عندما أتولى حساب الأعوام المنسابة من عمري ابحث عن معادلة الربح والخسران في مسيرتي الحياتية عندما كنت تلميذا بمدارس ومعاهد مدينة سوسةوالمنستير، او في جامعات ألمانيا، واليونان، وبلجيكا... فعلى امتداد ثلاثة عقود عرفت كل تقلبات الزمن وصروف الدهر فعملت وناضلت وتصادمت مع العديد من القوى لذلك عرفت سنوات النجاح والتألق كما عشت سنوات موحشة وسنوات التهميش والضياع والظلم والقهر في دهاليز الايقاف وقاعات التحقيق وظلام السجون وآلام التعذيب البوليسي رفقة السادة نورالدين بن مصطفى مدير الديوان القومي للمشاريع الجامعية ورفعت الدالي ومختار المزالي ومحمد بالحاج والصحفي والسياسي عمر صحابو وعلي العريض والسيدة سهام بن سدرين والاستاذ محمد عبو والدكتور حمادي الجبالي والاستاذ عبد العزيز المزوغي والمناضل حمة الهمامي والقياديين بالاتحاد العام التونسي للشغل والقائمة طويلة . لقد اتخذت من الضعف قوة الايمان بالحق وصرخة المظلوم المدوية وسط الظلم والظلام و عملت بصدق وصمت في كل المواقع كمسرحي وجامعي ومؤسس ومدير المركز الثقافي حسين بوزيان ومشاركا فاعلا في تأسيس وبعث اذاعة المنستير ومستشارا لوزراء الثقافة طيلة 10 سنوات . وكنت غير راض عن السياسة الثقافية والتنموية والأمنية للنظام السابق وعارضتها ضمن العديد من التقارير والمذكرات التي لازلت احتفظ بها. فلكل نجاح وتألق مكافأة، لكن الغريب أن ضريبة نجاحي وحقي هي المطاردة من البوليس والسجون بكل من دهاليز وزارة الداخلية والقرجاني وغرفة السيلون عدد 17 بسجن 9افريل بتونس ونزلائها الثمانون تقريبا .ففي كل فضاء هناك أحداث وقصص وذكريات لابد ان ارويها ذات يوم ، فعلى امتداد تاريخ الحياة عرفت كل أنواع البوليس من البوليس السري الى البوليس العادي لكن الذي اضحكني وأثار في نفسي الكثير من التساؤلات ،هل ان تونس في حاجة أكيدة بعد ثورة 14 جانفي ان يقدم لها الناطق الرسمي لوزارة الداخلية هشام المؤدب في احدى الجلسات الإعلامية في الوزارة الأولى نماذج من الأزياء الجديدة لأعوان الأمن فكأننا أصبحنا في معرض أزياء للموضة في باريس أولندن ،فهل هذا هو الإصلاح الأمني والمصالحة مع الشعب؟ أما الحادثة الثانية التي أثارت استغرابي فهي تدخل السيد محمد لزهر العكرمي الوزير ا المعتمد لدى وزير الداخلية المكلف بالإصلاح ضمن ندوة"وقيّت باش تعرفوا حقيقة الأمن خلال الثورة، ودوره في بناء المستقبل" التي نظمها مكتب الدراسات والخبرة الامنية بسكرة. وأكد الوزير "أن الأمن اكبر متضرر من الثورة" فمن هو المتضرر الأكبر ياسي محمد لزهر هل الامن؟ ام الشعب الذي قدم حوالي 250 شهيدا لازال أمرهم مهمشا إلى حد كتابة هاذه الأسطر وألف جريح لم يتلقوا مصاريف العلاج، بالإضافة إلى الخسائر المادية الرهيبة للعديد من القطاعات والمؤسسات الحكومية والاقتصادية والإدارية وفي كل الولايات . وواصل السيد محمد لزهر قوله: "إن الأمن يجب أن يقف على مسافة واحدة من جميع الأطراف وان ينأى بنفسه عن الاختراقات الجزئية والسياسية حتى لا يتحول الى ميليشيات". فخلال الثورة سيدي الوزير المعتمد هل استطاع الأمن أن يضمن استقرار البلاد وامن العباد لولا تدخل الجيش الوطني؟. هل استطاع ان يضمن الحياد بين كل الاطراف؟ وهل لم تخترقه قوى الحزب المنحل وجماعته؟ لذلك فإن انتصار ثورة 14 جانفي جنّب الأمن الدخول في متاهات خطيرة قد تحوله الى ميليشيا وكان نجاح الثورة مطلبا شعبيا لتحرر رجل الأمن والمنظومة الأمنية برمتها. ومما زاد الطين بلة أني شاهدت في إحدى نشرات الاخبار الرئيسية في التلفزة الوطنية ثلة من الأطفال الأبرياء يرسمون ببراءة وعفوية على حيطان وزارة الداخلية بمشاركة السيد محمد لزهر العكرمي بعدما نظمت وافرغت من بشاعة ما كانت تحتويه وطمست مظاهرها الحقيقية المرعبة فاثارت فيّ هذه الحادثة الالم والأسى لانها كانت تحمل ذاكرة اجيال من المناضلين والبصمات الحائطية للعديد منهم، وتعتبر جزءا من نفسي كاحد النزلاء الذين نالوا "شرف" المرور بهذه الاقبية الرهيبة والمخيفة . فاعلم سيدي الوزير المعتمد ان العديد من القوى المدنية والحقوقية والفكرية تعتبرها فضاءات سجنية وملفات البوليس السياسي هي جزء من الذاكرة الوطنية ولا يجوز المساس بها او تشويهها او طمسها او تغييبها وان تحال الى مصلحة الأرشيف الوطني لتبقى على ذمة المؤرخين والباحثين. إنني أحاول يا سادتي فقط ان اعرف ماهو الحق؟ والتصرف بموجبه ومجرد كوني انتمي الى شعب يحترم القوانين فان ذلك يعني بكل بساطة انني انتمي الى امة تؤمن بالمحبة ومقاومة العنف وحين لا تعجبنا بعض القوانين فإننا لا نلجأ إلى الإطاحة برؤوس الذين اصدروها بل نرفض بكل بساطة الخضوع لها ونتعذب بنتيجة ذلك. فان نلتزم بالخضوع لأحكام القوانين سواء كانت سيئة او جيدة هو مفهوم حديث ولم يكن الأمر على هذا المنوال في الماضي أيام الكفاح ضد الاستعمار لان أسلافنا كانوا لا يبالون بالقوانين اذا لم تعجبهم وكانوا يتحملون العقوبة الناجمة عن رفضهم ويمتثلون لها. إن القوانين المنافية لضمائرنا يعد مخالفة لكرامتنا البشرية واهانة الدين ويشكل نوعا من أنواع العبودية. واعلم سيدي الوزير المكلف بالاصلاح ان الانسان الذي يفهم ماهي دعائم قيمته في الحياة والذي لا يخشى الا الله لا يمكن ان يتسرب الخوف الى قلبه من اي انسان . انه ليس ملزما باحترام القوانين الجائرة والقمعية ويحرس على تطبيقها خاصة لما تكون متاتية من حكومة ديكتاتورية ، فهذه الحكومة لا تنتظر منا طاعة تلك القوانين فهي تقول لنا "يجب ان تفعلوا الشيء او ذاك" ولكن تقول لنا "اذا لم تفعلوا هذا الشيء او ذاك فانكم سوف تتعرضون للعقوبة ". انه لمن قبيل التطير والكفر ان نعتقد بان الاقلية يجب ان تمتثل لرأي الأغلبية وقد تبين في العهد البائد وفي اغلب الأحيان ان أعمال الأغلبية التابعة لذلك النظام القمعي خاطئة بينما يكون الحق بجانب الأقلية التي كنت من ضمنها وفي الأصل كان أفضل مبادرة في تنفيذ الإصلاحات يعود إلى أقلية كانت تعارض الأكثرية. الم تكن ياسي محمد الازهر العكرمي ضمن أعوان الأمن والأجهزة الأمنية بكل مصالحها وإدارتها وكوادرها الم يكن أكثرهم متفننون في استخدام القوة المفرطة وبارود البنادق والتعذيب وفنونه للمحافظة على ذلك النظام وتثبيت ديكتاتورية وقد استمر حتى ذلك بعد ثورة 14 جانفي فحوادث القصبة1 و2 و3 اكبر شاهد على ذلك سلوا المحامين والقضاء والصحافيين والشباب وسهام بن سدرين والمرزوقي وعمر صحابو وليليا الجلجلي ومحمد علي الهيشري والأستاذ صبري الزيدي والأستاذ محمد عبو رفيقي في كل الاعتصامات السلمية وسلوا كذلك شباب الفايسبوك والمصورون وسلوا عن تواصل افتعال القضايا في عديد مراكز الشباب الذين قالوا لا للظلم لا للقهر والتهميش . اعتقد سيدي انه حان وقت المصارحة والمحاسبة ثم المصالحة وكفانا مغالطة ،ان القبيلة والأسرة والدولة ليست ابتكارات بشرية انما تشكلت من تلقاء ذاتها كما تتشكل خلايا النحل وقرى النمل والإنسان الذي يحب أسرته يعرف كذلك موضوع حبه. والذي يحب الدولة يمنح حبه لتونس من أخر نقطة في رمال صحرائها إلى أقصى شمالها لحضاراتها ولتاريخها ولكن حين يحب الإنسانية ليس لها وجود كمفهوم واقعي ولا يمكن ان تتوج بهذا الشكل ؟ أين تنتهي وأين تبدأ؟ هل يمكننا ان نقول بأنها تنتهي لدى المتوحش او الأبله او المدمن على المخدرات والمسكرات ؟البوليس ونظامه أيام حكم بن علي وعصابته؟ يبدو انكم لم تفهموا او تقتنعوا بعد بان كثيرا من الأجهزة الأمنية ومن المسؤولين والأعوان لا يعرفون الإنسانية يا سادتي فهي عبارة عن فرضية خيالية .ولا يمكن أن نحبها. انه لأمر يبشر بخير ان نرى البشر من أعوانكم وأجهزتكم القمعية يحبون الإنسانية كما يحبون الأسرة وانه لأمر رائع ان نبلغ مرحلة الواحد الجميع والكل واحد لكنه لا يوجد اي دافع يدفعهم لان تقدموا على ذلك لان الناس والكوادر والأعوان الشرفاء التي تعج بهم وزارة الداخلية ومحكوم عليهم بالبقاء في الثلاجات منطوين على أنفسهم لأداء عملهم حسب ما يرونه بكل نزاهة وشرف وايجابية وعدالة والذين يستطيعون ان يبذلوا جهودهم لتوسيع عاطفة حب المرء لنفسه ،والأسرة والدولة وحتى إلى ضم الحب للإنسانية ان سمحوا لهم بذلك. ان حياتنا بكاملها لا تخلو من تناقض لكل ما نعتبره واجبا وضرورة. تناقض كل شيء في الحياة الاقتصادية وفي حياة الدولة في العلاقات الدولية ويبدو أننا ننسى معارفنا ان النظام البوليسي الذي قامت عليه دولة الرئيس السابق وخطاياه وجرمه وقمعه وما إن تورد هذه الفكرة إلى ذهني حتى يتملكني شعور الخوف والبلادة ويبدو كأن الأمر يتعلق بلعنة او شيء بعيد جدا زال وتلاشى نهائيا . الم يكن أعوان الأمن يقمعون ويعذبون الحقوقيين وكل من قال لا للمغالطة والقهر والظلم وحتى بعد 14 جانفي الم يكونوا صيادين يعدون و يطلقون النار والقنابل المسيلة للدموع ويطيعون الأوامر وأنهم جميعهم او أكثرهم معدون للقتل او القمع او التعذيب او قهر بني الإنسان في زماننا هذا مع ثقافتنا وعلمنا. اننا نحيا وسط الموت والهلاك فما قيمة العمل من اجل مشاريع الطغاة واعوانهم عندما يمكن ان نتلاشى الى العدم في لمحة عين او عندما تخطفنا يد الفناء من جرمنا واعمالنا؟ ان الله هو الحق وهو المبرر الوحيد لوجودنا وحياتنا على انه من المستحيل علينا ان ندرك الحقيقة الكاملة طالما ظللنا محبوسين في إطار حياتنا الفانية ولسنا نستطيع تصور هذه الحقيقة الا بخيالنا ، فلسنا نستطيع بواسطة هذا الجسد الفاني ان نرى الحق والحقيقة الخالدين الازليين وجها لوجه لهذا يكون الإيمان هو الملاذ الأخير اي يجب ان يعتمد عليه الإنسان . وفي الختام اعلموا سادتي انه كما سبق و قلت في عديد المقالات انه في كل قضية اصلاحية عظمى لا يكون مهما عدد المناضلين من اجلها بل ان نوعيتهم هي التي تكون العامل الحاسم . اني اعترض على العنف لانه حين يبدو صالحا فإصلاحه مؤقت اما الشر الذي ينجم عنه فهو دائم. والتاريخ يعلمنا ان الذين خلعوا الفاسدين من الحكم مدفوعين بدوافع شريفة ولكنهم استخدموا القوة الغاشمة في ذالك و تحولوا بدورهم الى فريسة لوباء المقهورين وهذا لم يحدث في ثورتنا واعلم سيدي الوزير المعتمد ومن يهمه الأمر في وزارة الداخلية والحكومة القادمة ان لكل إنسان الحق في العيش بكرامة وأمان وبالتالي له الحق في ان يجد موردا يكسبه قوته ويوفر له المأوى وهذا هدف من أهداف ثورة14 جانفي وان الديمقراطية الحقة لا يمكن ان تكون الا وليدة اللاّعنف. ان القوة العددية تفرح الخائر أما المتشبع بالروح الباسلة فانه يجد المجد في الكفاح من اجل الحق والعدالة وحده.