تعتبر العلاقات الثقافية والإجتماعية والإقتصادية والسياسية بين البلدان التي تقع على ضفتي البحر الأبيض المتوسط الشمالية والجنوبية قديمة قدم التاريخ، نظراً لكون حوض المتوسط كان مهداً للديانات والحضارات الكبرى، وكذلك مركزاً للعالم حتى فترة تاريخية قريبة جداً. فحوض البحر الأبيض المتوسط يضم بلاد المغرب العربي التي تعيش حزمة من الأزمات، وبلاد المشرق العربي، والشرق الأدنى التي تعيش أزمة هوية، و لاسيما مع بروز الدعوة الإسرائيلية والأمريكية لاقامة السوق الشرق أوسطية، والنظام الإقليمي الشرق أوسطي، والتي تجد من يؤيدها على الصعيد العربي، على الرغم من أن السوق الشرق أوسطية تعتبر بديلاً لمشروع الوحدة الاقتصادية العربية ، وتتطلب فيما تتطلب أساساً القبول بإسرائيل كشريك للدول العربية. وكانت السياسة المتوسطية الأوروبية منذ توقيع معاهدة روما المنشئة للمجموعة الأوروبية وحتى عام 1990 وهو العام الذي شهد إعلان الجماعة الأوروبية عن تبنيها "سياسة متوسطية جديدة قد مرت بثلاث مراحل متميزة. ففي مرحلة الستينات (1958-1974) هيمنت الاتفاقيات الثنائية بين بلدان السوق الأوروبية المشتركة وكل من تونسوالجزائر والمغرب، بدون أي اعتبار للبعد الاقليمي. واتسمت هذه الاتفاقيات بالطابع التجاري البحت. أما المرحلة الثانية، وهي مرحلة السبعينيات والثمانينيات(1977-1990)، فقد شهدت عقد إتفاقيات بين المجموعة الأوروبية والدول العربية المتوسطية المغاربية منها والمشرقية. وعبرت المجموعة الأوروبية خلال فترة السبعينات والثمانينات عن سياستها الشاملة تجاه منطقة البحر المتوسط بآليتين أساسيتين هما: أ-سياسة المساعدة المالية في شكل قروض مقدمة من البنك الأوروبي للإستثمار أو من خلال ميزانية الجماعة الإقتصادية الأوروبية ذاتها. ب-آلية الحوار العربي- الأوروبي (1974- 1992), ذلك الحوار الذي جرى ودار على مستويات وزراء ودبلوماسيين من الطرفين العربي والأوروبي. فبعد الإنتصار المصري والعربي في حرب أكتوبر وإستشعار الجماعة الأوروبية لأهمية هذه المنطقة بدأ في إعادة تنظيم علاقاته بالدول العربية في إطار سياسة شاملة لتنمية المنطقة وضمان أمنها وإستقرارها. وعلينا أن نعترف أن السياسة المتوسطية للإتحاد الأوروبي لم تكن متجانسة ولا موحدة، بسبب ظهور عدة إتجاهات في داخلها تدعو دول الإتحاد الأوروبي إلى التوجه خارج منطقة البحر الأبيض المتوسط. فهناك أولاً النزعة الأطلسية المتفاقمة لدى الدول الشمالية الأنكلوساكسونية التي تدعو إلى تحرير أكبر للتجارة مع الولاياتالمتحدة. وهناك ثانياً السياسة الألمانية المتجهة نحو أوروبا الشرقية بحكم كونها تمثل مداها الحيوي الإستراتيجي، و لاسيما بعد سقوط جدار برلين في عام 1989، ثم إنهيار الإتحاد السوفيتي في عام 1991، وإنتهاء القطبية الثنائية في العالم، مما قلب الظروف الجيو سياسية والإستراتيجية في أوروبا رأسا على عقب. وهناك ثالثاً : النزعة الأميريكية اللاتينية التي تمثلت مؤخراً في إبرام إتفاقية تخلق منطقة تجارة حرة بين دول المجموعة الخمس عشرة ومجموعة المركوسور (Mercosur ) التي تضم (البرازيل، والأرجنتين، وأوراجواي، وباراغواي ). وسوف تخلق هذه الإتفاقية أكبر منطقة تجارية في العالم. وهناك رابعاً التكتل الإقتصادي في الباسيفيكي الذي يضم الدول الآسيوية المطلة على المحيط الهادي، ومنطقة جنوب شرق آسيا، وأعضاء إتفاقية النافتا الثلاثة (كنداوالولاياتالمتحدة الأميركية والمكسيك) إضافة إلى التشيلي والصين وهونغ كونغ وهو تكتل يمتلك إمكانيات ضخمة في المجالات الإقتصادية والمالية والتجارية، وأصبح مركز استقطاب للولايات المتحدة الأميريكية ولدول الإتحاد الأوروبي على حد سواء . وقدأسرعت عوامل عديدة ، منها:عالمية التجارة، وتحرير نظام العلاقات الدولية، في توعية أوروبا تدريجياً، و إقناعها بأهمية إلتزامها الجديد في حوض البحر الأبيض المتوسط بإعتباره عاملاً ضرورياً لإستقرارها الخاص، وفرصة لمد نفوذها في الوقت عينه. و شكلت أيضا متغيرات دولية وإقليمية كبيرة دافعاً قوياً لإقناع مجموعة دول الإتحاد بأن أوروبا لايمكن لها أن تبني مستقبلها بتجاهل جنوب المتوسط. ومن هذه المتغيرات، حرب الخليج الثانية وإسقاطاتها المدمرة عربياً وعالمياً، لجهة هيمنة الولاياتالمتحدة الأميركية على منابع النفط،. لقد عكست هذه الخلافات بين ضفتي الأطلسي آثارها على المواجهة حول حوض المتوسط, ومن هنا كانت الدعوة للمتوسطية الجديدة تعبيرا عن رغبة أوروبا في جعل (المتوسط) بحرا أوروبيا لا بحرا لأمريكا. وتجسدت هذه الرؤية الأوروبية في فرنسا بعد وصول الديغوليين إلى السلطة فيها. فكان الطرح المتوسطي الأوروبي رداً على إصرار الولاياتالمتحدةالأمريكية على الإنفراد بمقدرات الشرق الأوسط, وهو الذي يتجلى بوضوح منذ أزمة الخليج الثانية.. وأخيرا هناك التحديات الإقليمية التي تتمثل في مجموعة المخاطر والتهديدات الأمنية التي باتت تهدد الأمن الأوروبي, وهي في معظمها قادمة من الجنوب الذي يشمل جنوب وشرق المتوسط, وأهم تلك التحديات: -تصاعد المد الإسلامي الأصولي في البلدان العربية المتوسطية،إذ إن نظرة الغرب للإسلام لا زالت ترى أن الإسلام يعني الأصولية , وهذه الأخيرة تعني الإرهاب. -استمرار تدفق المهاجرين غير الشرعيين من شمال إفريقيا إلى أوروبا, إذ تعتبر أوروبا أن النمو الديمغرافي المغاربي، وتزايد الهجرة غير الشرعية ، وتصاعد الأصولية الإسلامية ( Islamisme ) في البلدان المغاربية وفي العالم، وغياب سياسة أوروبية موحدة، وتضاربها تجاه بعض أزمات المنطقة، من أكبر التحديات التي تواجه دول الاتحاد الأوروبي. من وجهة نظر أوروبا، البحر المتوسط منطقة متكونة من عدة مجتمعات عرضة لتغيرات، وتحتوي على مشاكل مقلقة وكبيرة، والحال هذه، فإن البحر المتوسط لا يمكن له أن يكون جداراً يفصل بين ضفتيه، بل إنه يمثل مسرحا تظهر فيه الإنفساخات على مستويين : الأول بإعتباره منطقة متعددة في كافة المجالات الإقتصادية والإجتماعية والإيديولوجية والثقافية والأمنية والإستراتيجية، بوصفها ثمرة لعلاقات تاريخية، إضافة إلى أن المنطق العالمي للإندماج الإقليمي ومتطلبات العولمة يشكلان سبباً قوياً آخر. والثاني : الإنفساخات التي تشق المجتمعات من الداخل، حيث أن المسائل السياسية والثقافية تثير إهتماماً متزايداً في أوروبا. فدول جنوب المتوسط ليست متجانسة في إختياراتها الإقتصادية – الإجتماعية والسياسية، وتمثل كل واحدة منها ثقلاً معيناً ومختلفاً بالنسبة للشركاء الأوروبيين. فهناك دول مثل تونس والمغرب والاردن ولبنان وتركيا، تنتهج خيار الليبرالية الإقتصادية في إطار الإنفتاح الكامل على السوق الرأسمالية العالمية، حيث أن هياكلها الإقتصادية مهيأة لقواعد اللعبة الجديدة التي تطرحها أوروبا. وهناك أيضاً دول مثل الجزائر، وليبيا، ومصر، وسوريا، على الرغم من الإصلاحات الإقتصادية التي قامت بها لجهة تدعيم التحرير الإقتصادي والسماح للسوق الحرة والقطاع الخاص، وللإستثمار الأجنبي، إلا أن فكرة تدخل الدولة في المجال الإقتصادي في هذه البلدان لا زالت طاغية بدرجات متفاوتة. وهناك ثالثاُ إسرائيل التي تشكل حالة استثنائية في جنوب المتوسط . إن الاتحاد من أجل المتوسط ضم إليه الرئيس ساركوزي بلدان أوروبا المتوسطية وأضاف إليها مجموع بلدان الإتحاد الأوروبي. واعتبر ذلك حقا له ليس بإمكان أحد مراجعته فيه- أي حق إعتبار أنفسهم ذوي مصالح مشتركة وتطور مستقبل مشترك- مع أننا نعلم أن بعض الأوروبيين من داخل بلدانهم ينتقدون المشروع في صياغته الحالية، مثل ألمانيا ، و اليونان. بالنسبة لأوروبا، يشكل البحر المتوسط فضاء توسعها الطبيعي لديناميكيتها الإقتصادية والتجارية، وبالتي فهي المنطقة مع أوروبا الشرقية، التي تمكنها من توطيد محيطها، من أجل ضمان وسائل نجاحها في المنافسة الدولية مع التكتلات الإقتصادية العملاقة. لكن ما يقلق أوروبا هي الأوضاع السياسية والإجتماعية الداخلية في دول جنوب حوض البحر المتوسط، التي تقدم لنا صورة متباينة. و هكذا يبدو مشروع الاتحاد من أجل المتوسط مجرد اتفاق "دفاع" وحماية للإتحاد الأوروبي ضد كل "الفيضانات "الإجتماعية والسياسية والإقتصادية لبلدان الضفة الجنوبية المتوسطية, فضلا عن أنه يتطلب تغييرات جذرية في البنيات الاقتصادية والسياسية للدول العربية المتوسطية المعنية، لكي تستجيب إلى نداء أوروبا . فهناك دول الاتحاد الأوروبي التي تمثل أنظمة اقتصادية واجتماعية ومالية وتكنو لوجية متطورة وعملاقة، وهناك الكيانات العربية المتوسطية المنعزلة التي تمثل أنظمة اقتصادية » صغيرة « أو ناشئة على أفضل تقدير. إذا فخلق مناطق تجارة حرة بشكلها الكلاسيكي بين دول شمال المتوسط ودول جنوبه، سوف يقود إلى عدم التوازن وعدم المساواة في العلاقات الاقتصادية والتجارية بين الطرفين، لأن حركة التجارة ستكون على حساب » الصغار « وستكون لمصلحة » الكبار «. وإضافة إلى ذلك فحرية التجارة سوف تقتصر على بعد واحد، لأن الإتحاد الأوروبي يرفض بشدة إدخال المنتجات الزراعية المغربية والتونسية والسورية والمصرية إلى البلدان الأوروبية الأعضاء. إن الشرط الضروري لنجاح مشروع الاتحاد من أجل المتوسط أن يكون مقترناً بعملية التنمية للبلدان العربية , وأية تنمية حقيقية يجب أن تكون مقترنة بعملية ديمقراطية حقيقية. ولا تتحقق هذه التنمية بمجرد التعويض النسبي عن آثار فتح الأسواق فيها دون قيود.كما أنه يجب على العالم العربي أن يتصور أشكالا من الشراكة قادرة على على النفاذ لأسواق المراكز المتقدمة من خلال امتلاك القدرة على التصنيع والتخليق الذاتي, وهي في أولى مراحل تكونها التاريخي, وعلى تعزيز قدراتها في التصدي والمقاومة ضد الأشكال الجديدة التي يتميز بها الإستقطاب في النظام العالمي الجديد. وتتباين الثقافات السياسية وأساليب الحكم والقيم من أقاصي منطقة المغرب العربي إلى أقاصي المشرق والشرق الأدنى المطل على حوض البحر المتوسط. فإذا كانت دول الاتحاد الأوروبي قد أخذت بمبدأ الديمقراطية في ثقافتها السياسية منذ زمن بعيد، فان دول جنوب المتوسط العربية ، تشكل استثناء في ذلك، لجهة افتقارها عموماً إلى خبرة سابقة في ممارسة الديمقراطية، كما أن أغلبها ليس فيه إلا القليل من إمكانية الانتقال حتى إلى نسبة الديمقراطية. والحال هذه كيف يمكن أن تكون هناك شراكة حقيقية متكافئة في منطقة البحر المتوسط، في ظل وجود أنظمة ديمقراطية راسخة على الضفة الشمالية، في حين تسود في الضفة الجنوبية أنظمة مازالت تحركها نحو الديمقراطية ناشئ وبطيء، ويظل إنفتاحها السياسي خاضعاً للسيطرة وقائماً على استراتيجية ميكيافيلية تمزج بين » الليبرالية المتحكمة «، وجني ثمار الخصخصة والليبرالية الاقتصادية . * كاتب تونسي