حقق رئيس الوزراء السابق سيلفيو برلسكوني فوزاً حاسماً في الانتخابات العامة التي جرت منتصف نيسان/أبريل، ما يوفر للملياردير “الكافالييره” البالغ من العمر 72 سنة الوصول للمرّة الثالثة إلى رئاسة مجلس الوزراء الإيطالي . وكان برلسكوني مديناً بهذا الانتصار إلى إخفاق الحكومة السابقة برئاسة رومانو برودي وإلى غياب قوّة تجديد حقيقيّة، أكثر منه إلى جهود أنصاره . تقوم مفخرة البرلسكونية على كسر الرقم القياسي في الدوام على السلطة طوال تاريخ الجمهورية . أي أكثر من 1800 يوم من أجل إنجاز “العقد” الشهير مع الإيطاليين الذي تقدّم به برلسكوني من على شاشة التلفزيون خلال حملته الانتخابية في العام 2001 . وكان تعهّد فيه بتحقيق أهداف خمسة: خفض الضرائب والرسوم، والحدّ من الجنوح تحسيناً لأمن المواطنين، ورفع تعويضات التقاعد بجعل الحدّ الأدنى مليون لير (520 يورو)، وخفض البطالة إلى النصف عبر إيجاد مليون ونصف المليون فرصة عمل جديدة وإنجاز أربعين في المائة من خطّة عشريّة للمشاريع الكبرى . وإذا ما عجز “الكافالييره” عن تحقيق أربعة من هذه الأهداف فإنه كان قد تعهّد بعدم الترشّح مجدّداً . لكنه ترشح مجددا وفاز في الانتخابات الأخيرة . وحسب التقرير الصادر عن منظمة التعاون والتنمية الأوروبية، فإن النمو في إيطاليا يكاد يصل إلى نحو 0،1% من الناتج المحلي الإجمالي للمواطن خلال المدة الفاصلة بين 2001 و،2006 مقابل معدل وسطي بنحو 1،3% لبقية أوروبا ال ،15 وبذلك تسير إيطاليا في مؤخرة البلدان الصناعية . بيد أن شبه الركود الاقتصادي هذا ليس متجانسا، حسب خبراء المنظمة، من جراء “الاختلاف العميق بين الشمال والجنوب” . فالهوة بين الشمال والجنوب ما انفكت تتعمق . وتلك هي “الخصوصية الايطالية”، التي أعطاها الفيلسوف الإيطالي غرامشي أهمية معينة، ولاسيما مسألة الجنوب، التي تعتبر بحق “المسألة الأزلية لإيطاليا” . والخصوصية الايطالية نابعة من طريقة الثورة البرجوازية عينها غير المكتملة والناقصة، ومن الضعف النسبي للرأسمالية، وبالتالي ضعف القاعدة الصناعية، ومن جراء طابع التحالفات والتسويات بين برجوازية الشمال الصناعية، وكبار ملاك الأراضي والبرجوازية المتوسطة في الجنوب، التي ولدت في سيرورة تطورها اللاحق تطوراً غير متكافىء للرأسمالية . وأصبحت المفارقة في المجتمع الإيطالي تتمثل في وجود الشمال الصناعي، الذي هو بمنزلة مدينة صناعية كبرى ومتقدمة، ويلعب دور المتروبول الرأسمالي، وفي بقاء الجنوب الفلاحي متأخراً تاريخياً، والذي هو بمنزلة ريف واسع جداً، حولته سيطرة برجوازية الشمال المتحالفة مع كبار ملاكي الأراضي والبرجوازية المتوسطة إلى مستعمره مستغلة مرتبطة بالمتروبول الشمالي . في إيطاليا، هذه التي تسير بمحرك ثنائي السرعة، وذاع صيتها خلال الشهور الأخيرة بسبب تراكم القمامة في منطقة نابولي، فإن الفارق يتجه نحو التعمق . فديناميكية “محاولة اللحاق” من قبل الجنوب، الظاهرة منذ نهاية عقد التسعينات “هي الآن متجمدة بسبب تحرر السياسة الوطنية من تعهداتها منذ سنة 2002” حسب قول الخبير الاقتصادي روبرتو باسيل من معهد الدراسات والتحاليل الاقتصادية . لا تنقص الجنوب الإيطالي أوراق رابحة: هناك الفضاءات الحرة الكبيرة، بينما الشمال يدار بصورة مشتركة، وهناك ايضا اليد العاملة الكفؤة، إذ إن الدولة استثمرت في عملية التكوين المهني . ومع ذلك، لاتزال الاستثمارات الأجنبية ضعيفة: 13 يورو لكل مواطن، مقابل 292 يورو في الشمال . بكل تأكيد إيطاليا بعيدة كل البعد عن المعدل الأوروبي (800 يورو) أو معدل إيرلندا الذي يصل إلى نحو 1500 يورو . خلال السنوات الأخيرة، أقامت الشركات المتعددة الجنسية عشرة مصانع في الجنوب من أصل 48 مصنعاً أقامتها في إيطاليا، مقابل 329 في بولندا، و209 في هنغاريا . ويقول الخبير الإيطالي جيان ماريا فارنا رئيس معهد الأبحاث السياسية والاقتصادية والاجتماعية “أوريسبيس”: “لم تفهم الدولة أن الجنوب هو استراتيجي للتنمية في مجمل البلاد، وأنه لا يجوز أن تكتفي بالتصدّق عليه . يجب التفكير بمنطق نظام بلد، حيث يترتب على الشمال المساهمة في إخراج الجنوب من العناية المشددة ومساعدته على تجاوز تأخره التاريخي المزمن” . ولا يزال نموّ الناتج المحلّي الإجمالي ضعيفاً جداً . والإنتاج الصناعي تراجع بقوّة منذ وصول برلسكوني إلى السلطة في العام 2001 مع تدنٍ أيضاً في إنتاجيّة العمل . حتى السيدة لوكا كورديرو دي مونتيزيمولو، رئيسية منظّمة أرباب العمل “كونفندوستريا” التي دعمت في العام 2001 زعيم اليمين، فقد أعلنت أنه “يجب إعادة بناء إيطاليا”، لا سيّما أنّ وضع الاقتصاد في حالة “دراماتيكية” . فإيطاليا تتحمّل ثالث أكبر حجم للدّين العام في العالم يتجاوز ال 1500 مليار يورو، والمُقلق في هذا الرقم أنّه يتجاوز نسبة 106% من الناتج المحلّي الإجمالي وقد وصل إلى 109% في العام 2006 . أمّا العجز في الموازنة فقد تتجاوز ال 4% هذا العام . بذلك تفقد ايطاليا المصداقية الاقتصادية والمالية، ولاسيما وأنّ هذه الأرقام تترافق مع فضيحة التلاعب بحسابات شركة الموادّ الغذائية، “برمالات” . وفعلاً نجحت حكومة برودي في تحسين وضع الخزينة العامة، خصوصاً بفضل معركة حازمة ضدّ التهرّب الضريبي، لكنها لم تستطع تفادي زيادة الفوارق الاجتماعية . وتقطّعت أوصال المجتمع الإيطالي لدرجة أنّه أصبح أشبه “بوحلة خانقة”، وهو يتميّز بحالة استياء عامّة من العمل السياسي ومن إمكانية تغيير الأمور . فبعد خمسة عشر عاماً على ال”تانجنتوبولي”، لا يزال عجز الطبقة السياسيّة والعودة إلى أشكال الفساد يفتك بالفكر المواطني . وقد انفجرت مسألة اجتماعية جديدة نتيجة إلقاء شرائح واسعة من الشبيبة في أوضاعٍ هشّة، بعدما تفاقمت الأمور نتيجة عشر سنوات من تجميد معدّلات الأجور ومعاشات التقاعد؛ في حين يتبيّن أنّ التضخّم الفعلي، وخصوصاً بالنسبة إلى الضرورات الأساسيّة، هو أكبر بمرّتين مما تشير إليه الإحصاءات الرسمية . *كاتب وباحث اقتصادي