عاجل/ سقوط سقف إحدى قاعات التدريس بمعهد: نائب بالمجلس المحلّي بفرنانة يفجرها ويكشف..    وزير الداخلية: الوحدات الأمنية تعمل على ضرب خطوط التهريب وأماكن إدخالها إلى البلاد    حجم التهرب الضريبي بلغ 1800 م د في صناعة وتجارة الخمور بتونس و1700 م د في التجارة الالكترونية    عاجل-وزارة الدفاع الوطني: انتدابات وزيادة في الأجور    نابل: توافد حوالي 820 ألف سائح على جهة نابل - الحمامات منذ بداية السنة الحالية    سليانة: نشر مابين 2000 و3000 دعسوقة مكسيكية لمكافحة الحشرة القرمزية    QNB تونس يفتتح أول فرع أوائل QNB في صفاقس    عاجل: ميناء سوسة يفتّح أبوابه ل200 سائح من رحلة بحرية بريطانية!    وفاة نجم ''تيك توك'' أمريكي شهير    عشرات الضحايا في تفجير يضرب قرب مجمع المحاكم في إسلام آباد    بطولة الماسترس للتنس: فوز الأمريكي فريتز على الإيطالي موزيتي    معتز الزمزمي وبلال العيفة يتضامنان مع يوسف بلايلي    عاجل: منخفض جوي ''ناضج'' في هذه البلاد العربية    عاجل: رزنامة المراقبة المستمرة للثلاثي الأول    تصريحات صادمة لمؤثرة عربية حول زواجها بداعية مصري    عاجل : تحرك أمني بعد تلاوة آيات قرآنية عن فرعون بالمتحف الكبير بمصر    عاجل: معهد صالح عزيز يعيد تشغيل جهاز الليزر بعد خمس سنوات    أقراص طبية لإطالة العمر حتى 150 عام...شنوا حكايتها ؟    بعد أكثر من 12 عاما من إغلاقها.. السفارة السورية تعود إلى العمل بواشنطن    عاجل/ وزارة الصناعة والمناجم والطاقة تنتدب..    تصفيات المونديال: منتخب بلجيكا يفقد خدمات أبرز ركائزه في مواجهتي كازاخستان وليشتنشتاين    ميسي يزور ملعب كامب نو بعد تجديده ويأمل في العودة    المنتخب التونسي يفتتح الأربعاء سلسلة ودياته بمواجهة موريتانيا استعدادًا للاستحقاقين العربي والإفريقي    مدينة العلوم تنظم يوم السبت 22 نوفمبر يوم الاستكشافات تحت شعار "العلوم متاحة للجميع"    الكحة ''الشايحة'' قد تكون إنذار مبكر لمشاكل خطيرة    ثورة في علاج العقم.. اكتشاف دور جديد للحيوانات المنوية في تطور الأجنة    عاجل: اضطراب وانقطاع المياه في هذه الجهة ..ال sonede توّضح    وزير الداخلية: الوحدات الأمنية تعمل على تأمين الشريطين الحدوديين البري والبحري    طقس اليوم: الحرارة في ارتفاع طفيف    عاجل/ وزير الداخلية يفجرها ويكشف عن عملية أمنية هامة..    حاجة تستعملها ديما...سبب كبير في ارتفاع فاتورة الضوء    عاجل: حبس الفنان المصري سعد الصغير وآخرين..وهذه التفاصيل    المنتخب التونسي لكرة السلة يتحول الى تركيا لاجراء تربص باسبوعين منقوصا من زياد الشنوفي وواصف المثناني بداعي الاصابة    عاجل: هذا ما حكمت به الفيفا بين الترجي ومدربه الروماني السابق    الدكتور ذاكر لهيذب: '' كتبت التدوينة على البلايلي وساس وقلت يلزم يرتاحوا ما كنتش نستنقص من الفريق المنافس''    نقص في الحليب و الزبدة : نقابة الفلاحين تكشف للتوانسة هذه المعطيات    النقابة التونسية لأطباء القطاع الخاص تنظم يومي 13 و14 ديسمبر القادم فعاليات الدورة 19 لأيام الطب الخاص بالمهدية    ياخي الشتاء بدا يقرّب؟ شوف شنوّة يقول المعهد الوطني للرصد الجوي!    الكنيست الإسرائيلي يصادق على مشروع قانون إعدام الأسرى الفلسطينيين في القراءة الأولى    مجلس الشيوخ الأمريكي يقرّ مشروع قانون لإنهاء الإغلاق الحكومي    وزير السياحة يبحث مع نظيرته الإيطالية سبل تطوير التعاون الثنائي في المجال السياحي    العراق ينتخب.. ماذا سيحدث من يوم الاقتراع لإعلان النتائج؟    ترامب: أنا على وفاق مع الرئيس السوري وسنفعل كل ما بوسعنا لجعل سوريا ناجحة    نواب مجلس الجهات والأقاليم يثيرون استقلالية المجالس المنتخبة وعلاقتها بالسلط الجهوية والمحلية    الدكتور صالح باجية (نفطة) .. باحث ومفكر حمل مشعل الفكر والمعرفة    المهرجان العالمي للخبز ..فتح باب الترشّح لمسابقة «أفضل خباز في تونس 2025»    جندوبة: تتويج المدرسة الابتدائية ريغة بالجائزة الوطنية للعمل المتميّز في المقاربة التربوية    صدور العدد الجديد لنشرية "فتاوي تونسية" عن ديوان الإفتاء    قابس: تنظيم أيام صناعة المحتوى الرقمي من 14 الى 16 نوفمبر    بنزرت: إنتشال 5 جثث لفضتها الأمواج في عدد من شواطئ بنزرت الجنوبية    مهرجان شرم الشيخ الدولي للمسرح الشبابي: كافية الراجحي تتحصل على جائزة البحث العلمي وعملان تونسيان ضمن المُسابقات الرسمية    عاجل/تنبيه.. تحوير جزئي لمسلك خطي الحافلة رقم 104 و 30..وهذه التفاصيل..    عاجل/ نشرة تحذيرية للرصد الجوي..وهذه التفاصيل..    شنيا الحاجات الي لازمك تعملهم بعد ال 40    محمد صبحي يتعرض لوعكة صحية مفاجئة ويُنقل للمستشفى    رواج لافت للمسلسلات المنتجة بالذكاء الاصطناعي في الصين    رحيل رائد ''الإعجاز العلمي'' في القرآن الشيخ زغلول النجار    أولا وأخيرا .. قصة الهدهد والبقر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مفهوم الأمن في الإسلام
نشر في الخبير يوم 12 - 03 - 2012

في ظلّ الأمن و الأمان تحلو العبادة، و يصير النوم سباتا، و الطعام هنيئا، و الشراب مريئا، الأمن و الأمان...

هما عماد كلّ جهد تنموي،و هدف مرتقب لكلّ المجتمعات على اختلاف مشاربها.. بل هو مطلب الشعوب كافّة بلا استثناء، و يشتدّ الأمر بخاصة في المجتمعات المسلمة، التي إذا آمنت أمنت، و إذا أمنت نمت، فانبثق عنها أمن و إيمان، إذ لا أمن بلا إيمان، و لا نماء بلا ضمانات واقعية ضد ما يعكّر الصفو في أجواء الحياة اليومية..

فإطراء الحياة الآمنة هو ديدن كل المنابر، لما للأمن من وقع في حسّ الناس، من حيث تعلّقه بحرصهم على أنفسهم، فضلا عن كونه هبة الله لعباده، و نعمة يغبط عليها كلّ من وهبها و لا غرو في ذلك. و قد صحّ عن النبيّ صلى الله عليه و سلم أنّه قال: " من أصبح آمنا في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنّما حيزت له الدنيا بحذافيرها "..
و بضعف الأمن و انحلاله، تظهر آثار خبث الشيطان، و ألاعيبه هو و جنده من الجنّ و الإنس، و إقعاده بكلّ صراط، يوعد بالأغرار من البشر، و يستخفّهم فيطيعونه، فيبيّن حذقه و إغواؤه، محقّقا توعده بقوله: " لأقعدنّ لهم صراطك المستقيم ٭ ثمّ لآتينّهم من بين أيديهم و من خلفهم و عن أيمانهم و عن شمائلهم و لا تجد أكثرهم شاكرين ".الأعراف: 16/17.
إنّ المزايدات على الأمن و الأمان في مجتمعات المسلمين بعامة، لهو مدعاة للسخرية و الفوضى، المفرزين للممارسات الشّاذة و الإخلال المرفوض بداهة، و المهدّد لسفينة الأمان و الاطمئنان، كلّ ذلك غير مستساغ شرعا و لا عقلا، و لا قبول له تحت أي مبرّر كان. بل كلّ مزايدة في اختلال الأمن و الأمان، إنّما هو من نسيج الأعداء المتربّصين بنا في الدّاخل و من الخارج، و إن استعملوا في نفاذ اختلاله شرذمة من أبناء أمّتنا و أغرارهم، من أجل سلب أمن البلاد و قدراتها المختلفة بكلّ ما تعنيه الكلمة من معنى..
إنّ مزعزع الأمن و مخلخله إنّما بادئ الرأي يزعزع أمن نفسه و والديه و بقية أهله، قبل أن يزعزع أمن غيره من الناس. كلّ هذا يبدو واضحا جليا، في مثل كأس خمر، أو قتل نفس، أو جرعة مخدّر، أو هتك عرض، أو إحلال فساد بين الخلق، بمثل ذلك ينسلخ مواقع مثل هذه الأمور عن إنسانيته و إسلاميته، و يتقمّص شخصية الإجرام و الفتك، و الفاحشة و الإضلال بالمسلمين، فيشلّ الحياة، و يهدم صرح الأمّة، و يوقع مجتمعه و بني ملّته في وهدة الذلّ و الدمار، فيخلّ بالأمن و يروّع المجتمع، و يبدّد أمنهم شذر مذر..
إنّه متى امتدّ شذوذ المرء ليشمل الآخرين، و يمسّ من أهله و مجتمعه فإنّه لا محالة، يعرض نفسه لحتفه بالغا ما بلغ من العنفوان و الشجاعة، و إلاّ لو فكّر مزعزع الأمن مليّا في مصير والده و والدته حينما تأخذهما الحسرات كلّ مأخذ، و هما اللذان ربّياه صغيرا، يتساءلان في دهشة و ذهول، أمن المعقول أن يكون من ولدناه تحت ناظرنا معول هدم لأمن المجتمع و صرحه..؟ أما يفكّر مزعزع الأمن في زوجه و أولاده الذين يخشى عليهم الضياع من بعده و الأسى من فقده..؟ ألا يشعر بأنّ زوجه أرملة – و لو كان حيّا - ..؟ أو ألا يشعر بأنّ أولاده أيتام و لو كان له عرق ينبض..؟ يقول الحقّ تبارك و تعالى: " ولْيَخْشَ الذين لو تركوا من خلفهم ذُرّيةً ضعافا خافوا عليهم فليتّقوا الله ولْيقولوا قولا سديدا ".النساء: 9.
أََََوَلاَ يفكّر مزعزع الأمن كيف يحلّ عليه الضعف محلّ القوّة، و الهمّ من نفسه محلّ الفرح، و الكدر مكان الصفاء..؟ حيث لم يعد يؤنسه جليس و لا يريحه حديث، قلق متوجّس، كثير الالتفات. فكيف يصل إلى منشوده و مبتغاه..؟ بعد أن يسأم الحيلة بفعله الشاذ، و الذي سيجعله قابعا في غياهب السجون بسبب جرمه، فضلا عمّا يخالج أنفاسه و أحاسيسه، من ارتقاب العقوبة كامنة عند كلّ طرقة باب، لا سيما إن كان في هذه العقوبة حتفه و تغييبه من هذه الحياة.. و لا غرو في ذلك، فإنّ في قتل مجرم واحد حياة هنيئة لأمّة بأكملها، يقول تبارك و تعالى: " و لكم في القصاص حياة يأولي الألباب لعلّكم تتّقون ".البقرة: 179.
فمن استتباب الأمن في المجتمعات جاءت الشريعة الغرّاء بالعقوبات الصارمة، و حفظت للأمّة في قضاياها ما يتعلّق بالحقّ العام و الخاص. بل إنّ من المسلّم في الشريعة، قطع أبواب التهاون في تطبيقها أيّا كان هذا التهاون، سواء كان في تنشيط الوسطاء في إلغائها، أو في الاستحياء من الوقوع في وصمة نقد المجتمعات المتحضّرة. فحفظا للأمن و الأمان، غضب رسول الله صلى الله عليه و سلم على من شفع في حدّ من حدود الله بعدما بلغ السلطان، و أكّد على ذلك بقوله: " و أيم الله، لو أنّ فاطمة بنت محمّد سرقت لقطعت يدها ". و ما ذاك إلاّ من باب سدّ الذريعة المفضية إلى التهاون بالحدود و التعزيرات، أو التقليل من شأنها.. و إنّه حين يدبّ في الأمّة داء التسلّل الأمني، فإنّ أفرادها بذلك يهيلون التراب على تراث المسلمين، و يقطعون شرايين الحياة عن الأجيال الحاضرة، و الآمال المرتقبة. و هم يخدمون بمثل هذا – عن وعي أو عن غباء – الغارة الاستعمارية على ديار المسلمين، من خلال أعمال خرقاء تزيد السقم علّة، و الطين بلّة، فيطاح بالمسلمين و توصد أبوابهم أمام الحياة الهانئة الآمنة..
و مثل هذا ظاهر جليّ في طرح الدعوات الصارخة لما يسمّى بمبادئ حقوق الإنسان، و التي تجعل من فتح الحريات، و عتق الرغبات، رفضا باتّا للفطر السليمة، و سببا مباشرا تدمّر به الأخلاق المستقيمة، و من ثمّ يزعمون أنّ من خالف ذلك فهو ضد الإنسان و الإنسانية، و ضد الحقوق الشخصية و الرغبات الفردية، وهي في الحقيقة ليست من الإنسانية في شيء، فلا تمت لها بخيط رقيق، و لا حبل متين..
لقد سفهت دعوات حقوق الإنسان أحكام الشريعة، فوصفت إقامة الحدود بالسفه و الحطّة و الغلظة. دعا أهلها إلى حفظ حقوق الإنسان فقتلوه من حيث أرادوا حفظ حقّه، أخرجوه من القيود الشرعية حرصا عليه، فإذا بهم في نهاية المطاف يدركون أنّهم ما كانوا ينادون بحفظ حقوق الإنسان المجرم،، فإلى الله المشتكى..
القاعدة المقرّرة تقول: إنّ الحكم على الشيء فرع عن تصوّره، و لأجل أن نعرف حقيقة الأمن و صورته فلا بدّ أن تكون هذه المعرفة متصفة بالشمولية، و أن لا تكون ضيقة الطعن، مستهجنة الطّرح، من خلال قصر بعض الأفهام، حقيقة الأمن من ناحية حماية المجتمع من الجرائم فحسب، أو أن يقصر مفهوم حمايته على الوقاية اليومية و الدوريات الأمنية في المجتمعات عامّة. كلاّ، فالحديث عن الأمن ليس مقصورا على هذا التصوّر البسيط، إذ الحقيقة أشدّ من ذلك و الخطب أعظم..
بل إنّ المواطن نفسه – رجلا كان أو امرأة – ينبغي أن يكون رجل أمن، و رجل الأمن ما هو إلاّ مواطن صرف. فإذا استحضرنا هذا التصوّر بما فيه الكفاية، وجب علينا بعد ذلك أن نعلم شمولية الأمن، و أنّه ينطلق بداية في عقيدة المجتمع، و ثقافة المجتمع، و ارتباطه الوثيق بربّه، و البعد عن كلّ ما من شأنه أن يوقع أفراده في الخوف بدل الأمن، و الزعزعة بدل الاستقرار. فأوّل الواجبات الأمنية: البعد عن الشرك بالله في ربوبيته، أو ألوهيته، أو حكمه، أو الكفر بدينه، أو الاستغناء عن شرعه في واقع الحياة، أو مزاحمة شرع غير شرعه مهما بلغت المبرّرات المغلوطة. " الذين آمنوا و لم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهُمُ الأمْنُ و هم مهتدون ".الأنعام : 82.
الأمن بهذه الصورة هو الهدف الأسمى، وهو الذي تتحقّق به الصلة بالله جلّ و علا، و التي بسببها يعمّ الأمن مختلف فئات المجتمع، و يتحقّق وعد الله لها بقوله تبارك و تعالى: " وعد الله الذين آمنوا منكم و عملوا الصالحات ليستخلفنّهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم و ليمكنّن لهم دينهُمُ الذي ارتضى لهم و ليبدلنّهم من بعد خوفهم أمنا ". سورة النور : (55). فكان الجواب التالي لذاك: " يعبدونني لا يشركون بي شيئا ". سورة النور : (55). و الشرك هنا غير مقصور على مجرّد عبادة الأصنام، كما يتصوره البعض، فيخرجون معنى هذه الآية عن صور شتّى في هذه الأزمنة. فكلمة " شيئا " نكرة في سياق النهي، فتعمّ جميع صور الشرك مهما قلّت، ألا تسمعون قول الله تعالى: " فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ". سورة النور : 63. و قد ذكر الإمام أحمد –رحمه الله – أنّ الفتنة هنا هي الشرك.
ثمّ إنّ ممّا ينبغي علينا اتجاه مفهوم الأمن ألاّ ننحّيه عن مراكز القوى في مجتمعاتنا، أو نتجاهل أثر هذه المراكز في تحقيق معنى الأمن بصورته الأساسية.
فهناك ما يسمّى بالأمن الغذائي، و ما يسمّى بالأمن الصحّي الوقائي، و هناك ما يتعلّق بالضوابط الأمنية في مجال التكافل الاجتماعي، و تهيئة فرص العمل و الإنتاج، و القضاء على البطالة المثمرة الخلل و الفوضى، إضافة إلى النواح الأمنية المنبثقة من دراسة الظواهر الأسرية و ما يعتريها من ثقوب و اهتزاز في بنيتها التحتية، لأنّ الأمن بين الجنسين و بالأخصّ بين الزوجين هو سبب و لا شكّ من أسباب أمن العشيرة، و أمن العشيرة أمن للدولة، المؤلفة من العشائر، المؤلفة من الأسر، المؤلفة من الأزواج.
فهذا الأمن المترابط هو الذي يتكوّن منه مزاج الأمّة الأمني..
كما يجب علينا أن لا نغفل عمّا لا يقلّ قيمة و أهميّة عن ما مضى، بل إنّه في هذه العصور يعدّ هاجسا أمنيا لكلّ مجتمع، ألا وهو الأمن الفكري،، الأمن الفكري الذي يحمي عقول المجتمعات و يحفظها من الوقوع في الفوضى، و العبّ من الشهوات بنهم، أو الولوغ في أتون الانسلاخ الأخلاقي الممزّق للحياء الفطري و الشرعي..
الأمن الفكري ينبغي أن يتوّج بحفظ عنصرين عظيمين، ألا و هما:
٭ عنصر الفكر التعليمي.
٭عنصر الأمن الإعلامي.
إذ يجب على الأمة من خلال هذين العنصرين ألاّ تقع في مزالق الانحدار و التغريب، و التي هي بدورها تطمس هوية المسلم، و تفقده توازنه الأمني و الاعتزاز بتمسكه بدينه، إذ إنّ الأمن على العقول، لا يقلّ أهميته عن أمن الأرواح و الأموال، فكما أنّ للبيوت لصوصا و مختلسين، و للأموال كذلك، فإنّ للعقول لصوصا و مختلسين..
بل إنّ لصوص العقول أشدّ خطرا، و أنكى جرحا من سائر اللصوص.
فحماية التعليم بين مختلف فئات الشعب الواحد لإيجاد الآلية الفعاّلة في توفير سبل العلم النافع، الدّاعي إلى العمل الصالح، و البعد عن التبعية المقيتة، أو التقليل من شأن العلوم النافعة، و التي لها مساس أساسي في حياة الأمم، من الحيثية الشرعية الدينية، التي يعرف بها المرء ربّه، و واجبه المفروض عليه، أو التهوين من شأن علوم الدين أو استثقالها على النفوس، لمن شأن ذلك كلّه أن تضعف المجتمعات بسببه، و أن تندرس معالم الأمن الفكري فيه إبّان عصر التحكّم المعرفي، و الاتّصالات العلمية و الثقافية التي غلبت على أدوار الأسر و البيئات، التي تنشد الصلاح العام..
أمّا الفكر الإعلامي، فهو مقبض رحي المجتمعات المعاصرة، به يبصر الناس و به يغربون، به تخدم قضايا الشعوب و تنصر، و به تطمس حقائقها و تهدر.
بالفكر الإعلامي تعرف المجتمعات الجادة من المجتمعات المستهترة، المجتمعات المثلى من المجتمعات الناكبة. فما يكون في الفكر الإعلامي من اعتدال و كمال، يكون كمالا في بنية الأمن الإعلامي و اعتدالا، و قرّة عين لمجموع الأمّة بأكملها، و ما يطرأ عليه من فساد و اعتلال فإنّه يكون مرضا للأمّة، يوردها موارد الهلكة و التيه..
و حاصل الأمر أنّه ينبغي علينا جميعا، أن ننظر إلى الحقيقة الأمنية من أوسع أبوابها، و أقرب الطرق الموصلة إليها، بل ينبغي علينا جميعا ألاّ نغفل جانب أهمية الأمن الفكري و دوره الفعّال كاختيار جوهري في تطوّر المجتمعات و رقيّها الحضاري و المدني..
كما أنّ من أهمّ الوسائل الموصلة إلى الراحة الأمنية من كافة جوانبها، دون كلفة إعداد و برمجة، هو الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و النصح لله و لرسوله و لكتابه و لأئمّة المسلمين و عامّتهم. فإنّ ذلك عماد الدين الذي فضّلت به أمّة الإسلام على سائر الأمم، و الذي يسدّ من خلاله خوخات كثيرة من مداخل الشرّ على العباد. بالنصح و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر تتكاتف الجهود، و يلمّ الشعث، و يرأب الصدع، و تتّقى أسباب الهلاك، و تدفع البلايا عن البشر..و بفقد ذلك أو تزعزعه من نفوس الناس، يعني بداهة حلول الفوضى، و انتشار اللاّمبالاة المولّدة للأمن العكسي، وهو الأمن من مكر الله، " أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلاّ القوم الخاسرون ". سورة الأعراف : 99.
بالأمر و النهي يصلح المجتمع، و يقوم الفرض الكفائي الذي يسقط التبعة و الإثم عن بقية أفراد المجموعة، و إلاّ يتحقّق فينا قول الباري تبارك و تعالى: " و ما كان ربّك ليهلك القرى بظلمٍ و أهلها مصلحون ". سورة هود: 117. و لم يقل و أهلها صالحون، لأنّ مجرّد الصلاح ليس كفيلا بالنجاة من العقوبة الإلهية الرادعة..
الآمرون بالمعروف و الناهون عن المنكر بين المسلمين و غيرهم، إنّما هم في الحقيقة يقومون بمهام الرسل في أقوامهم و ذويهم. فبقدر الاستجابة لنصحهم تكون الحجّة و النجاة، و العكس بالعكس، " و ما كان ربّك مهلك القرى حتى يبعث في أمّها رسولا يتلو عليهم ءاياتنا و ما كنّا مهلكي القرى إلاّ و أهلها ظالمون ". سورة القصص : 59.
إنّ انعدام النصح بين المسلمين سمة من سمات اليهود، و معرة من معراتهم الخالدة، فقد كانت مواقفهم في الصيد يوم السبت عن طريق الحيلة مشهورة، حتى أعلن الفسقة منهم بصيده، فنهضت فرقة منهم و نهت عن ذلك، و جاهرت بالنهي واعتزلت، وفرقة أخرى لم تعص و لم تنه، بل قالوا للناهين: " لم تعظون قوما اللهُ مُهلكهم أو معذّبهم عذابا شديدا ". سورة الأعراف : 164. فلمّا لم يستجب العاصون أخذهم الله بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون، فنصّ الله على نجاة الناجين بقوله: " فلمّا نسوا ما ذكّروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء ". سورة الأعراف : 165. و سكت عن الساكتين.
روى ابن جرير بسنده عن عكرمة، قال: دخلت على ابن عبّاس رضي الله عنهما و المصحف في حجره، وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك يا ابن عباس؟ جعلني الله فداك، فقال رضي الله عنه: ( هؤلاء الورقات )، و إذا هو في سورة الأعراف، فقال: ويلك، تعرف القرية التي كانت حاضرة البحر؟ فقلت: تلك أيلة، فقال ابن عباس: لا أسمع الفرقة الثالثة ذكرت.. نخاف أن نكون مثلهم، نرى فلا ننكر، فقلت: أما تسمع الله يقول: " فلمّا عتوْاْ عن ما نُهُوا عنه ". سورة الأعراف : 166.
إذا ينبغي لأفراد الشعب عموما، و أهل العلم بخاصة، أن يقوموا بواجب النصح لمجتمعاتهم و أسرهم و منتدياتهم، على الوجوه التي جاءت بها الشريعة الإسلامية، حكمة، و موعظة حسنة، و مجادلة بالتي هي أحسن، و إنّ الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
ثم إنّ لا يمنع من التمادي في الوعظ و النصح و الإصرار عليه، عدم قبول الحقّ منه، لأنّه فرض فرضه الله علينا جميعا، قُبل أو لم يُقبل، فإنّ هذا هو الذي يحفظ للوطن كيانه بأمر الله، و به تكون المعذرة إلى الله، و يكون الخروج من التبعية و سوء المغبّة.
نسأل الله السلامة و العافية و الهداية إلى سواء السبيل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.