. المفسدون في الانترنات؟    مفتي الجمهورية : "أضحية العيد سنة مؤكدة لكنها مرتبطة بشرط الاستطاعة"    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



النهضة وسؤال الهويّة بين الصحوة الأولى والصحوة الثانية
نشر في الحوار نت يوم 27 - 07 - 2010

لاحظت خلال مقابلاتي لبعض العناصر القيادية من حركة النهضة بمن فيهم زعيمها الشيخ راشد تحسّرا شديدا على وضع الصحوة الإسلامية المباركة التي عمّت بلادنا في هذه العشرية، لا إشفاقا عليها مما تواجهه من تضييق أمني ومحاصرة مقيتة، ولا خوفا عليها من محاولات الاستغلال والتمييع من قبل نظام فاسد معربد.. بل تحسّرا على انعدام الإطار الحركي القادر على تنظيمها وتوجيهها في ظل غياب النهضة عن الفعل في البلاد.


كنت كلما سمعت تحسرا من أحدهم ارتعدتْ فرائصي خوفا من المستقبل. فمن الطبيعي أن نخاف على هذه الصحوة من مكر النظام الفاسد ومؤامراته ونشفق عليها من تنكيله واضطهاده، لكن هل من الطبيعي أن نخاف على هذه الصحوة الثانية من النهضة نفسها وهي الإطار الحركي الذي سبق أن استقطب الصحوة الأولى منذ أواسط السبعينيات ووجّهها الوجهة التي نعلمها جميعا؟

لا شك أن الصحوة الأولى ما جاءت إلا لداعي حماية الهويّة في بلد من بلدان التخوم المطلّة على ضفاف الغرب مصدر التحديات الكبرى.. وردا على الإحباط الذي آلت إليه أمّتنا بعد فشل المشاريع الرعناء اليسارية والقومية التي ما جلبت إلا النكبات لهذه الأمة. ولا شك أيضا في حسن نوايا الاتجاه الإسلامي من مسعى التأطير والتوجيه آنئذ، فالأمر ليس موضوع نوايا ومقاصد، ولكن الأمر يتعلق بالنتائج الملموسة في الواقع. فما كان روّاد الاتجاه يخشونه آنذاك من ركوب نظام علماني متطرف لموجة الصحوة قصد توظيفها، قد وقعت في ما هو أسوأ منه بإشعار ذلك النظام أن الصحوة ما جاءت إلا لتستهدفه. حيث انقلب وقتها نظام المقبور (بورقيبة) من مستبشر بظهور صحوة ستساعده في مواجهة اليسار بشتى واجهاته الثورية، إلى خائف يترقب من موجة شبابية عارمة راسخة الأصول تستهدفه وتسعى إلى هز أركان نظامه.

وحتى لا نتجنّى على الحركة؛ لا يمكن هنا أن نتجاهل عاملَ سمة الشمول في الدعوة الإسلامية -التي قامت على أساسها الصحوة- وهو عامل لا يسمح بالفصل بين الجانب الدعوي (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) والجانب السياسي المؤثر بقوة في الواقع الاجتماعي، وهي سمة من شأنها أن تؤول بالضرورة إلى التصادم وإن عاجلا في ظل توجه علماني مغال. فالداعي إلى الخير الآمر بالمعروف لمّا يتوجه بخطابه إلى العامة منكرا ظاهرة انتشار الخمور على الملأ، أو مظاهر الانحلال الأخلاقي المتفشية في قطاع السياحة مثلا، فإنه من الطبيعي أن يُفهم منه أنه ينتقد سياسة الدولة التي أتاحت تلك المظاهر وشرّعت لها بدل أن تعمل على محاربتها في بلد إسلامي. حيث يظهر ما أراده الداعي نقدًا اجتماعيا في مظهر النقد السياسي.
لذلك فإن التصادم قدَر لم يكن منه مفرّ وإنما هي مسألة زمن. ولكن ذلك لا يدرأ عنا أيضا حقيقةً جليةً؛ مفادها أنه لا حكمة في أي تصرّف بدون مراعاة عامل الزمن، فما بالك إذا كان هذا التصرف يتعلق بمصير بلاد ومستقبل أجياله.

لا يسعنا إلا الاعتراف بأن غياب الحكمة وسوء التقدير قد جعلنا نتسرع في حرق المراحل، فغلّبنا الكم على الكيف، وحثثنا الخطى في اتجاه خوض غمار العمل السياسي، متجاهلين أن ذلك من شأنه استفزاز نظام فردي لا عهد له بالمشاركة، وفي وضع غياب المؤسسات المحصِّنة للمجتمع من سطوة السلطة، والأخطر من كل ذلك تجاهلُنا لطبيعتنا الدعوية التي تقتضي منا في الأساس بناء التربية الروحية والسلوكية الفردية ثم الاجتماعية قبل الانشغال بأي شيء آخر.

فالإقدام على غوائل العمل السياسي –وخصوصا في وضع بلادنا حيث لا حصون روحية تحمي الهوية ولا حصون مؤسساتية تحمي المجتمع- وفي واقع لم يتأسس فيه الفرد ليكون أهلا للمواجهة ومستعدا للتضحية الجسيمة، كان مغامرة مهلكة لا تؤدي إلا إلى ارتكاس المسيرة برمتها وعودتها عقودا إلى الوراء بعد الدمار الجسيم الحاصل فيها على جميع المستويات.

وليس هذا بالأمر الخافي عن قيادة الحركة، فقد كان يُتناقل (منذ بداية التسعينيات) ما صدعت به القيادة من القول بأن "سبب هزيمتنا في مواجهة نظام يفتقر للشرعية والشعبية هو أن صراعنا معه كان صراعا ماديا غاب عنه الوازع الإيماني من كلا الطرفين"[1]، وهذا لا يُفهم إلا على أنه اعتراف بالفراغ التربوي الإيماني الذي دُفعت الحركة في ظله إلى خوض غمار المواجهة التي كانت بدورها نتيجة لإقدامها على ولوج العمل السياسي[2].

ولا أدَل على حقيقة ما أشرنا إليه -من غياب التربية الروحية والتكوين الفكري معا- من مسارعة الكثيرين من أبناء الحركة -بل ومن أعلى المستويات التنظيمية (الأعضاء خصوصا)- إلى الالتحاق بالتنظيمات السلفية والشيعية، حيث واجهت الحركة خلال عشرية التسعينيات موجة من المولّين وجههم شطر التسلّف والتشيّع، ولا يخفى على أحد أن عامة هؤلاء كانوا يعانون فراغا تربويًّا وأكثر منه فكريًّا، وأنهم لا يصلحون لا لدعوة ولا نضال وفي أي واجهة كانت.. مع أنهم كانوا في أعالي السُّلّم التنظيمي.
أليس الدخول في أي عمل لحماية المجتمع وصوْن هويّته -فضلا عن أن يكون مواجهة للسلطة- بأمثال هؤلاء هو أشبه بانتحار من يقتحم حربا بلا سلاح!

ليس المراد بهذا إثارة المواجع والنخر في جسد منهك، ولا جلدا للذات، ولا محاسبة أحد على ما فات، ولا حتى مجرد النقد المشروع من داخل الحظيرة. وإنما هو الخوف من المستقبل، فطول المحنة لا ينفي أننا عائدون لا محالة إلى بلادنا يوما، فجثوم الجاثم إلى زوال، وقضيتنا مبدئية تتعلق بهوية شعبنا ومصير أجياله القادمة.. لا ريب في كل ذلك ولا جدال، ولكن السؤال الذي يظل قائما هو: أين الصحوة منا وأين نحن منها؟ وماذا قدّمنا للصحوة الأولى لنقدّم للصحوة الثانية؟

أحسب أننا سنغالط أنفُسنا ونجني على الصحوة الثانية التي تملأ مساجد تونس اليوم وشوارعَها لو قدّمنا أنفسَنا على أننا الحكيم الذي لا غنى لها عن حكمته. فكوْنُها صحوة عفوية غير مأمونة العواقب في ظل ما تواجهه من مخاطر هو أمر لا شك فيه، ولكن هل نستطيع أن نقدّم لها نحن مستقبلا أفضل مما قدمنا للصحوة الأولى سابقا دون أن نوقعها في شتى المخاطر؟
لا أتردد في أن أجيب بالنفي المطلق، والتأكيد على أننا إنما نهيّئ أنفسنا لتكرار الخطأ، فليس عيبا أننا أخطانا بقدر ما هو عيب أن نكرر نفس الخطأ ولا نتعظ من خطئنا السابق في أمر على هذا القدر من الخطورة، إنه مصير هوية بلادنا ومستقبل أجيالها.

قد يبدو الأمر لمن ينظر إليه نظرة سطحية أنه لا يعدو كونه موقف متشائم منفي بين البلدان تمخض عن معاناة عقدين من الزمن، ولكن الحقيقة أنها تجربة عقد كامل مرّ علينا ولم نر فيه ما يدل على أننا حركة مبدئية تناضل من أجل الهوية.
فإذا طرحنا جانبا عقدا كاملا من الزمن (التسعينيات) كنا نقول فيه: إننا ملاحقون مضطهدون في الداخل ومشرّدون مشتّتون في الخارج، فلم نستطع أن ننجز شيئا بسبب شراسة الجاثم وأزلامه.. فماذا نقول في عقد كامل تلاه -وهو يوشك الآن على الانتهاء- لم نفعلْ فيه شيئا غير الانتظار؟ وانتظار ماذا؟ انتظار تغيّر المعطيات الدولية التي جاءتنا بالجاثم ليجثم على صدورنا وصدور شعبنا، أو هو انتظار الأقدار التي ستتكفل يوما بقبر الجاثم ونقله إلى رحاب الله، لنعود نحن بعدها إلى شعبنا المكبوت فيستقبلنا بالتهليل ويأخذنا بالأحضان، غافلين عن أن صحوة اليوم ليست هي ذاتها صحوة السبعينيات، فهي لن تكون مهيّأة لتتحول من صحوة إلى حركة مستقبلا، إلا بعد تحقق شروط وضمانات لن تكون بأيدينا. بل إن هذه الصحوة لا تكاد تعرف عنا شيئا بفعل ما قام به النظام من ترهيب وتعتيم على جميع الواجهات وحتى الافتراضي منها، ولا نشك في أنه نجح في ذلك أيّما نجاح مستفيدا من كل المعطيات... وما استمرار تنامي الصحوة في ظل هذه الأوضاع الخطرة، وفي اتجاه مخالف لما تتمناه السلطة إلا تعبير عفوي عن صدى الفطرة المتغلغلة في أعماق شعبنا، ظهر بشكل تلقائي ليحمي الهوية رغم غياب الإطار التنظيمي الذي عرفه الناس قبل عقدين من الزمن متبنيًّا لتلك الهوية. وهنا يُثار السؤال: مَن المؤهّل لحماية الهوّية، الحركة المنظّمة، أم الصحوة العفوية؟

أعود مجددا لأتساءل -ونحن نصرّ على القول أننا مازلنا بعد كل ما فعله بنا الجاثم نمثل تنظيما قائم الذات اسمه حركة النهضة ذائعة الصيت التي لا يجهلها حتى الجهلة- أليس من طبيعة أي تنظيم أن يكون له هيكل يربط أفراده ببعضهم البعض، وله نشاط إعلامي يبلغ جميع أبنائه، ليشعروا أن تنظيمهم حيٌّ، وليشعر كل واحد منهم أنه فرد في منظومة مازالت تنبض؟

لست أتحدث عن مؤسسات الحركة التنظيمية (الهيكلية) ولا عن نشاطها في داخل البلاد، فهذا وضْعه مفهوم. بل -باعتباري أحد الأفراد المهجّرين في هذا التنظيم- أسأل عن وجود الحركة خارج البلاد في المهاجر، فكوْن الحركة موجودة يعني أنها حية يدب فيها النشاط، وحياتها تعني بالضرورة وجود علاقات قائمة ونفَس يسري بين أبنائها، وإلا فما معنى الحركة والتنظيم!

ما أراه شخصيا منذ سنوات طويلة هو الفوضى ولا شيء غير الفوضى،
فوضى في طبيعة القضايا المثارة بين أفراد الحركة، بدون مراجعة ولا ترشيد من أحد،
فوضى في المقالات والمساجلات المتشنجة من أبناء الحركة من مختلف الصفوف، دون تدخل ولا تهدئة من كبار الحي،
فوضى في نشوز الكثيرين بمن فيهم بعض الرؤوس عن خط التنظيم دون تبيّن للحقائق ولا طرح للمبررات،
فوضى في الاستقالات الصامتة التي لا يسمع بها أحد، بسبب الارتباك والإحباط، لا بسبب التخلي ونكران المبادئ،
فوضى في تنوية الإخوان المخالفين، والجرأة على التجريح والتخوين والطعن في الذمم دون خوف من الله ولا ردع من إخوة في مقام الآباء،
فوضى ولا شيء غير الفوضى، والفوضى تتنافى مع التنظيم.
فهل أصبحت النهضة حركة بلا حركة غير حركة الفوضى في كل مجال وأظهرها الإعلام!
العجيب أن بعض القيادات مازال يتباهي بهذه الفوضى الإعلامية، مبررا ذلك بأنه ظاهرة صحية، ودليل على انفتاح الحركة وتسامحها. والبعض الآخر يُعزّي بها نفسَه وإخوانَه باعتبارها دليلا على أن الحركة مازالت حية، لأنه الصوت الوحيد الذي يخترق الصمتَ المطبق.. غافلين جميعا عن أنها شاهد صارخ على غياب المستوى التربوي الذي يؤهل صاحبه لمشروع هداية مجتمعه إلى سواء السبيل.

أذكر جيدا أن قيادة الحركة كانت قد وعدت في 2005 بأن تهتم مستقبلا بما يُثار من قضايا بين أبناء الحركة على صفحات الأنترنيت، لتوضح غوامض الأمور، وتشارك فيها بما يُسهم في درء أسباب السّبَاب والتباغض الذي وصل حدًّا لا يليق حتى بين المؤمن والكافر[3].
ولكننا لم نر شيئا جديدا، بل إن قيادة الحركة ظلت غائبة تماما عن المشهد، وكأن الأمر لا يعنيها البتة، فغير المقالات المناسباتية المحتشمة من الشيخ راشد من حين لآخر -والمتعلقة غالبا بأحداث عارضة بعيدة عن بلادنا- لم نر شيئا من قيادة الحركة، وكأنه لا شيء يستحق الحديث عنه بخصوص وضع الحركة نفسها، أو كأن قيادات هذه الحركة ليسوا من المثقفين أصلا ليُدلوا برأيهم في قضايا انشغلت بها قواعدهم وحتى غير قواعدهم من سائر المثقفين التونسيين.

بل الأغرب أن تلك القواعد التي هي في حاجة إلى التذكير والترشيد وحسن التوجيه، هي التي تتقدم مسيرة إثارة القضايا والجوْس خلالها والإسهام في بيان مواقفها منها[4]، بهدوء ولين من البعض، وبتشنج وتوتر من البعض الآخر، بأسماء بعضها حقيقية مجهولة، وبعضها الآخر مستعارة هي أكثر جهلا.
بخلاف القيادات الشهيرة التي تعلو أسماؤها النارَ على العلم، فلا نسمع لها صوتا في المنابر الإعلامية، ولا نرى موقفا لها في أي قضية.
فهل هو الجهل وانعدام الكفاءة، أم هو الإحباط والإعراض من كبار الحيّ!
في كلا الحالتين الأمر لا يبشّر بخير، لأنه لا تنظيم بدون رجال يسهرون على سلامته وحسن توجيهه، فأين رجال التنظيم إذن؟ ومن لؤلئك المساكين الذين نصِفهم بأنهم لم يتلقوا التربية الإسلامية الكافية ليتحاوروا بينهم بأدب، بسبب غلبة التسييس على التربية في خط الحركة منذ عقود، أين تلك القيادات لتصحّح ما تيسر من أخطاء الماضي ولا تترك الحبل على الغارب، أم أن القيادات نفسها ينطبق عليها وصفُ غياب تلك التربية لتربّيَ غيرها، وفاقد الشيء لا يعطيه.

أحسب أن الأمرَ في غاية الخطورة، إلى درجة أنه من حقي وحق الكثيرين غيري أن نخشى على بلادنا منّا نحن أنفسنا في المستقبل. ففي ظل ما نراه من شراسة أبناء الحركة وشدة بأسهم بينهم، وعدم تسامحهم البتة، وسرعة إثارتهم وانطباعيّتهم، واندفاعهم نحو التشكيك والتخوين...
- كيف لنا أن نتجاوز أخطاءنا -التي دفع فيها كثيرون ثمنا باهظا جدا لا يمكن جبْره- ونغفرها لبعضنا بعد رجوعنا إلى بلادنا، ونحن على هذه الحال من التنطع والتشنج؟
- وبالأحرى أنّا لنا ذلك الحِلم المطلوب لتجاوز محن الماضي والنظر إلى مستقبل بلادنا في تعاملنا مع من اضطهدنا وهم كثر جدا لا يمكن تعقبّهم ومعاقبتهم إلا إذا حللنا محلهم في اضطهاد شريحة واسعة من التونسيين، باسم مبدأ العدل الذي سيتشبث به كثيرون حتى يختلط عليهم بنعرة الانتقام، وفي وقت سيصرّ فيه البعض على المحاسبة قبل استئناف المسيرة من جديد؟

- ثم ماذا أعددنا لتلك اللحظة التي ننتظرها جميعا بعد الرجوع إلى بلادنا؟
- ماذا أنجزتْ الحركة لمواكبة واقع أبنائها في الخارج؟ لا أسأل ماذا أنجزت لهم، فقد أنجزوا لأنفسهم الكثير، بالحصول على الشهادات العليا في شتى الاختصاصات، ونجاح بعضهم في اقتحام مجالات مهمة كثيرة منها المال والإعلام وغيرها. لكن ماذا فعلت الحركة لتنظيم صفوفهم وتعريفهم ببعضهم ومساعدتهم على بناء الأطر التي يصْبون إليها (وستكون هي في حاجة إليها مستقبلا) ولا يمنعهم غير التعارف كمقدمة لابد منها للتنظم؟
- هل فكّرت الحركة في أنها ستحتاج إلى هؤلاء في المستقبل، عندما نعود إلى بلادنا، ويُقال لنا هيّا أرونا ما تستطيعون فعله لخدمة بلادكم،
- أين كوادركم في مجال بناء المؤسسات الإعلامية؟
- أين خبراؤكم في مجال البنوك الإسلامية وسائر المؤسسات المالية؟
- ماذا ستفعلون لإصلاح نظام التعليم على أساس الهوية التي ناضلتم من أجلها؟
- ماذا في جعبتكم لتصحّحوا مسار المؤسسات المالية والإعلامية والتعليمية والتربوية والثقافية على أساس الهوية؟
- كيف ستبنون لنا مؤسسات المجتمع المدني التي ناديتم بها منذ الثمانينيات؟
- أرونا ماذا استفدتم من خبرة عقديْن قضيتموهما في ربوع الحرية بين أحضان خمسين دولة كثيرُ منها هي من أعظم دول العالم وأكثرها تقدما في جميع المجالات...


إن قيادات الحركة مشغولة عن كل هذا، ومشغولة عن أبنائها هؤلاء، بدليل أنها لم تلتفت إليهم حتى عندما يطلبون منها ذلك[5]، وكل المناشدات والمحاولات لم تلق آذانا صاغية[6]. ولكن بمَ هي مشغولة، هذا ما يحيّرني ويحيّر الكثيرين مثلي، لم نر غير الصمت المطبق، إنه الموت، فهلا حرّكتهم هذا الجسد الخامد لبعث الحياة فيه رحمكم الله، فإن هذه أمانة؟
لا نطلب منكم تغيير القيادات ولا إعادة هيكلة الحركة ولا حل مشاكلنا في المهاجر، ولا إعادتنا إلى بلادنا، ولا ولا..
ولكننا نريد فقط أن نرى تنظيما يُسمّى حركة النهضة، بالتواصل عبر المقالات السياسية والفكرية على صفحات الأنترنيت على الأقل، تواصلا يُشعرنا أن هناك وعيا ومتابعة للمستجدات مما يخصّلنا ويخص شعبنا.

أُؤكّد مجدّدا أنني كنت ومازلت وسأظل فردا في حركة جاءت لتناضل من أجل هوية بلادي وكرامة شعبها، أعرض رأيي من داخل حظيرتها، وليس هذا مقدمة للفراق كما فعل البعض، ولا هو من باب خالف تُعرف كما فعل آخرون ممن عُرفوا بفضل خروجهم عن السرب، ولكنه دافع الخوف من قادم المستقبل المجهول من خلال ملامح الحاضر المعتّم.
وعسى أن تكون هذه المبادرة بادرة خير لنقاش جاد رصين ومثمر بين إخوة الدرب الواحد، بحكمة وهدوء، بعيدا عن التجريح والتخوين.
وإن أريد إلا الإصلاح ولا شيء غير الإصلاح.
والله أعلم وأحكم.

محمد بشير بوعلي
جامعي تونسي مهجّر
------------------------------------------------------------------------
[1] سمعت هذا الإقرار منسوبا للشيخ راشد من قبل أحد القيادات الوسطى في المنفى في أواخر 1992.
[2]مما يؤكد هذا قولُ الشيخ راشد قبل بضعة أسابيع على شاشة فضائية الحوار: "إن النظام هالََه ما رأى من إعراض الشعب عنه في انتخابات 1989".
[3] يقول تعالى: "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن" (العنكبوت، 46).
[4] وما المبادرات المتعددة الصادرة عن القواعد خلال السنوات الفارطة ولعل آخرها "مبادرة حق العودة" إلا تعبير من تلك القواعد عن عدم الرضا بالركود الذي انتاب حركتهم فسعوا لإحداث حركة بعيدا عن قيادة الحركة وفي ظل غيابها عن الفعل.
[5]أنا شخصيا أثرت هذا الموضوع مع قيادة الحركة في بداية هذه العشرية ولم ألق غير الإعراض، وأثرته معهم مجددا قبل أيام، ولم أتلق حتى ردا فارغا.
[6]لاحظ مثلا الصمت الطويل خلال مساجلات موضوع المصالحة في 2005 الذي لم يتمخض عنه إلا تصريح نحيل لا يكاد يُستفاد منه شيء للقيادي عامر العريض بعد شهور من تخبّط أبناء الحركة ومساجلاتهم الساخنة على صفحات تونس نيوز.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.