مهما تكن أهمّية الصّراع بين النظاميْن الجزائري والمغربي وتأثيره في التعثّر والفشل في البناء المغاربي، فإنّ عوامل أخرى تتّصل بمختلف الأنظمة المغاربية والعربية عامّة لا ينبغي أن نتغاضى عن أثرها في ذلك الفشل وتعطّل المحاولة بل التفكير، مجرّد التفكير، في أي مشروع للاندماج الاقتصادي بين الدول العربية وتوحيد قرارها السياسي. من المعروف أنّ المشاريع الاقتصاديّة والسياسية والعسكريّة قد تهاطلت على المغرب العربي وعلى الوطن العربي كلّه آتية من أمريكا والعواصم الكبرى للاتّحاد الأوروبي. لعلّ أبرزها في السنوات الأخيرة مشروع الشراكة الأورومتوسّطية المعروف بمسار برشلونة ومشروع حلف الناتو المسمّى بالشراكة من أجل السلام والمشروع الأمريكي للشراكة الأمريكيّة. ولا يفيد كثيرا أن نكرّر ونتوسّع في بيان الغايات الخفيّة والظاهرة من هذه المشاريع. فمع ضرورة الوعي بأبعادها، يجدر بنا أن لا نعلّق دائما مشاكلنا وعجزنا على شمّاعة الاستعمار. ولا يفيد أيضا اتّهام هذه السلطة العربيّة أو تلك بانعدام الوطنيّة وبالعمالة وحراسة مصالح المستعمر وغيرها من العبارات التي زادت تعميق الهوّة بين النظام الرّسمي العربي والشعب العربي. فلنفترض حسن النوايا ولنفترض أنّ كلّ طرف يعبّر عن وطنيّته ويخدم أمّته بشكل ولنفترض أنّ من كانت يداه في الماء غير من كانت يداه في النار، نار مسؤوليّة الحكم إزاء المشكلات الاجتماعيّة والاقتصاديّة في ظروف قوميّة وعالميّة صعبة. ولنتساءل: ما الذي جعل أغلب الدول المغاربية تذهب إلى اتفاقيات اقتصاديّة ثنائيّة مع الطرف الأوروبي دون العمل الجادّ على تطوير اقتصاد مغاربي بل دون حرص على اتفاقيّة جماعيّة، على الأقل، مع أوروبّا؟ ثمّة دون شكّ شعور لدى القيادات والأحزاب الحاكمة والمشرفين على التسيير الاقتصادي ب " جدّية " المقترحات والمشاريع الأوروبيّة وخاصّة بكونها تمثّل متنفّسا " ضروريّا " للخروج من أزمات اقتصاديّة خانقة. وهو شعور يتأسّس في جانب كبير منه عند الكثيرين على حالة انبهار قديمة متجدّدة بالتفوّق الأوروبي العلمي والتكنولوجي، ووهم بأنّه لا مجال لتطوير اقتصادنا إلاّ بالاحتكاك بالأوروبيين والإفادة من تجاربهم العلميّة والتكنولوجيّة والاقتصاديّة، وبأنّ العلاقات بين الدول العربية واقتصادياتها لا معنى لها غير جمع تجارب من الضعف والتخلّف، أي جمع أصفار بعبارة سياسي مصري. وقد يتأكّد الوهم عند هؤلاء ويجادلون في الدفاع عنه اعتمادا على تجارب من العلاقات الاقتصاديّة العربية الثنائيّة والاقليميّة. وهي علاقات تدعو بالفعل إلى اليأس وتكشف إلى أيّ حدّ يتحكّم العامل السياسي بل الشخصي في المنظومة الاقتصاديّة تصوّرا وإنجازا. ولكن ما ذكرنا قد يفسّر جوانب من سعي بعض الأنظمة العربية إلى اتفاقيات اقتصاديّة وغير اقتصاديّة مع أوروبّا ولا يفسّر الاتفاقيات المنفردة والعزوف عن التنسيق ، مجرّد التنسيق، من أجل اتفاقيات جماعيّة. إنّنا لا نستطيع أن نضع مختلف القيادات السياسية والاقتصاديّة المغاربية في سلّة واحدة ونعتبر بتعميم خاطئ أنّ تلك القيادات جميعا في حالة انبهار مستمرّ وشعور متزايد بالضعف والعجز عن الفعل السياسي والاقتصادي المستقلّ وبالحاجة إلى الحماية في إطار عولمة متوحّشة. لا نستطيع ذلك لأننا ندرك أنّ في الأحزاب والتكتلات والمجالس والعائلات الحاكمة من لا شكّ في وطنيّته ووفائه لأمّته العربية وعمله الجادّ على الارتقاء بالوضع القطري والقومي نحو الاكتفاء الذاتي والمناعة الاقتصاديّة والقرار السياسي الحرّ وفهمه الواضح لما يعنيه التكامل أو الاندماج الاقتصادي المغاربي والسوق المغاربية المشتركة وفتح الحدود أمام العمّال والكفاءات المختصّة ورؤوس الأموال والتخطيط الاقتصادي الشامل من أجل الاكتفاء والوفرة. لماذا إذن ظلّت تلك الأصوات مكبوتة وتلك الأيادي مكبّلة؟ يقف المواطن العربي حائرا أمام حالات العداء الخفيّة أو المعلنة داخل النظام الرّسمي العربي. ويتعجّب أيّما تعجّب من خوف الأنظمة بعضها من بعض. ويبحث فلا يجد أسبابا مقنعة أو يجد أحيانا أسبابا تافهة. وقد تكون بعض التشنّجات أو الصّدامات قد مرّت عليها السنون والعقود. ومع ذلك تتوارثها فئة عن فئة ويستغلّها الانتهازيون في كلّ نظام الباحثون عن النفوذ والثروة بأيّ سبيل ولو ببيع الوطن والعابثون من أجل مصالحهم بكلّ مشروع إنتاجي جادّ ولو على المستوى القطري لأنّهم سماسرة يجلبون من الخارج كلّ شيء ويبيعون كلّ شيء. ويتضاعف خوف هذا النظام العربي أو ذاك عندما تتّسع الهوّة بينه وبين شعبه بفعل اختيارات سياسية واقتصاديّة خاطئة وبفعل سوس الانتهازيّة والفساد الإداري والمالي واستغلال النفوذ وانعدام الحرّية والشفافيّة وهيمنة النفاق، وخاصّة حين تنسدّ الآفاق أمام بعض الحركات السياسية فلا ترى غير التغيير العنيف والانقلابي بديلا. هذا الخوف المزدوج الذي يبلغ عند بعض السياسيين وبعض الأنظمة درجة مرضيّة يضاعف الشعور بالضعف أمام الأوروبيين والأمريكان والحاجة إلى الحماية. ويمثّل مهادا مناسبا للتدخّل الأجنبي الذي يكيّف خطابه حسب الوضعيات. فهو " مطمئن " حينا و" معبّر عن الدعم والحماية " حينا آخر ومتدخّل تدخّلا سافرا بالأوامر الصريحة أو العقاب الاقتصادي أو العسكري. ويصبح للخوف المرضي بعد ثالث هو خوف المحمي من عدم جدّية الحامي أو من غضبه حين تكون مطالبه قد تجاوزت " المعقول ". والأمثلة كثيرة على امتداد الوطن العربي. ولن تكون الأخيرة دون شكّ اقتراب البوارج الأمريكية من شواطئ لبنان حينما عجزت بعض الأطراف الموالية للغرب عن فرض خطّته السياسية، ووصول " توصيات " أو أوامر(؟) إلى وزارات الخارجيّة العربية ( كلّها أم بعضها؟) من أجل الغياب عن قمّة دمشق أو تخفيض مستوى التمثيل إلى أقصى حدّ. كيف الخروج إذن من هذا الخوف المتعدّد الأبعاد؟ ما السبيل إلى استرجاع الأنظمة العربية ثقتها بعضها في بعض باعتبار أنّ ذلك شرطا ضروريّا لانفتاح مسالك الحوار والتعاون والتخطيط المشترك؟ ما السبيل إلى عودة الأنظمة إلى شعبها والاعتزاز به والاستقواء بقواه الحيّة أمام كلّ محاولة إذلال وفرض شروط خارجيّة؟ يتبع المصدر :