: سنة 1992 وقبيل عيد الفطر بأسبوعين تقريبا , اضطررت في ظروف قهرية الى مغادرة تراب أغلى وطن..., لم نكن يومها من أثرياء البلد ولامن علية القوم حتى تصحبنا أموال سائلة أوحسابات جارية , بل صحبتنا دعوات الوالدين وقبلات بعض الأحبة الذين تحسروا على فراق كان بمثابة السيف الذي يسبق العذل... 18 سنة مرت على ذلكم التاريخ .., 18 سنة توفي فيها من توفي من الأهل وعاش فيها اخرون مكابدات واكراهات حقبة انطبعت في أذهان التونسيين والتونسيات بسنوات الجمر... 18 سنة كانت كافية من زاوية نظرية وعملية لطي سجل سياسي قاسي عرفته تونس بعد أن استحال الحوار بين النخب الى حرب ضروس استخدم فيها الأمن وسيلة لقمع تطلعات مجتمع نحو التحديث السياسي والدمقرطة وترسيخ أركان دولة القانون والمؤسسات .. أفرغت الشعارات الجميلة من مضمونها , وبات اختطاف الألوان والاستيلاء عليها المنطق الذي يغلب على خطاب المنتصر في معارك القوة لا الفعل... وخسرت تونس بذلك نخبة شابة مبدعة تم التعامل معها بأسلوب العدو في حروب بالوكالة عن الاخر الاقليمي أو الدولي... تلك النخبة الرائعة التي عرفها الوطن في جامعاته حقبة الثمانينات وحتى في حراكه التلمذي في نفس العشرية أو العشرية التي سبقتها .., تحولت فجأة الى عدو استراتيجي لدود, لتستباح قصة التكيل بها سجنا ونفيا وتعذيبا بدواعي الحفاظ على النظام العام ... حرب بالوكالة عن الاخر الأجنبي انتهت الى حصاد عشرات الالاف من سجناء الرأي والالاف من المهجرين.., وكانت النتيجة تكشف عورة دولة الاستقلال .. ليصبح الاستقلال مجرد رمز تاريخي انسحب بموجبه عساكر وعتاد واستعيض عنهما بمنظومة أفكار اقصائية محملة في رؤوس طبقة حاكمة , حاكت منظومة الاستعمار في التعامل مع رموز الحركة التحررية الوطنية عبر استخدام أساليب اخصاء أحلام الكرامة والحرية ودولة حقوق المواطنة... عادت فرنسا الى فرنسا , وقدم تونسيون من فرنسا ليقودوا تجربة دولة الاستقلال ..وتبين لنا بعد أكثر من خمسين سنة أن الاستقلال لم يكن الا جزء من مشروع دولة كبرى مازالت تنظر الينا من زاوية المجال الحيوي أو الحديقة الخلفية... ربما كان من سوء حظنا أن يكون الاستعمار فرنسيا وليس بريطانيا ..برغم بشاعة الاستعمار بمختلف ألوانه وأشكاله ..., اذ أن عيب فرنسا كان بلا شك في روحها الأبوية الثقافية حتى بعد حصول حالة الفطام ! ماذا لو رفعت فرنسا الرسمية يدها عن الاستبداد والتسلط وتركت لشعوب المنطقة ترتيب أولويات الكرامة والحرية والعدالة في مقابل مقايضة مغشوشة ترتكز على ثلاثية الخبز والماء والسكن ...؟ , وهو ماأفسح لاطلاق أيادي بعض الأنظمة في قمع الانتلجنسيا المغاربية والنخب المتطلعة الى ارساء حالة ديمقراطية ناهضة تحترم ارادة الشعوب وكرامتها وسيادتها على الأرض والانسان... تشكيل النخب الحاكمة ودعمها بالمال والسلاح من أجل تثبيت نماذج التسلط والاستبداد وهدر الطاقات ..هو استراتيجية لاتقل خطورة عن خطورة الاستعمار المباشر .., بل ان النموذج الثاني يعتبر الأكثر خطورة على مستقبل ومصير الشعوب وقدرتها المتجددة على توليد شروط النهضة والابداع... لنا بلاشك دليل على مصير الصومال وأفغانستان ودول جنوب الاتحاد السوفياتي السابق بعد تكشف عورات الدب الروسي..اذ غدى حال هذه البلدان نذير شؤم على أمن القرن الافريقي و الخاصرة الروسية في وقت لاحق...والسبب بلا شك هو اتخاذ قوى دولية لبعض المحاور الجيوسياسية حديقة خلفية لتفصيل الألبسة والمقاسات بحسب الأهواء والمصالح في هذه العاصمة أو تلك... كانت تونس ولاتزال دولة صغيرة المساحة جغرافيا ومحدودة النمو ديمغرافيا غير أنها كبيرة الارث حضاريا وثقيلة الوزن على مستوى قدرتها على توليد النخب المبدعة والذكية ... واستنادا الى هذه المعايير فان قدرتنا وطنيا على التأسيس لنموذج ديمقراطي حداثي كانت مسألة واقعية بمعايير مايتوفر لدينا من رصيد نضالي وارث مؤسساتي مدني وأهلي أضعناه في حروب ايديولوجية بالوكالة عن قوى استعمارية تريد لنا البقاء في دائرة حروب داحس والغبراء ... حين تتطاحن الأنظمة مع الشعوب , والنخب المحكومة مع النخب الحاكمة تنقلب أولويات الدولة من البناء والتشييد والمأسسة والشفافية الى أولويات تثبيت وضع المؤسسة السياسية الحاكمة على حساب قضايا التنمية والبحث العلمي والتقني والأمن الصحي والغذائي وماالى ذلك من قضايا استراتيجية تهم دول العالم الثالث بدرجة ألح ... أكثر من نصف قرن ! أكثر من نصف قرن كانت تكفينا على الصعيد الوطني والمغاربي وحتى العربي لتشييد نموذج سياسي لايقل نضجا عن ديمقراطية الهند أو وثبات النمور الاسيوية ..لاسيما في ظل مايتوفر للمنطقة من ثروات باطنية وبشرية ليست بالقليلة..., غير أن الواقع يضعنا عكس ذلك أمام أكثر نموذج سياسي رائد في تكميم الأفواه ولجم أشواق النخب الى العدل والحرية ... واقع المنطقة العربية اليوم هو أشبه مايكون ببرميل البارود القابل للانفجار , فهدف في منتخب أي فريق كرة قدم عربي قادر على نسف مباني ومنشات ومؤسسات كلفت المجموعة الوطنية أغلى مالديها ..! , بل ان الطائفية والمذهبية باتت الى جانب ثنائية العلماني والاسلامي قادرة على ادخال بلاد ذات وزن اقليمي واستراتيجي في حروب تستخدم فيها الاف 16 وراجمات الصواريخ وربما حتى طائرات الميراج والسوخوي والأواكس... الوضع العام انتقل من تثبيت تداول النخب على الأحزاب الحاكمة والبرلمانات الى تثبيت تداول النخب العائلية الضيقة على احتكار القرار وتهميش المؤسسات واحتقار صناديق الاقتراع... جامعات عربية تضخ الملايين من الخريجين سنويا وعشرهم يركبون البحر والجو بعد أن استنزفتهم عقود السفارات والبعثات الديبلوماسية الى أعرق جامعات الغرب ومراكز بحثها العلمي ... أكاد أجزم بأن ربع الجامعات الغربية يحتضن طلاب العالم العربي والاسلامي , الذين باتوا يفرون من الحديث عن تخلف محلي مخافة أن تلاحقهم أجهزة الأنظمة في جوازات سفر هي كل ماتبقى لديهم عند الحديث عن رموز السيادة الوطنية ...! غرب يعمر ويبني ويشيد ويغزو كواكب المجرة الشمسية ويقرب بين أشواق الأرض للسماء , وعالم عربي امتشق في دبي ناطحات السحاب والأبراج والجزر الصناعية ليتكشف الأمر بعد سنوات قليلة على حجم سوء التصرف والادارة الكارثيين ..لتصبح بعض ناطحات السحاب بمثابة بعض الهياكل الاسمنتية الممشوقة في سماء تعبرها عواصف غياب العقل الحكيم قبل عواصف الأزمة الاقتصادية العالمية...! وفي الأشهر الحرم نرى بعض بلاد العرب والاسلام متورطة في صراعات حدودية ومذهبية الى الحد الذي يصبح معه وجود مئات الالاف في الخيام التائهة بين الجبال والصحراء ظاهرة لاتستحق أكثر من مكانة الخبر الثانوي في نشرة أسبوعية...! عالم عربي واسلامي بات المطالب فيه بالعدل والحرية والكرامة متهما بالخيانة والعمالة وفقدان الضمير ..! , والمتعود فيه على تزييف الحقيقة وتزيين الظلم والرشى والمحسوبية ودوس حرمة القانون بطلا قوميا بكل مافي معايير البطولة من ألمعية ونجومية تملأ أسماع الثلاثمائة وخمسين مليون عربي...! لست متشائما طبعا ...ولكن دعوني أقول بصراحة أن حالة الاستقالة لدى شرائح واسعة من شعوب المنطقة ساهمت بلاشك في تراجع مكانتنا الاقليمية والدولية , بعد أن كان الوضع العربي والاسلامي في الستينات والسبعينات أكثر تماسكا مما عليه وضع المنطقة اليوم ..وأظن أن مانشهده معاصرة ومعاينة هو جزء من حالة حروب بالوكالة ضمن استراتيجية تعميم الفوضى الخلاقة وتقسيم المقسم وتمزيق الممزق تمهيدا لاعادة رسم خريطة المنطقة استنادا الى الانتماء الطائفي والديني والاصطفاف الايديولوجي والولاء للقبيلة والعشيرة والعائلة كبدائل عن الانتماء للوطن بمفهومه الجامع والكبير... كتبه مرسل الكسيبي بتاريخ 29 نوفمبر 2009 - 12 ذو الحجة 1430 ه *