إذا كان العدوان الصهيوني على غزة أدى إلى توحيد موقف الشارع العربي من إسرائيل، فإن السؤال الذي يطرحه المحللون هل يستطيع هذا الشارع العربي أن يفرض إرادته ليتحول إلى داعم فعلي وكفاحي للقضية الفلسطينية، وبالتالي يرفض الاختيار بين المظاهرات التنفيسية عن الاحتقان الشعوري والغضب، وبين الصمت خلف التلفزيونات ؟ مع تفاقم الحرب العدوانية الصهيونية على غزة إلى حدها الأقصى، لاسيما بعد أن اعتلى سدة الحكم في الكيان الصهيوني مجموعة من أكثر الصهاينة إرهابا وتطرفا، وبعد أن بات التفوق الأميركي ساحقا، والهيمنة الأميركية مطلقة عقب أحداث 11 أيلول، إذ إن الذي سيعادي الولاياتالمتحدة الأميركية والكيان الصهيوني سيجد نفسه وحيدا أمامهما دون أي حليف بجانبه، أصبح مفهوم «الشارع العربي» يخدم حاجات الدول العربية نفسها وقسما من أوروبا، التي في نظرها يشكل الشارع آخر متراس في مواجهة المخططات الأميركية الصهيونية. لقد أثبتت التجربة التاريخية المعاصرة القريبة منا زمنيا، والحاضرة في وعينا ووجداننا، أن التحرك الفعلي والمتبقي للشارع العربي، يتقدم بتوافر شرطين أساسيين ضروريين: أولهما وجود دول وطنية تكون هي جنين دولة قومية أو دولة قومية بالقوة، يمكن أن تصبح كذلك بالفعل عند توافر الشروط الذاتية والموضوعية اللازمة، وثانيهما نمو الحركة الشعبية في مناخ الحرية الفكرية والسياسية. فلم تتبلور ملامح المشروع العربي الديمقراطي المناهض للإمبريالية الأميركية وللكيان الصهيوني واقعيا وجديا، إلا في ظل نمو هذه الحركة التي ركبت موجها الأحزاب السياسية، ثم ما لبثت أن خذلتها إن لم نقل خانتها. فالتاريخ السياسي العربي منذ سقوط الإمبراطورية العثمانية، وبعد رحيل الاستعمار الفرنسي والبريطاني عن معظم الأقطار العربية، وبعد هزيمة حزيران 1967، وبعد حرب تشرين التي استخدم فيها العرب سلاح النفط لأول مرة، وبعد قيام الثورة الإيرانية عام 1979 التي بشرت في بدايتها بالتحرير في العالمين العربي والإسلامي، بوصفه وسيلة حقيقية للتطور. وفي عام 1991 حين تضافرت هزيمة العراق، هذا التاريخ السياسي الداخلي للأمة العربية، والتاريخ المعوق بالضغوط الاستعمارية والإمبريالية ولا سيما الأميركية منها، وبالاحتلال الاستيطاني الصهيوني، والسياق الفكري المتغير في الغرب، طعنا في المشروع العربي التحرري من بعض النواحي. وليست ظاهرة الصمت السائدة في «الشارع العربي» السمة العامة السائدة، (بصرف النظر عن الهبات الموسمية التي تظهر مع كل انطلاق لمسلسل العدوان الإمبريالي الصهيوني المذل والمدمر والتي سرعان ما تنطفئ)، وعملية التهميش المضاعف الذي يتعرض لها الرأي العام العربي، والقوى السياسية. في ظل الرأسمالية المتوحشة الأميركية ونفوذها في المنطقة والتي عملت في كل مكان إلى تقليص مساحة الحرية ومحيط الديمقراطية، وسعت إلى ما يمكن أن يدمر جهاز أمن العولمة، سوى مظهر من مظاهر أزمة السياسة في العالم العربي. فمن جهة، ليس الاضطهاد، ومصادرة الحقوق، والديكتاتورية، والعدوان والتدخل العسكري من امتياز الدول الخارجية، لكي نلقي بالمسؤولية على عاتق الإمبريالية والعدو الصهيوني لوحدهما فحسب. ف«الشارع العربي» في هذا الإحساس، هو الفاعل السياسي المثالي، وهو بامتياز غير قابل للحجز أو الموت السياسي، أمام تفاقم التهديد لحقوق الإنسان، والعدوان الإمبريالي الأميركي والصهيوني الخارجي. فهو يمثل في آن معا الاستقالة والاعتزال عن السياسة في مواجهة الخمول السائد والحالة الانتظارية المتجددة بلا انقطاع. عندما تخور الدولة والمجتمع في العالم العربي، وتخور بالدرجة الأولى المدينة العربية وتتحول إلى صحراء قاحلة، في مثل هذه الحالة: هل تستطيع الجماهير العربية استعادة ثقتها بنفسها، وفرض خياراتها الوطنية والقومية؟ كاتب تونسي